السورياليون والحرب

لم تكن موحيةً لهم على المستوى الإبداعي والفني

لويس أراغون
لويس أراغون
TT

السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون

منذ بروزها في مطلع العشرينات من القرن الماضي، أعلنت الحركة السوريالية، عبر بياناتها النظرية ونصوصها الشعرية والأدبية وأعمالها الفنية، عن معاداتها للحرب، مُدينةً المجازر الفظيعة التي ارتكبت خلال الحرب الكونية الأولى، وما خلفته هذه الحرب من دمار وخراب عمراني وأخلاقي وإنساني. ويعود ذلك إلى أن أغلب مناصري هذه الحركة كانوا قد جُنّدوا وأرسلوا إلى جبهات القتال ليعيشوا الموت في كل ساعة، وفي كل يوم. لذا لم يحتفظوا من تلك الحرب «القذرة» إلا بذكريات سيئة. ورغم أنه نال وساماً تكريماً لشجاعته، فإن لوي أراغون كتب يقول: «أنا أنتسب إلى صفّ المجندين سنة 1917. أقول هنا، وربما يكون لي طموح في أن أحدث من خلال هذه الكلمات مُنافسة عنيفة لدى كل المُجندين، أقول هنا بأنني لن أرتدي الزيّ العسكريّ الفرنسيّ، ولن أضع الشارة التي وضعوها على كتفيّ قبل نحو 11 عاماً، ولن أكون خادماً للضباط، وأرفض أن أحيي تلك الكائنات المتوحشة ورتبها وقبّعاتها الملونة من نوع (غاسلار)». وفي مكان آخر، كتب لوي أراغون يقول: «سيكون لي الشرف في هذا الكتاب، وفي هذا المكان، أن أقول وأنا بكامل وعيي وبكامل مداركي العقلية، بأني أدوس على الجيش الفرنسي بكلّ أركانه». ولم يكن السورياليون الآخرون من أمثال أندريه بروتون وبول إيلوار وفيليب سوبو وبنجامين بيريه وغيرهم يختلفون عن لوي أراغون. وجميعهم كانوا يُدينون وحشيّة الحرب وعنفها واستخفافها بالحياة البشرية. ومجدّداً رفض صديقه جاك فاشي للحرب، ومُعاداته لكل ما يمتّ إليها بصلة، كتب أندريه بروتون يقول: «أمام أهوال وفظائع هذه الأزمنة، التي لم أر حولي ما يعارضها غير الصمت والهمسات، بدا لي هو الوحيد (يقصد جاك فاشي) الذي كان سليماً ومُعافى تماماً، والوحيد الذي أعدّ الدرعَ الذي يحميه من كل عدوى». ومُنتقداً غيوم أبولينير الذي مجّد الحرب قائلاً: «يا إلهي كم هي جميلة الحرب»، كتب أندريه بروتون يقول: «أعتقد أن الشعر لديه (أي لدى أبولينير) كان عاجزاً عن تجاوز المحنة، وأكثر أحداث العصر شناعة نجدها مُغيّبة هنا». وعندما اندلعت الحرب الكونية الثانية، لم يغفر أندريه بروتون للشعراء الذي انخرطوا في «الجوقة الوطنية»، ووجّه لهم انتقادات لاذعة، وناعتاً إياهم بـ«الجبناء» الذين يخونون الكلمة، ويهللون لزمن «تكميم الأفواه والعيون». ولمّا احتل الجيش الألماني بلاده سنة 1942، غادرها أندريه بروتون ولم يعد إليها إلا سنة 1947. أما رموز السوريالية الآخرون فقد انخرطوا في حركة المقاومة ضد النازية وساندوها،

بول إيلوار

سواء بالكلمة مثلما فعل إيلوار وأراغون، أو بالسلاح مثلما فعل رينيه شار الذي من وحيها كتب في أثره المعروف «أوراق هيبنوس»: «لا يُمكن للشاعر أن يظل لزمن طويل داخل سجن الكلمة. عليه أن يلتفّ بنفسه في دموع جديدة وأن يدفع أمره مسافة أبعد».

وخلافاً للدادئية التي نشأت في مدينة زيوريخ السويسرية سنة 1916، والتي أعلنت في بياناتها عن انسلاخها الكلي من عالم السياسة، أكدت الحركة السوريالية التي ولدت من رحمها أنها تتبنى «المادية التاريخية» لكارل ماركس لأنها «تحرّض على الثورة». وأضاف بروتون قائلاً بأنها -أي الحركة السوريالية- تستند إلى كل من رامبو وماركس، وإلى الثورة والشعر من دون أن تنفصل لا عن هذه ولا عن تلك، لأن الحرية لها «لون الإنسان».

لويس أراغون

واعتماداً على بيانهم التأسيسي، كان السورياليون يُدينون ما كانوا يُسمّونه بـ«الحروب الظالمة»، أي الحروب التي تخوضها الإمبراطوريات الاستعمارية والإمبريالية بهدف السيطرة على البلدان الضعيفة واستغلال ثرواتها، وتزوير تاريخها وهويتها. إلاّ أنهم كانوا يُظهرون تعاطفاً مع الحروب التحريرية، ومع ثورات وانتفاضات الشعوب ضد الاستبداد والظلم مثل حرب المغاربة بقيادة عبد الكريم الخطابي ضد الجيشين الإسباني والفرنسي. وفي شهر يوليو (تموز) 1925، أمضى السورياليون مع مجموعة «وضوح»، ومجموعة «فلسفة»، بياناً بعنوان «نداء للعمال المثقفين هل أنتم مع الحرب أو ضدها؟»، وفيه جاء ما يلي: «نُعلن مرة أخرى عن حقّ الشعوب، كل الشعوب، بقطع النظر عن جنسيتها، في تقرير مصيرها». وبعد مرور بضعة أسابيع على البيان المذكور، ازداد السورياليون راديكاليةً في توجهاتهم السياسية، وأصدروا بياناً بعنوان: «الثورة أولاً ودائماً»، وفيه هاجموا «القومية الشوفينية» باعتبارها «هيستيريا جماعية، جوفاء، وقاتلة». أما الوطن فهو «المفهوم الأكثر حيوانية، والأقل فلسفة». ومُخاطبين قادة الإمبريالية، أضاف السورياليون في بيانهم المذكور ما يلي: «نحن نُمثّلُ ثورة الفكر، ونعتبر الثورة الدموية عمليّة انتقام لا مفرّ منها للفكر المُهان بسبب أعمالكم الدنيئة. ونحن لسنا طوباويين، وهذه الثورة نحن لا نفهمها ولا نمارسها إلا في شكلها الاجتماعي... إن فكرة الثورة هي الحماية الأفضل والأكثر نجاعة للفرد». وفي بياناتهم اللاحقة، خصوصاً تلك التي صدرت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، أكد السورياليون مرة أخرى أنهم لا يساندون إلا ما سمّوه بـ«الحروب الثورية»، وأيضاً الانتفاضات الشعبية الكبيرة التي تطيح بالأنظمة الفاسدة والمستبدة مثل الثورة الفرنسية، وكومونة باريس، والثورة المكسيكية، والحروب التي تشنها الشعوب من أجل حريتها واستقلالها، والحرب الأهلية الإسبانية التي كتب عنها أندريه بروتون يقول بأنها «جسّدت كل الطموحات من أجل إنسانية أفضل» لأنها كانت صراعاً عنيفاً بين القوى الظلامية، وبين المتطلعين إلى الحرية في معناها العميق والحقيقي. وفي بيان صدر سنة 1936، أي بعد أن استولى الفاشيون والنازيون على السلطة في كل من إيطاليا وألمانيا، جاء ما يلي: «نحن من أجل عالم موحد تماماً، من دون أن تكون لهذا العالم صلة أو قاسم مُشترك مع هذا التحالف البوليسي ضد العدو رقم1. نحن ضدّ الخرق الورقيّة، وضدّ نثر عبيد الدواوين القنصلية. ونحن نعتقد أن النصوص التي كتبت حول البساط الأخضر لا تربط الناس إلاّ بأجسادهم التي تقاوم». وفي الخمسينات من القرن الماضي، لم يتردد السورياليون في إدانة الحرب التي شنها الجيش الفرنسي على الحركات الوطنية في فيتنام، وفي الجزائر... غير أن السورياليين لا يفكرون في الحروب إلاّ للإعلان عنها، إلاّ أنها لم تكن موحية لهم على المستوى الإبداعي والفني. لذا لم يكتبوا عنها لا قصائد ولا روايات. مع ذلك يمكن أن نجد آثاراً لها في «الموت للأبقار في ميدان الشرف» لبنجامين بيريه، وفي «الشرفة في الغابة» لغوليان غراك، وفي «الشيوعيون» للوي أراغون. عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، تحديداً في سنة 1940، كتب بنجامين بيريه يقول: «لا يمكن تجييش الشعر». ثم أضاف قائلاً: «لو كنت هناك، فلعلي أساهم في المقاومة بالنضال المسلح. لكن ليس بكتابة قصائد». وفي ربيع عام 1948، توفي طونان أرتو الذي انتسب إلى الحركة السوريالية إلاّ أنه كان رافضاً لتوجهاتها السياسية باعتبار أن السياسة بالنسبة له «تفسد الحياة واللغة»، وأنبه صديقه أندريه بروتون قائلاً: «باعتبار أحداث السنوات الأخيرة، يبدو لي أن كل شكل من أشكال الالتزام السياسي مُثيرٌ للامتعاض والسخرية إذا ما ظلّ دون الهدف الثلاثي الذي لا يتجزأ: تغيير العالم، تغيير الحياة، إعادة تركيب الإدراك البشري من كلّ القطع».



رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
TT

رؤوس ثيران برونزية من موقع مليحة في الشارقة

قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة
قطع برونزية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

يحتفظ مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة بمجموعة من اللقى البرونزية، منها مجسمات منمنمة تمثّل رأس ثور يتميّز بأنف طويل صيغ على شكل خرطوم. تعود هذه الرؤوس في الواقع إلى أوان شعائرية جنائزية، على ما تؤكّد المواقع الأثرية التي خرجت منها، وتتبع كما يبدو تقليداً فنياً محلياً ظهرت شواهده في موقع مليحة، كما في نواح أثرية أخرى تتّصل به في شكل وثيق.

يعرض مركز مليحة للآثار نموذجين من هذه الرؤوس، وصل أحدهما بشكل كامل، فيما فقد الآخر طرفي قرنيه. يتماثل هذان الرأسان بشكل كبير، ويتبنيان في تكوينهما أسلوباً تحويرياً مبتكراً، يجسّد طرازاً خاصاً لا نجد ما يماثله في أقاليم جنوب الجزيرة العربية المتعددة، حيث حضر الثور في سائر الميادين الفنية بشكل كبير على مر العصور، وتعدّدت أنواعه وقوالبه، وشكّلت نماذج ثابتة بلغت نواحي أخرى من جزيرة العرب الشاسعة. ظهر رأس الثور بشكل مستقل، وحضر في عدد كبير من الشواهد الأثرية، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. تعدّدت وظائف هذه الرؤوس، كما تعدّدت أحجامها، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير. وتُظهر الأبحاث أنها تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى.

في المقابل، يصعب تحديد تاريخ رؤوس ثيران مليحة، والأكيد أنها تعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي الأول، حسب كبار عملاء الآثار الذين واكبوا اكتشافها في تسعينات القرن الماضي. تتبنّى هذه الرؤوس قالباً جامعاً واحداً يتميّز بتكوينه المخروطي وبملامحه المحدّدة بشكل هندسي، وهي من الحجم المنمنم، ويبلغ طول كل منها نحو 5 سنتمترات. الأنف طويل، وهو أشبه بخرطوم تحدّ طرفه الناتئ فجوة دائرية فارغة. تزيّن هذا الأنف شبكة من الخطوط العمودية المستقيمة الغائرة نُقشت على القسم الأعلى منه. العينان دائريتان. تأخذ الحدقة شكل دائرة كبيرة تحوي دائرة أصغر حجماً تمثّل البؤبؤ، ويظهر في وسط هذا البؤبؤ ثقب دائري غائر. الأذنان مبسوطتان أفقياً، والقرنان مقوّسان وممدّدان عمودياً. أعلى الرأس مزيّن بشبكة من الزخارف التجريدية المحززة ترتسم حول الجبين وتمتدّ بين العينين وتبلغ حدود الأنف.

يشكّل هذا الرأس في الواقع فوهة لإناء، وتشكّل هذه الفوهة مصبّاً تخرج منه السوائل المحفوظة في هذا الإناء، والمثال الأشهر قطعة عُرضت ضمن معرض مخصّص لآثار الشارقة استضافته جامعة أتونوما في متحف مدريد الوطني للآثار خلال عام 2016. يعود هذا الإناء إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد وصل بشكل مهشّم، واستعاد شكله التكويني الأوّل بعد عملية ترميم طويلة ودقيقة. تتكوّن هذه القطعة الأثرية من وعاء صغير ثُبّت عند طرفه الأعلى مصبّ على شكل رأس ثور طوله 4.6 سنتمترات. عُرف هذا الطراز تحديداً في هذه الناحية من شمال شرق شبه الجزيرة العربية التي تقع في جنوب غرب قارة آسيا، وتطلّ على الشاطئ الجنوبي للخليج العربي.

عُثر على هذه الآنية إلى جانب أوان أخرى تتبع تقاليد فنية متعدّدة، في مقبرة من مقابر مليحة الأثرية التي تتبع اليوم إمارة الشارقة، كما عُثر على أوان مشابهة في مقابر أخرى تقع في المملكة الأثريّة المندثرة التي شكّلت مليحة في الماضي حاضرة من حواضرها. ظهر هذا النسق من الأواني الجنائزية في مدينة الدّور الأثرية التي تقع اليوم في إمارة أم القيوين، على مقربة من الطريق الحديث الذي يربط بين رأس الخيمة والشارقة، وهي على الأرجح مدينة عُمانا التي حضنت أهم ميناء في الخليج خلال القرن الأول الميلادي. كما ظهر في منطقة دبا التي تتبع إمارة الفجيرة، وفي مناطق أخرى تتبع في زمننا سلطنة عُمان، منها منطقة سلوت في ولاية بهلاء، في محافظة الداخلية، ومنطقة سمد في ولاية المضيبي، شمال المحافظة الشرقية.

اتّخذت فوهة هذه الأنية شكل رأس ثور في أغلب الأحيان، كما اتخذت في بعض الأحيان شكل صدر حصان. إلى جانب هذين الشكلين، ظهر السفنكس برأس آدمي وجسم بهيمي، في قطعة مصدرها منطقة سلوت. شكّلت هذه الأواني في الأصل جزءاً من آنية شعائرية طقسية، في زمن ازدهرت فيه التجارة مع عوالم الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط والهند. والمعروف أن أواني الشراب التي تنتهي بمصبات ذات أشكال حيوانية، برزت بشكل خاص في العالم الإيراني القديم، حيث شكّلت سمة مفضلة في الطقوس والولائم. افتتن اليونانيون باكراً بهذه الفنون وتأثّروا بها، كما شهد شيخ المؤرخين الإغريق، هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعمدوا إلى صناعة أوان مشابهة مزجت بين تقاليدهم وتقاليد أعدائهم، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الفنية الإرثية.

من ناحية أخرى، دخلت هذه التقاليد العالم الشرقي الواسع، وبلغت ساحل الخليج العربي، حيث ساهمت في ولادة تقاليد فنية جديدة حملت طابعاً محلياً خاصاً. تجلّى هذا الطابع في ميدان الفنون الجنائزية بنوع خاص، كما تظهر هذه المجموعة من الأواني التي خرجت كلها من مقابر جمعت بين تقاليد متعدّدة. استخدمت هذه الأواني في شعائر طقسية جنائزية خاصة بالتأكيد، غير أن معالم هذه الشعائر المأتمية تبقى غامضة في غياب أي نصوص كتابية خاصة بها.