حتى البحر يموت

نص

حتى البحر يموت
TT

حتى البحر يموت

حتى البحر يموت

كافيه «السلسلة» هو المقهى الوحيد الذي يطلّ على شاطئ الإسكندرية ويظهر فيه البحر ممتداً، شاسعاً، لا نهائياً. لكن القرب من البحر في الصباح الأول يصيبنا بنوع من الجنون المحبب، يشبه في بعض وجوهه زيارة المتاحف والمقابر، ويسكننا عندها ذهول يُقارب الانخطاف فنبدو مثل أشخاص مسحورين. أحفظُ هذه الكلمات لأمين معلوف:

«لو ُغلقتْ الأبواب أمامك فأبحر على متن سفينة، لأن هناك مدينة تنتظرك».

عضّني قلبي وأنا أردّد هذا الكلام. هل الإسكندرية هي مكاني المأمول؟ لكني بلغتها بواسطة الطائرة والباص، وما الفرق بين الطرق الثلاثة؛ البرّ والبحر والجوّ؟ المهمّ هو أن تنفذ من بين شقوق الموت الذي سببه العجز والكآبة بأي وسيلة. يفضّل ماركيز السفر بواسطة القطار، لأن الجسد يبلغ المكان المقصود مع الروح، وفي الطائرة تتأخّر الروح عن الجسد يومين أو ثلاثة أيام، أما عن طريق البحر فإن الاثنين يصلان معاً ما إن ترتفع المرساة.

جلستُ نحو ساعة وتناولتُ فطوري، ثم قمتُ أتمشّى على الكورنيش، والسماء أخذت ترشّ ألوانها على الموج وهو يعلو، ويتحدر، ثم يتكسّر، كأنه مرآة عظيمة تتحطم إلى شظايا تذوب مباشرة في الرمل. كم يبدو مسحوراً هذا الكهل الذي يدير ظهره إلى البحر ويغطي عينيه بنظارة سوداء، ويدخّن؟ امرأة تشغل يديها بأعمال الحياكة وتشرب العصير وتأكل الجبس، وتُدير ظهرها إلى البحر هي الأخرى. أما أكثر الذين صادفتهم انخطافاً فهي عجوز ترتدي ثوباً رمادياً غامقاً مع زنّارٍ أزرق، وتسبّح بمسبحة تتدلّى إلى الأرض. كأن هؤلاء الثلاثة نقلوا لي انعكاسات قديمة لأشخاص عاشوا في الماضي، وانقرضوا، وأعادهم البحر إلى الحياة في هذا الزمان. إنهم يديرون وجوههم عن البحر كي لا يبصروا في البعيد صورهم الأولى. إخفاء حقيقي لوميض الشهوة في العينين إلى الماضي، خصوصاً الكهل بنظارتيه المعتمتين. ها هو يأخذ نفساً عميقاً من سيجارته، ويحدّق في خيلاء إلى جدار المبنى المقابل، في الجهة الأخرى من البحر. ربما كانت العجوز ذات الزنّار والمسبحة تعيش قبل آلاف السنين بصورة كاهنة في معبد فرعوني أو هيليني، كلّ شيء جائز في هذه الحياة العجيبة، ولو عدنا إلى مثل هذا اليوم من عام 2024 قبل الميلاد، فمن المحتمل أننا نجد المرأة التي تجلس على المسنّاة وتحوك كنزة لزوجها كانت أميرة هذه البلاد، وتملك مئات العاملين والعاملات العبيد يطرّزون لها بدلة العيد السعيد. إنه افتراض لا غير، والمنطق والعقل السليم لا يحاسبان أحداً أن يذهب بعيداً في خياله، ما زال يسكن خارج أسوار مستشفى المجانين.

عندما غابت الشمس في المساء قلّ وهج البحر، وصار له لون الفولاذ المغسول والمترع بالقوة. كان يعبر السماء في تلك اللحظة سربٌ من طيور مهاجرة يأخذ شكل سهم. من هو الرامي، وما هو الهدف؟ في المدن البحرية تأخذ شوارعها، وحتى البعيدة منها، رائحة البحر التي تجعل سكانها يختلفون في النكهة وفي الطباع عن البقيّة، حتى يمكن القول إنهم كائنات بحرية من كثر ما جاوروا البحر. عندما آويتُ إلى فراشي في التاسعة مساء كنت أفكّر في أمر الرجل ذي النظّارتين السوداوين، وكيف كان يعيش قبل خمسة آلاف عام.

أول مرة رأيت فيها البحر كانت في باكو. ما زلت أذكر كيف أثارت تلك النظرة لدي حاسة الشمّ، وأخذت أشاهد الماضي كله مجتمعاً، لأني كنت أشمّه. جميع الذين عاشوا في السابق، أجيال وأجيال، أسلافي وأجداد غيري من البشر، وجميع المباني التي اندثرت، والحدائق، وكذلك الغيوم التي عبرت سماء تلك القرون القصيّة... كلّ ذلك صار أمامي في لوحة واحدة؛ هي صورة البحر. كيف يمكن مجاورة العين مع الأنف في مقاربة التجربة، فيعمل هذا، وتأخذ البصيرة ناتج العمل؟ لا أستطيع شرح الأمر، لكنه حدث بالفعل، وصار أن ظلّ يتكرّر معي كلما شاهدتُ أمواج البحر التي تموت وتحيا وتموت، كأنها الحياة القديمة تعود إليها الحياة بعد أن ماتت.

الخلود للنوم في وقت مبكّر هو مفتاح السعادة، فهو يضمن لك الاستيقاظ مع الطير الأول، والوقوف على معجزة الخَلق. إن السير على غير هدى لا يقود أبداً إلى نتائج حسنة، ومتى يتعلّم الإنسان أن مبلغ السعادة لا يكمن في الاسترخاء والراحة ولعب البوكر والشرب وممارسة الجنس، كلّ هذا في وقت واحد؟ لا أدري أين قرأت هذا، أم أنه من تأليفي: «علينا أن نكون أطفالاً أبداً، لا صبيانيين». أسندتُ أذني إلى ظلام الوسادة الناعم، وكان وجه العجوز ذات المسبحة يختفي في ظلام الغرفة، ويظهر من نقطة في أفوله، كأن شعاعاً ضئيلاً من شرنقة تحيط بالوجه.

لكني لا أستطيع النوم وأنا أسمع هدير الموج قريباً من غرفتي في الفندق، يهدر ويزبد. «حتى البحر يموت» يقول لوركا، وكان عليه أن يستثني بحر الإسكندريّة. نهضتُ وأغلقتُ النافذة والأباجور كي لا يصلني صخب الشارع والبحر. يمكن للرياح القويّة أن تكون تذكاراً، وكم هو شعور بالراحة ذلك الذي يبعثه تحقيق حنين ما. كانت أمي تطفئ الضوء في غرفة نومي ويحلّ عندها صمت وحيد وعميق، تزيد من حدّته الرياح التي تدفع النوافذ والجدران تريد أن تخرقها دون كلل. ثم ترتفع شيئاً فشيئاً أغنية تتردّد ألحانها مع قمر النخيل الذي يعبر حديقتنا ونافذة غرفتي. إن نبحتِ الكلابُ، فليست علامة على أنك يجب أن تركض ممتطياً فرسك. أين قرأت هذه الجملة؟

لو أني سُئلتُ عمّا تمتاز به مدينتي (العمارة) عن غيرها لأجبت فوراً هي الرياح القويّة في جميع الفصول، تعبرُ البساتين والأنهار من جميع الجهات. تغلق أمي الباب، ويغمرني شعور بأن الريح ابتعدت إكراماً لأمي، وهذه ميزة بيتنا عن بقية بيوت الحيّ، والمدينة، والبلاد. كنت أصغي إلى العالم الذي كان حيّاً في الماضي في إغواء ريح جديدة، وأقلّب عيني في ظلام الغرفة واعتقدتُ أنني نمتُ واعترتني موسيقى القمر، وكانت الموسيقى تنتهي لتضيئني الأحلام. لكني لا أستطيع النوم حتى الآن، الفجر بعيد وأمي بعيدة، وما زلت أسمع صخب الموج العالي من البحر القريب. أنا أنتظر النوم، وكأني أنتظر دون انتظار شيء، ثم بدأت أفكّر بالنوم بجديّة، وعندما مات البحر في لحظة جاءت الغفوة، وكنت أتصل بالعالم المنبثق من الماضي، وكنت أعدو بين الماء والغيمة، بين النوم واليقظة، وكان البحر ناضجاً ويدور من حولي بصخوره وبسحره، خطوته عجلى، وفي يده محارة. أفتح المحارة، ويطلع لي نور، أو هالةٌ، أو نار مقدسةً كأنها تقولبت بين مصراعي صدفة محززة، وكانت ترقص في النار امرأة سوداء الجديلة عسليّة العينين، وقرصان ضخم الجثة مثل عملاق يمدّ لها سيفه، ويصرخ بها:

- قبّليه!

القرصان يزعق، ويرشّ امرأته بالخمرة المرّة، ويصاحبها في الرقص. ثم اتّجه نحو البحر بسيفه وأخذ يغنّي مثل وحش. نمتُ، وكان يهدهدني غناؤه، وملأني، مثلما يفعل الحبّ، بجوهر ثمين.

كلّ شيء في الفندق في الصباح الأول أبيض اللون، الأرض والسقف والجدران والأثاث، والشمس على شاطئ بحر الإسكندريّة هيلينيّة وجديدة في آن الوقت. هنالك خرافة تقول إن السفر يغيّر المسافرين، وهكذا وجدتُ نفسي شخصاً آخر وأنا أتناول الفطور وكان يتكوّن من جبنة وحلاوة، فرشته على الطاولة الفتاة العاملة في المطعم، مجرّد سماع صوتها يجعلك تشكّ أن صاحبته تمشي على فراش من زهور ناعمة. سالتها:

- ما اسمك؟

- مِنّة. أجابت، وكانت تبدو مشرقة أكثر بسترتها البيضاء وبنطالها الأصفر، وقبعة صغيرة حمراء تحبس شعرها كي تجعله ينطلق أكثر، ويتحرّر أكثر. كان وجهُها مصبوغاً بلون الماء وكاحلها مرسوم بالزعفران ووقع أقدامها كالزغب وهي تنتقل بين المطبخ والمطعم.

- هل أنت مسيحية؟

- بل مسلمة.

الضوء الأخضر يتقاطر من شجرة المطّاط الضخمة في نافذة المطعم. قبل أن أستفسر عن معنى الاسم فكّرت أنه «منّة الله». أبواها يملكان كلّ الحقّ في وصف هذه الدرّة، ونظرت في تلك اللحظة إلى البحر الكبير يهدر. من النساء من يمتلكن جمالاً تشعر وأنت تتأمّله بالرّهبة، كأن فيه شيئاً يعطيك قوّة نماء إضافية، تماماً مثل من ينظر إلى الجبل أو البحر أو الأعمال الفنية الجليلة الخالدة. في نشيد الإنشاد نقرأ: «مَن هي المُشرقة مثل الصباح، جميلةٌ كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبةٌ كجيشٍ بألوية». جبن أبيض ذو ثقوب صغيرة يقطر رطوبة تحت ناقوس زجاج، مع حلاوة طحينية في صحن دائري شذري اللون، مع خبز. كانت منّة تقدّم لي كلّ هذه النعمة في الصباح فطوراً سكندريّاً فريداً.



إيمانويل كانط... كتب غيَّرت خريطة الفكر البشري

كانط
كانط
TT

إيمانويل كانط... كتب غيَّرت خريطة الفكر البشري

كانط
كانط

تحتفل ألمانيا هذا العام بمرور ثلاثمائة سنة على ولادة مفكرها الأعظم: كانط. ولكن هل هو أعظم من هيغل؟ كلاهما عظيم. وسوف تقام المعارض وتنظم الندوات والمؤتمرات والمحاضرات في شتى أنحاء البلاد بهذه المناسبة. على هذا النحو تحتفل الأمم المتحضرة بعباقرتها وتفتخر بهم. يقول الباحث ميكائيل فوسيل، أستاذ الفلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية: «منظوراً إليه من فرنسا، فإن كانط هو الفيلسوف الأكبر للأنوار. لقد نوَّر أوروبا والجنس البشري كله عندما أسهم في انتصار العقل على النقل، والفلسفة المستنيرة على ظلمات الأصولية الدينية والعقلية الخرافية. ولا تزال أفكاره تهمنا حتى اللحظة: كالبحث عن السلام الدائم بين الأمم، وكبلورة قيم أخلاقية كونية تنطبق على جميع شعوب الأرض، وكالدفاع عن العقل والعقلانية دون تقديم أي تنازل للعصبيات المذهبية والهيجانات الطائفية».

كانط هو فيلسوف النقد بامتياز. كان يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بما فيها العقائد الدينية ذاتها وبخاصة عندما تتحول إلى طائفية مدمرة. لا شيء فوق النقد بمعنى التمييز والتمحيص والغربلة لا بمعنى الشتم والتجريح المجاني. هذه ليست شغلة كانط. كيف يمكن أن نفهم تراثنا المقدس من دون دراسة علمية تاريخية نقدية له، وفي الختام تقييم فلسفي؟ لهذا السبب ألَّف كانط في أواخر حياته كتابه: «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط». ولكن هذا الكتاب سبَّب له بعض المشكلات. فقد احمرَّت عليه الأعين بسبب آرائه الجريئة عن الأصولية المسيحية. ووشى به المتزمتون المتحجرون عند الإمبراطور فريدريك غيوم الثاني. معلوم أن كانط كان في أمان طيلة عهد عمه فريدريك الأكبر المدعو بالمستبد المستنير الذي كان يسمح بحرّية كبيرة في مجال نقد الانغلاقات الدينية ورجال الدين. وقد أهدى كتابه الشهير: «نقد العقل الخالص» إلى أحد وزرائه الكبار.

كان يشعر بحرِّية كاملة في التفكير والنشر والتعبير طيلة عهده. ولكن بعد موته خلفه على رأس السلطة ابن أخيه فريدريك غيوم الثاني الذي كان مستبداً ظلامياً مقرباً من الأوساط الأصولية البروتستانتية التي تملأ رحاب القصر. فهدده الإمبراطور وتوعده بعد أن سمع بآرائه الجريئة عن الدين. كان كانط يبلور تفسيراً عقلانياً للدين المسيحي. لم يكن ملحداً ولا كافراً بالقيم الإنجيلية العليا للدين. لم يكن ضد الدين كدين وإنما كان ضد الطائفية التي دمَّرت ألمانيا سابقاً. لهذا السبب اصطدم تفسيره الجديد للدين المسيحي بشكل مباشر بتفسير الأصوليين.

ولذا فالمعركة بين الطرفين كانت إجبارية ومحتومة. ولكن عندما شعر كانط بأن المقصلة قد اقتربت من رأسه تراجع قليلاً إلى الوراء بعد أن كان قد نشر بالمفرق جزءاً من كتابه الشهير. وقال للإمبراطور: «أعدكم يا جلالة الملك، كأحد رعاياكم المطيعين المخلصين، بألا أخوض في الشؤون الدينية بعد اليوم». بالطبع كانط كان يعرف في قرارة نفسه أنه سيكون في حِلٍّ من القرار إذا ما مات الملك قبله. وهذا ما حصل عام 1797 لحسن الحظ. وعندئذ أكمل الفيلسوف بحوثه المضيئة عن الدين ونور ألمانيا وكل أوروبا.

هنا نلمس لمس اليد الفرق بين المستبد المستنير والمستبد الظلامي. إنه فرق كبير جداً على عكس ما نتصور. المأمون كان مستبداً مستنيراً محبذاً للعلم والفلسفة والترجمة، على عكس المتوكل الذي جاء بعده وكان مستبداً ظلامياً يكره المعتزلة والفلاسفة ويضطهدهم. واليوم نتساءل: هل العالم العربي جاهز للديمقراطية؟ والجواب هو قطعاً: لا. العالم العربي بل الإسلامي كله بحاجة إلى مستبد مستنير وحكم رشيد، وبعدئذ تجيء الديمقراطية على مراحل تدريجية. كل شيء بوقته. بعد أن يستنير الشعب ويخرج من عباءة الأصوليين والإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين، عندئذ تصبح الديمقراطية تحصيل حاصل. لا ديمقراطية من دون فلسفة. لا ديمقراطية من دون استنارة فكرية تشمل شرائح واسعة من الشعب. هذا شيء مفروغ منه. وبالتالي كفانا شعارات ديماغوجية.

لكن لِنَعُد إلى كانط. ماذا فعل هذا الرجل؟ ماذا حقق؟ لقد حقق معجزة تقريباً. لقد أصدر عدة كتب متلاحقة غيَّرت خريطة الفكر البشري: نذكر من بينها: «نقد العقل الخالص» 1781، و«نقد العقل العملي» 1788، و«نقد ملكة الحكم أو التمييز» 1790، ثم توج كل ذلك بكتابه عن «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط» عام 1793، وأخيراً لا ينبغي أن ننسى كتابه: «لأجل السلام الدائم بين الأمم» 1795.

كانط سبق عصره بـ150 سنة على الأقل. مَن يعرف ذلك؟ كانط هو أستاذ الرئيس الأميركي الكبير وودرو ويلسون، صاحب المبادئ الشهيرة، وبخاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها. كان رئيس أميركا يرى نفسه تلميذاً صغيراً من تلامذته. لم يكن يحلف إلا باسمه. لم يكن يهتدي بعد الله إلا بهديه. الفلاسفة الكبار ليسوا كمثقفي الدرجة الثانية أو الثالثة. الفلاسفة الكبار ليسوا أشباه مثقفين يركبون الموجات الأصولية والشعبوية الغوغائية.

الفلاسفة الكبار هم كالرادارات الكاشفة: منارات العصور. إنهم يسبقون عصرهم، إنهم يرهصون بالعصور القادمة. إنهم يفكرون إلى البعيد أو بعيد البعيد. باختصار شديد: إنهم يرون إلى أبعد من أنفهم! من بين هؤلاء إيمانويل كانط وأستاذه العزيز جداً على قلبه جان جاك روسو. وهو الشخص الوحيد الذي كان يضع صورته على مكتبه لكي يستأنس بها وهو يفكر ويكتب. العباقرة يعرف بعضهم بعضاً.

من المعلوم أن الأفكار الأخلاقية والفلسفية التي بلورها كانط في كتابه «لأجل السلام الدائم بين الأمم» هي التي ألهمت تأسيس عصبة الأمم أولاً، فالأمم المتحدة ثانياً؛ أي قبل قرن ونصف من تأسيسهما. وهذا أكبر دليل على مدى تأثير الفكر في الواقع. ثم يقولون لك بعد كل ذلك: ما معنى الفلسفة؟ ما معنى الثقافة؟ ما معنى المثقفين؟ معناهم عظيم إذا كانوا مثقفين حقيقيين من أمثال كانط، من وزن كانط، من حجم كانط. الأفكار هي التي تقود العالم. نقصد الأفكار الجديدة، الأفكار المتينة، الأفكار المضيئة التي تشق ظلمات العصور.

كانط هو فيلسوف النقد بامتياز. وكان يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء

أخيراً...

يبدو أن كانط لم يعشق ولم يتزوج ولم يعرف أي امرأة في حياته. وهذا من عجائب الأمور. لقد تفرَّغ كلياً لقضية الفكر والفلسفة. وكفاه ذلك فخراً. ماذا كنا سنستفيد لو أنه أنجب عشرة أطفال؟ أمَا كان ذلك سيكون على حساب إبداع مؤلفاته الكبرى؟ أمَا كنا سنخسر كل هذه الكنوز والجواهر والإضاءات؟ نقول ذلك خصوصاً أن أولاد العباقرة نادراً أن يكونوا عباقرة. بل إنهم في معظم الأحيان يكونون أشخاصاً عاديين كبقية البشر، هذا إن لم يكونوا أقل من عاديين. ثم إنهم كانوا قد عاشوا وماتوا ولم يبقَ لهم من أثر. مَن يتذكر أبناء هيغل، أو ماركس، أو فرويد، أو تولستوي، إلخ؟ أما مؤلفاتهم العظمى فخالدة على الدهر. لا تزال كتب كانط تدرَّس في كل جامعات العالم. لا تزال تضيء لنا الطريق. أطفاله الحقيقيون هم كتبه ومؤلفاته. نقطة على السطر. ولكن للحقيقة والتاريخ يقال إنه عشق مرة إحداهن. ولكنه غطس بعدها مباشرةً في الحفر عن بعض نظرياته العويصة المعقدة. وما إن استفاق من غيبوبته الفلسفية وأراد العودة إليها حتى كانت المحروسة قد تزوجت وأنجبت الأطفال. ولكن يبدو أن السبب مادي. لعن الله الفقر. قال مرة للكثيرين الذين يُلحِّون عليه في السؤال ويُقلقونه: لماذا لم تتزوج يا أستاذ كانط؟ فأجابهم على النحو التالي لكي يتخلص من ملاحقاتهم: «عندما كنت راغباً في النساء كنت فقيراً ولا أستطيع الاضطلاع بتكاليف الحياة الزوجية. وعندما أصبحت قادراً على ذلك لم تعد لي رغبة في النساء».