ثلاثة وجوه طينية من جزيرة فيلكا

تمثل طُرُزاً نادرة يصعب تصنيفها

ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
TT

ثلاثة وجوه طينية من جزيرة فيلكا

ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية
ثلاثة وجوه طينية وختمان منقوشان من جزيرة فيلكا الكويتية

يحتفظ متحف الكويت الوطني بمجموعة من المجسمات الطينية الأثرية، مصدرها جزيرة فيلكا التي تقع في الجهة الشمالية الغربية من الخليج العربي؛ حيث تبعد نحو عشرين كيلومتراً عن سواحل مدينة الكويت. تضم هذه المجموعة قطعاً متنوعة من حقب زمنية متعاقبة، أقدمها تلك التي تعود إلى زمن شكّلت خلاله فيلكا ركناً أساسياً من إقليم واسع امتد على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وعُرف باسم دلمون. تتعدّد هذه القطع الدلمونية من حيث الأساليب والمواضيع، فمنها ما يبدو تقليدياً، ومنها ما يمثّل طُرُزاً نادرة يصعب تصنيفها. من النوع الثاني، تبرز ثلاثة وجوه صغيرة يمثّل كل منها وجهاً ذكورياً ملتحياً.

تُقسّم جزيرة فيلكا في زمننا إدارياً إلى مجموعة من القرى؛ منها قرية منطقة القصور التي تقع في وسطها، وقرية سعيدة في الجهة الشمالية الغربية منها، وقرية الدشت في الجهة الشماليّة الشرقية منها، وقرية القرينية المطلّة على البحر. تقع أهمّ المواقع الأثرية في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، وأشهرها منطقة تُعرف باسم «تل سعد»، وأخرى تُعرف باسم «تل سعيد». وبين هذين التلّين، في منطقة منخفضة مجاورة للساحل، يقع موقع ثالث يُعرف باسم «الخان»، أو دار الضيافة. استكشفت هذه المواقع بعثة دنماركية تابعة لـ«متحف أرهوس» خلال سلسلة من مواسم التنقيب، بدأت في فبراير (شباط) 1958 وانتهت في يناير (كانون الثاني) 1963. تواصلت بعدها أعمال المسح والتنقيب، وقامت بها بعثات خارجية متعددة، من الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا.

بحسب تقرير البعثة الدنماركية، تتألّف دار الضيافة «من اثنتي عشرة غرفة، غرفتان منها في الوسط ويرجّح أنهما كانتا تؤلفان ساحة البيت، أمّا جدرانه فهي لا تزال قائمة، وهي مبنية في بعضها من الآجر المربع، من النوع المعروف في بابل، ويُرجّح أنّه استُورد منها». من هذه الدار، خرج مجسّم صغير من الطين الأصفر يبلغ طوله 5 سنتيمترات، يمثّل رأس رجل ملتحٍ يعتمر قبعة مدببة مخروطية الشكل. يأخذ هذا الرأس في تكوينه شكل ما يُعرف هندسياً بـ«المعين»، أي المكعّب المائل، ويتألف من هرمين متقابلين متصلين لدى القاعدة، عند حدود عيني الوجه وأذنيه.

أُنجز هذا المجسّم بأسلوب متقن، تجلّى في تجسيم سمات الوجه التي بدت طبيعية، رغم ذوبان ملامح العينين في الكتلة الطينية. شفتا الفم بارزتان، ويفصل بينهما شق يحدّه خطان ناتئان عند طرفي الوجنتين، مما يوحي بابتسامة خجولة ترتسم على الوجه بخفر شديد. الأذنان كبيرتان، وهما محوّرتان، وتتّخذ كل منهما شكل نصف دائرة مجوّفة. تحدّ الذقن لحية طويلة تشكل مثلثاً يحوي سلسلة من الخطوط المحفورة تمثّل خصل الشعر المتدلية. القبعة طويلة ومدببة، وهي على شكل مثلث معاكس، تزيّنه سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية تلتقي عند قمة هذه الطاقية المدببة، ويحدّه في الأسفل شريطان متساويان في الحجم.

في التقرير الخاص بالبعثة الدنماركية، قيل إن لهذا الرجل «لحية شبيهة بلحى أهل وملوك أشور، وإلى هذه الدار كان يأتي ربابنة السفن وبحارتها بعد نزولهم طلباً للراحة، وهنا كانوا يجدون الطعام والماء العذب، ويقدّمون الهدايا والنذور وهم في طريقهم إلى بلدان المشرق وعند عودتهم منها». وأضاف التقرير: «ولا يخفى أن جزيرة فيلكا كانت هي أول محطة تتوقف عندها السفن في طريقها من أور إلى جنوب الخليج الذي كان يمتد حتى المدن السومرية في جنوب العراق، أي أن المسافة أكثر مما هي عليه الآن، ما يجعل الرسو في موانئ فيلكا أمراً طبيعياً». في هذه الدار أيضاً، وُجدت كذلك «كميات كبيرة من الفخار المكسور وبقايا آنية القوم، أمّا الآجر فيحتمل أنهم نقلوه من التل الغربي، واستعملوه في بناء هذه الدار».

خرج ختمان فريدان من نوعهما كذلك من موقع «تل سعد»، وهما من نتاج الحقبة الدلمونية الأخيرة التي تمتدّ من عام 1700 إلى عام 1500 قبل الميلاد

من موقع «تل سعد» الذي يحوي أطلال أهم المنشآت الدلمونية في الجزيرة، خرج مجسّمان آخران يمثل كل منهما وجهاً ملتحياً في أسلوب خاص، وهذان المجسّمان مسطّحان، ويغلب عليهما طابع النقش الناتئ البارز. الوجه الأول مستطيل، وأعلى رأسه حاسرٌ، وتتمثل ملامحه في عينين لوزيتين واسعتين، يعلوهما حاجبان مقوّسان متّصلان، يشكل كل منهما نصف دائرة ناتئة. عند نقطة اتصال هذين الحاجبين، ينسدل أنف يأخذ شكل مثلث ذي ضلعين عموديين طويلين. الفم كبير، مع شق مستقيم في الوسط يرسم حدود الشفتين. والذقن طويل، تزينه ثلاثة خطوط تختزل كما يبدو شعر لحية ممحوة.

الوجه الثاني بيضاوي، ويتميز بملامحه المحوّرة بشكل هندسي. العينان لوزيتان، ومقلتاهما محاطتان بأهداب واسعة، ويتوسطهما بؤبؤ دائري. الحاجبان عريضان ومنفصلان، وهما على شكل شريطين مزخرفين بسلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. معالجة الشاربين واللحية تمت وفق الأسلوب نفسه. الفم عريض، ويتكوّن من شفتين واسعتين وصلبتين ترسمان ابتسامة جليّة. يماثل هذا الوجه تحديداً في تكوينه وجهاً يحضر على ختمين منقوشين، أشارت إليهما الباحثة آنا هيلتون في دراسة أكاديمية تناولت أواني فيلكا الحجرية. وهذان الختمان استثنائيان، إذ لا نرى ما يماثلهما في ميراث أختام فيلكا الذي يتكون من مئات الأحجار، ويُعد الأكبر في هذا الميدان.

خرج هذان الختمان الفريدان من نوعهما كذلك من موقع «تل سعد»، وهما من نتاج الحقبة الدلمونية الأخيرة التي تمتدّ من عام 1700 إلى عام 1500 قبل الميلاد، وتتزامن مع بسط سلطة سلالة الكيشيين البابلية على دلمون بشكل مباشر. يتميّز أحد الختمين بكونه يحمل نقشاً على وجهه، ونقشاً على ظهره. يظهر الرأس الملتحي على نقش الوجه، ويعلو تأليفاً يضمّ ثوراً وسعفة من النخل، وهذان العنصران معروفان، وهما من المفردات الدينية المعتمدة في القاموس التشكيلي الدلموني. يتأكّد هذا الطابع مع النقش الذي يحتل ظهر الختم، ويمثل ثلاث قامات في وضعية جانبية، رافعة ذراعيها نحو الأعلى، في حركة تقليدية ترمز إلى الابتهال.

الختم الثاني صغير للغاية، وعلى وجهه المنقوش ببساطة شديدة تتكرّر صورة هذا الوجه في شكل مختزل مماثل. هوّية هذا الوجه المثير لم تتحدّد بعد، نظراً إلى ندرة النماذج التي تمثّله، وغياب أي كتابات منقوشة عن هذه النماذج المعدودة.


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».