هل جعلت الفلسفة للحضارة الغربية؟

لا تنتعش ولا تزدهر إلا بمقتضى عواملَ سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة

جورج طرابيشي
جورج طرابيشي
TT

هل جعلت الفلسفة للحضارة الغربية؟

جورج طرابيشي
جورج طرابيشي

يبدو أنّ الناس يختلفون اختلافاً خطيراً في مسألة الاستئثار بنعمة العقل الفلسفيّ. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بما قاله عظيمُ فلاسفة فرنسا دِيكارت (1596 - 1650) حين أعلن أنّ العقل أعدلُ المزايا قسمةً بين الناس. أعتقد أنّ مثل هذا القول يَهدم جميع الأحكام الاستئثاريّة الاستعلائيّة. غير أنّ دِيكارت لم يشرح لنا الأسباب التي تجعل هذه الثقافة تستثمر استثماراً ذكيّاً مُغنياً نصيبَها من العقل الفلسفيّ، وتمنع تلك الثقافة من التمتّع ببركات التفكير العقليّ المحض. الواضح أنّ نشأة الفلسفة في المدينة الإغريقيّة لها أسبابُها السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هذا أمرٌ أجمع عليه العقلاء، ولو أنّ بعض المعارضين ما برحوا يُصرّون على انبثاق التفكّر الفلسفيّ من الشرق.

ديكارت

إذا أردنا أن نعالج المسألة معالجةً موضوعيّةً مُنصفة، كان علينا أن نُعرّف العقل ونُعرّف الفلسفة، حتّى نتبيّن وجه الصواب في قضيّة استثمار الفلسفة. ذلك بأنّ تعريف العقل تعريفاً منحازاً قد يجعل الناس الذين يؤمنون بالأساطير والميتولوجيات والماورائيّات والغيبيّات من أشدّ المدافعين عن مقام العقل، ويجعل الذين يعتصمون بمبادئ العقل الأساسيّة المستندة إلى أصول المعاينة العلميّة الواقعيّة الموضوعيّة المجرّدة من أسوأ أعداء النظر العقليّ. كذلك القول في الفلسفة؛ إذ إنّ تعريف الفلسفة يختلف من ثقافةٍ إلى أخرى.

يدرك الجميع أنّ بعض مباحث الفلسفة، كالمِتافيزياء والفِنومِنولوجيا وفلسفة الدِّين، تميل إلى مراعاة الفرضيّة الماورائيّة وتقبل بوجود عالمٍ علويٍّ آخر يختلف عن عالم المكان والزمان. إذا كانت المِتافيزياء تنظر في ما وراء الطبيعة، والفِنومِنولوجيا تترصّد طاقات الاعتلان في الظاهرات المتجلّية، لاسيّما ظاهرة الحياة الأرحب، وفلسفة الدِّين تتدبّر اختبارات التجاوز الذي ينعقد عليه فعلُ الإيمان، فإنّ العقل الفلسفيّ المحض يحرص على ضبط النزعة الشطحيّة والإمساك بالميل الانعتاقيّ الذي يدفع بالإنسان إلى التضجّر من حدود المكان والزمان، والترحّل إلى عالم الخيال الخصب والتوهّم المنعش. من واجب الفلسفة أن تحاذر الانشطاح والانفلات والانعتاق، وتناصر المحايثة والحيثيّة والموضعيّة والانتسابيّة. كلُّ تفكيرٍ يزيّن للناس أنّ الفلسفة تجيز لنفسها الخروجَ من دائرة المكان والزمان يجب أن يسوّغ علميّاً مرتكزات الانعتاق ومستندات التجاوز. كان مؤسّسُ الفِنومِنولوجيا الألمانيّ هوسّرل (1859 - 1938) شديدَ الحرص على استثمار الظاهرة (الفِنومِنون) في قابليّاتها الكشفيّة الذاتيّة التي لا تقذف بها في رحاب اللامكان واللازمان واللاتاريخ. جلُّ عنايته أن يكشف لنا عن أنّ الواقع ينطوي بحدّ ذاته على طاقاتٍ اعتلانيّةٍ رحبةٍ ينبغي استثمارُها في قرائن الانتماء الرضيّ إلى المحدوديّة الطبيعيّة الراهنة.

هوسرل

وعليه، إذا كان الشطح الصوفيّ والانعتاق المكانيّ والمعاندة الزمانيّة في أصل فعل التفلسف، فإنّ ثقافات الحضارات الآسيويّة والأفريقيّة مارست الفلسفة منذ أقدم الأزمنة. أمّا إذا اعتمدنا تعريفَ العقل أداةً بحثيّةً تفترض صونَ المحدوديّة المكانيّة - الزمانيّة، ومراعاة الانتماء التاريخيّ الدهريّ، وتعزيز انتساب المحايثة التي تجعل الإنسان يقيم حيث هو، ولا ترمي به في لجج الرغبات التجاوزيّة ومتاهات المكاشفات الافتراضيّة، فإنّ الثقافات التي نهجت نهجَ المدينة الإغريقيّة وانتشرت في الغرب الأُوروبّيّ أقربُ إلى ممارسة التفكير الفلسفيّ الأصيل. فضلاً عن ذلك، ليست الفلسفة حدساً التماعيّاً أو نوراً مُلهِماً تقذفه الحكمةُ الكونيّةُ في صدر الإنسان، بل مراسٌ منهجيٌّ متطلّبٌ يستلزم النظر في شتيت الاختبارات الإنسانيّة واستخراج المعنى الهادي الذي يلائم وضعيّة الناس وطرائق تفكيرهم في زمنٍ من الأزمنة.

أعود فأكرّر أنّ لكلّ إنسان الحقّ في ادّعاء التفلسف الحرّ. غير أنّ الثقافات الإنسانيّة تميّزت بميولٍ ونزعاتٍ وتيّاراتٍ جعلت بعضها أقربَ إلى الفلسفة العقلانيّة منها إلى الشطح الوجدانيّ الصوفيّ. لستُ أظنّ أنّ الشعوب الهنديّة، على سبيل المثال، أجادت في ممارسة الفلسفة العقلانيّة، وأنّ الشعوب الأُوروبّيّة تألّقت في الخوض في رحاب الوجدانيّات الصوفيّة المتعالية. قد يفيدنا أن نستذكر ما قاله أبو حيّان التوحيديّ (923 - 1023) بشأن توزيع مواهب الأمَم: «صار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر لليونان، والوهم والحدس والظنّ والحيلة والتحيُّل والشعبذة للهند، والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتّساع والتصريف والسحر باللسان للعرب، والرويّة والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبوديّة والربوبيّة للفرس» (الإمتاع والمؤانسة، ص 211 - 212). من البديهيّ أن يبتسم المرءُ حين يقع على مثل هذا النصّ، ولو أنّ عباراته تنطوي على بعضٍ من الحكمة والإصابة. الابتسامة عينها ترتسم على وجهنا حين يطالعنا فيلسوف الأمّة الجرمانيّة هايدغر (1889 - 1976) برأيه الاستفزازيّ ليحصر دعوة الفلسفة بشعبَين اثنَين: الإغريقيّ والألمانيّ.

ليس من الفطنة أن نذهب هذا المذهب؛ إذ إنّ لكلّ شعبٍ القدرة الذاتيّة على ممارسة الفلسفة. والعرب أثبتوا أنّهم خليقون بالتفلسف في العصور الوسيطة. بيد أنّ شروط الإقبال على الفلسفة لا تنعقد في جميع المجتمعات وفي جميع العصور. هذا واقعٌ لا مهرب منه. لذلك أجمع الباحثون على القول إنّ الفلسفة لا تنتعش ولا تزدهر إلّا بمقتضى عواملَ سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة تتيح انبثاق التفكّر العقلانيّ السليم. أخطر العوامل السياسيّة الحرّيّاتُ الفرديّة والجماعيّة والتسالم الهنيّ في حضن المدينة الإنسانيّة. أمّا العوامل الثقافيّة فتقترن أوّلاً بطبيعة اللغة وطاقاتها التعبيريّة ومَسار تطوّرها المعجميّ. من الطبيعيّ ألّا تزدهر الفلسفة في لغةِ قبيلةٍ أمازونيّةٍ لا تتجاوز مفرداتها 5000 كلمة! كذلك اللغة التي تُفرِد للأسد مائة مرادف إنّما تضع قوّتها في غير موضع التفلسف النظريّ التجريديّ المتطلّب، ناهيك بالتجمّد النحويّ المفروض على الناس من جرّاء الائتمار بأحكام النصّ الدِّينيّ. لا ريب في أنّ اللغة المقيّدة بقوانينَ وقوالبَ ثابتة لا تتيح التفلسف. ومع ذلك، فإنّ آليّات التجديد ليست مستحيلة، بل معطّلة تعطيلاً آيديولوجيّاً. أمّا العوامل الاجتماعيّة فتفترض أنّ الناس بلغوا شأواً عظيماً في فهم معاني الاختلاف والتنوّع، واستبصروا في ضرورات الفكر ومنافع القراءة وثمار المناقشة الحرّة الراقية.

تلك كانت حال المدينة الإغريقيّة التي نشأ فيها البناء الفلسفيّ المنهجيّ المتّسق. غير أنّ القول بصدارة التفلسف الإغريقيّ الأصليّ لا يعني تعزيز المركزيّة الثقافيّة الأُوروبّيّة، بل يحرّض الجميع على ابتكار الفلسفة المحلّيّة التي تصون أصول التفلسف والبناء المنهجيّ والتماسك المنطقيّ والاتّساق الهندسيّ في بناء العمارة الفلسفيّة. يعرف الجميع أنّ بضعةً من فلاسفة المدينة الإغريقيّة، ومنهم بارمنيذيس وهيراقليطوس وزينون وبروتاغوراس وأفلاطون وأرسطو وسواهم، إمّا هاجروا إليها وإمّا سافروا منها إلى الشرق للتكسّب المعرفيّ والاختبار الوجدانيّ. ولكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الفلاسفة المهاجرين هؤلاء، على حدّ تعبير جيل دُلوز، سرقوا البناء الفلسفيّ المكتمل من الشرق، بل تأثّروا بفكرةٍ أو حدسٍ أو التماعٍ وضّاء، وعادوا فبنَوا ما بنَوه في المدينة الإغريقيّة التي أتاحت لهم التفلسف الحرّ.

نادى جورج طرابيشي بضرورة الثورة العلميّة في العالم العربيّ حتّى تنشأ لنا فلسفة عربيّة أصيلة.

خلاصة القول أنّ الفلسفة ليست عنصريّة، بل متطلّبة! شأنها شأن العلم الذي لا يمكن أن يرتجله الناسُ ارتجالاً. والحال أنّ المجتمعات التي لم تحرز التقدّم العلميّ باءت بالإخفاق الفلسفيّ. لذلك نادى الفيلسوف السوريّ جورج طرابيشي (1939 - 2016) بضرورة الثورة العلميّة في العالم العربيّ حتّى تنشأ لنا فلسفة عربيّة أصيلة. لا عجب، من ثمّ، في أن تتكاثر أعداد المختصّين بالآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعات اللبنانيّة والعربيّة، في حين أنّ المطلوب تعزيز البحث العلميّ حتّى يتحرّر العقل من قيود الجهل والآيديولوجيا. لا تستطيع الفلسفة وحدها أن تحرّر العقل من قيوده، بل يجب أن يؤازرها الوعيُ العلميّ. يعتقد بعضنا أنّ الفلسفة العربيّة الوسيطة لم تزدهر إلّا لأنّ الفلاسفة كانوا يوازون العلماء مقاماً وشأناً وسلطاناً فكريّاً؛ لا بل كان معظم الفلاسفة علماء.

اعتقادي الراسخ أنْ لا قيام لفلسفةٍ عربيّةٍ معاصرةٍ ترفض محاورة الفلسفات العالميّة، الأُوروبّيّة والأمِريكيّة والآسيويّة والأفريقيّة، بحجّة أنّ الفكر العربيّ لا يحتاج إلى النظر في ما أبدعه الآخرون، والاستناد إليه والانطلاق منه، أو انتقاده وإصلاحه وتجويده. وحده التحاور التفاعليّ التضامنيّ يتيح للفلسفة العربيّة المعاصرة أن تبني عمارتها بناءً مندمجاً في قرائن اهتمامات الإنسان المعاصر الوجوديّة المصيريّة. ليست الفلسفة قلعةَ الدفاع عن الذات، بل سبيلُ الإفصاح عن خصوصيّة الحسّ الذاتيّ في تناول قضايا الوجود الإنسانيّ العالميّ. من الضروريّ أن ينشأ لنا قولٌ فلسفيٌّ عربيٌّ معاصرٌ يستجيب لمتطلّبات الوعي الإنسانيّ العالميّ، فيُقبِل عليه الآخرون يتأمّلون في مُلاءماته الصائبة ومقاصده الصالحة.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي
TT

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

ملامح الدراما الشعرية عند عبد الرحمن الشرقاوي

صدر عن دار «إضاءات» بالقاهرة كتاب «المقاومة في مسرح عبد الرحمن الشرقاوي» للناقدة د. سامية حبيب، الأستاذ بالأكاديمية المصرية للفنون، حيث تناقش واحدة من أهم التجارب الرائدة في المسرح الشعري المصري والتي أبدع فيها الشرقاوي عبر حياته الممتدة من 1921 حتى 1987.

تشير المؤلفة في البداية إلى أن الدراما الشعرية، أي تأليف مسرحية من خلال نص شعري، طرحت منذ وجودها في المسرح العربي عبر القرن العشرين إشكاليات درامية ولغوية وفنية، بداية من محاولات أمير الشعراء أحمد شوقي وعلي أحمد باكثير، والتي يمكن اعتبارها «المرحلة الكلاسيكية»، حيث حاول مثل أولئك الرواد خلق الدراما الشعرية في إطار التقاليد الموروثة لبناء القصيدة العربية. واصطدمت تلك المحاولات بتناقض جوهري بين طبيعة الدراما من حيث هي تغير مستمر في الشخصية الدرامية وفقاً لدرجة تفاعلها مع الموقف الدرامي الذي تتحرك فيه وتعبر عن ذاتها في إطاره بما يعكس تغيرات فكرها وانفعالها ومواقفها الأخلاقية، وبين طبيعة الشعر العربي بما فيه من درجات الثبات والرتابة الإيقاعية في أسلوب البناء التقليدي للقصيدة العربية.

وتلفت الباحثة إلى أن ذلك أدى لعيب جوهري في النماذج الرائدة من الدراما الشعرية، يتمثل في الانفصال بين وسيط الأداء الفني وطابعه الجامد، وبين الموضوع المُشَكَّل داخل هذا الأداء الفني، إلا أنّ هذه المرحلة كانت ضرورية ومنطقية في إنجازاتها الإبداعية في إطار واقعها الثقافي والتاريخي.

وتأتي بعد ذلك مرحلة الثورات الفنية والسياسية في واقعنا العربي وهي فترة الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن العشرين والتي لم يكن هناك مفر من انعكاسها في أشكال التعبير الفني والأدبي، حيث طرأ تغير في بناء القصيدة العربية بما يخلصها من رتابة وحدة البيت والقافية والروي، وأصبح اختيار البحر الشعري خاضعاً لمعنى التجربة أو الانفعال الكامن فيها. كما أن البناء الشعري صار أكثر طواعية لمفهوم الدراما بخصوصيتها من حيث الترابط بين لغة الحوار وطبيعة الشخصية والموقف بما فيه من تغير وتفاعل يمكن أن يستمد من التغير في الإيقاعات الشعرية، وبالتالي يرتبط الشكل بالمضمون والشخصية بالموقف، مما يعد مقدمة فنية لحل التناقض بين الشاعر العربي والدراما.

في إطار هذه المرحلة الفنية التي امتدت حتى اليوم بامتداد الوطن العربي، كتب الشرقاوي إنجازاته الدرامية شعراً، فإلى أي مدى تقني استطاع أن يخلق ترابطاً بين اللغة الشعرية التي كتب بها مسرحه والدراما بوصفها قالباً فنياً اختاره بعد محاولات في القصيدة والرواية والتراجم؟

تجيب د. سامية حبيب عن هذا التساؤل، مشيرة إلى أن فكرة المقاومة تبرز في هذا السياق على خلفية معارك التحرر من الاستعمار الغربي التي عصفت بمصر والعالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من خلال اختياره لشخصيات اقترنت في الوجدان العام للعرب ووعيهم بتاريخهم بمواقف ذات أثر كبير في مصير الأوطان والشعوب وبلورة أنماط حياتها وتجربتها الاجتماعية والاقتصادية وأحلامها الممكنة لتجاوز أوضاعها السيئة.

هكذا، يتخير الشرقاوي مادة تاريخية صريحة يعيد بناءها في عالم فني ويضيف إليها وينسج في إطارها المتواري في كتب التاريخ حركة وأحلام الشعوب في إطار تفسيرها واستقراء مكنونها، مستهدياً بالشخصيات البطولية الفاعلة للأحداث والمواقف، والمنتجة في الوقت نفسه للأفكار والمشاعر. وربما يتخير مادة «شبه تاريخية» يستنبطها في ضوء الوقائع والمعلومات التاريخية الصريحة والأكثر ارتباطاً بالقضايا والهموم الجماعية العامة والساخنة بكل ما لها أحياناً من ثقل الحداثة والمعاصرة.

من النوع الأول على سبيل المثال لا الحصر، تصدر مسرحية «النسر الأحمر» بثنائية «النسر والغربان» و«النسر وقلب الأسد» التي تدور حول بطولات صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الحملات الصليبية في العصر الوسيط، وكذلك الزعيم الوطني المصري أحمد عرابي زعيم الفلاحين والتي تتناول المخططات الغربية التي انتهت بمحنة الاحتلال الإنجليزي لمصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

ومن النوع الثاني تأتي مسرحيته الأشهر «الفتى مهران»، التي تعتمد على ما تواتر من معلومات تاريخية ووقائع عن الهجمات التترية على المحيط العربي وأرضه وحضارته، وكذلك مسرحية «وطني عكا» التي تتخلق في إطار المواجهات العربية الأكثر حداثة وعصرية منذ حرب 1948 وما تلاها من هزيمة 1967 ثم نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وتبرز «الغنائية» باعتبارها أحد مفردات «مسرح المقاومة» لدى عبد الرحمن الشرقاوي والتي تتمثل على سبيل المثال في لجوء الشخصية إلى مخاطبة الجماعة غير المحددة، أي مخاطبة المطلق الإنساني في نبرة خطابية عالية وبعيدة عن الموقف الدرامي وعن قدرات الشخصية. ومن مثل ذلك قول «جميلة» في نهاية مسرحية «مأساة جميلة»:

«جميلة: أيها الأحياء في عصر الحقوق البشرية، أوقفوا تلك المآسي الهمجية

أوقفوا هذا العذاب

نحن من لحم ودم، لا جلمود من رخام

نحن لا نبحث عن مجرد البطولة

إننا نطلب أن نحيا كما يحيا سوانا»

وتخلص الكاتبة إلى أن تأثر الشرقاوي بغنائية شوقي وباكثير، كان واضحاً، لكنه استوعب ذلك بوعي، ساعده في هذا موهبته الشعرية الكبيرة، مما جعل تجربته تحمل إضافات لا سبيل إلى إنكارها، مثل تحرره من اللغة الكلاسيكية ذات البعد الواحد وطرحه لغة جديدة مستوحاة من العصر وتعكس ما فيه من حيوية وتناقضات وانفعالات وصراعات.