دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

تتبع تقليداً جامعاً لكنها تتميز بطابع خاص

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
TT

دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين

يضم مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى المتعددة الأنواع والأحجام، منها مجسمات صُنعت من الطين المحروق وصلت بشكل مجتزأ للأسف. تتبع هذه القطع بشكل عام تقليداً جامعاً تظهر شواهده في نواحٍ عدة من ساحل الخليج العربي، غير أنها تتميز بطابع خاص يظهر في بعض عناصرها المكوّنة.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ، منها موقع مليحة الذي يقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب مدينة الذيد، وعلى بعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة الشارقة. من هذا الموقع خرجت سلسلة من القطع الفنية تشهد لتعددية مدهشة في الأساليب الفنية، تشابه تنوعها ما نراه في مواقع عدة من البحرين، كما في جزيرة فيلكا الكويتية، وموقعَي قرية الفاو وثاج في المملكة العربية السعودية.

على مقربة من قبر دائري ضخم يعود تاريخه إلى العصر البرونزي ويُعرف بضريح أم النار، افتتح في عام 2016 مركز مليحة للآثار، وشكّل هذا المركز خير دليل للتعريف بتاريخ هذه الناحية من الخليج، من خلال ما يعرضه من مقتنيات، وما يقيمه من عروض وجولات إلى المناطق الأثرية المحيطة به. يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من المجسمات الآدمية المصنوعة من الطين المحروق، تشهد لحضور هذا التقليد الفني في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تتمثل هذه المجموعة بعدد محدود من القطع التي تُعرف عادة بالدمى، لم يصل أي منها بشكل كامل للأسف.

في هذا الميدان، تبرز قطعة فقدت كما يبدو الجزء الأسفل من تكوينها، وباتت أشبه بمجسّم يحضر على شكل تمثال نصفي يبلغ طوله 13 سنتمتراً، وعرضه 13.5 سنتمتر.

يمثّل هذا المجسّم رجلاً في وضعية ثابتة، يعتمر ما يشبه قلنسوة تلتف حول رأسه على شكل عمامة مسطّحة تخلو من أي ثنية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريض، وتتحدّد ملامح وجهه الناتئة في كتلة بيضاوية ملساء. العينان حدقتان دائريتان واسعتان، تتميزان بحجمهما الضخم قياساً للأنف الذي يستقر بينهما على شكل مساحة مستطيلة مجردة، غاب عنها أي أثر للغضاريف وللمنخارين. تبدو الأذنان صغيرتين ومنمنمتين قياساً إلى العينين الضخمتين، وتتشكّل كل منهما من مساحة نصف دائرية تخلو من أي تجويف. الفم ممحو، وينحصر في شق أفقي بسيط يستقل في أسفل مساحة الأنف العمودية. الصدر مستطيل وطويل. الكتفان منحنيتان ومقوستان، والذراعان منسدلتان ومتصلتان بالصدر، وهما مبتورتان بسبب ضياع الجزء الأسفل من تكوينهما. تصل الذراع اليمنى حتى حدود المِرْفق، وتكشف عن حركة طفيفة في اتجاه الذراع اليسرى التي فقدت معصمها ويدها.

تتكرّر صورة هذا الرجل المعمم في قطعة أخرى تتميّز بوضعيّة غير مألوفة. تحضر القامة ممدّدة أفقيّاً، وهي تحني ذراعها اليمنى في اتجاه حوض الصدر، كاشفة عن مساحة فارعة تفصل بينها وبين الخاصرة. الذراع اليسرى مفقودة للأسف، وتوحي حركة البدن بأن صاحبها كان مستلقياً عليها. البدن خالٍ من أي ملامح تشريحية، وساقاه ممددتان أفقياً، مع شق غائر يفصل بينهما. القدمان مفقودتان، وتوحي حركة الركبتين الملتصقتين بأنهما كانتا ملتفتين. وصل الرأس بشكل مستقل كما يبدو، وأعيد جمعه بجسده، كما يكشف الشق الظاهر الذي يفصل العنق عن وسط الكتفين. العينان حلقتان واسعتان ناتئتان تحتلان الجزء الأكبر من مساحة الوجه الدائري، وتتميّز كلّ منهما بتجويف دائري يشير إلى بؤبؤ الحدقة. الثغر بسيط، وينحصر كذلك في شق أفقي قصير. الأذنان موازيتان للعينين، وتتكوّن كل منهما من نصف أسطوانة يتصل أعلاها بالعمامة المسطّحة التي تكلّل هامة الرأس.

يحضر هذا الوجه مستقلّاً في قطعة أخرى غابت عنها هذه القلنسوة. تحضر العينان الشاسعتان مرة أخرى، وهما هنا مسطّحتان ومحدّدتان بخط بسيط غائر. يذوب الأنف في كتلة الطين حتى الغياب، ويظهر الثغر على شكل شق هلالي أفقي يرسم ابتسامة بسيطة تضفي على الوجه طابع البراءة واللطف. شق العنق واضح، ويوحي بأن هذا الوجه يعود إلى جسد ضاع، لم يظهر منه أثر آخر إلى اليوم.

تعود هذه القطع الثلاث، بحسب أهل الاختصاص، إلى القرن الميلادي الأول، وتُشابه في تكوينها مجسّمات عُثر عليها في نواحٍ أخرى من ساحل الخليج العربي، وهي من نتاج مرحلة طويلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني الميلادي. من هذه المواقع على سبيل المثال، يحضر موقع الدفي الأثري الذي يقع في شمال مدينة الجبيل، شرق المملكة العربية السعودية. من هذا الموقع السعودي، خرجت دمية آدمية ذات رقبة عريضة وطويلة، يعلوها رأس بيضاوي حافظ على ملامحه بشكل جلي.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ

العينان قرصان دائريان كبيران يتميزان بضخامتهما، وهما ناتئان، ويحوي كل منهما قرصاً يمثّل البؤبؤ، تبعاً لطراز يماثل كما يبدو الطراز الذي اتبع في تجسيم دمية مليحة المستلقية. يعلو هاتين العينين الشاخصتين شريطان أفقيان يشكلان معاً حاجبين متصلين. عند نقطة التقاء هذين الحاجبين، ينسدل أنف عريض يفصل بين قرصي العينين، وتظهر عند أسفل هذا الأنف سمات المنخارين المحددة بشكل طفيف. الفم ناتئ، وهو مكون من شفتين واسعتين يفصل بينهما شق أفقي بسيط. الوجنتان ممتلئتان، والجبين غائب على ما يبدو، وكذلك الذقن التي تختفي عند حدود ما دون الفم، في أسفل هذا الوجه.

من جهة أخرى، تشابه دمى مليحة في تكوينها دمية أنثوية محفوظة في متحف البحرين الوطني، مصدرها موقع قلعة البحرين. فقد هذا المجسم يديه عند أعلى المرفقين، كما فقد النصف الأسفل مما يلي الحوض، وحافظ على رأسه. يحضر وجه هذا الرأس بقوة، وتتجلى هذه القوة في عينين ضخمتين جاحظتين، حُدّدت أجفان كل منهما بقوسين معاكسين غائرين. وسط كل من هاتين العينين، يظهر ثقب يختزل البؤبؤ، كما في دمية الدفي ذات الرقبة الطويلة، ودمية مليحة المستلقية.


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.