المثقفون ملح البلد فكيف صاروا غرباء «كصالحٍ في ثمود»؟

بعضهم أصبح خطابه شعبوياً يكرر ما يريد أن يسمعه العامة

أُمبرتو إيكو
أُمبرتو إيكو
TT

المثقفون ملح البلد فكيف صاروا غرباء «كصالحٍ في ثمود»؟

أُمبرتو إيكو
أُمبرتو إيكو

كتب أُمبرتو إيكو، ذات مرة: «تمنح وسائل التواصل الاجتماعي جحافل من البلهاء الحق في التحدث، وهم من كانوا يتحدثون في الحانات بعد تناول كأس من النبيذ دون الإضرار بالمجتمع، اليوم لديهم الحق نفسه في التحدث مثل الفائز بجائزة نوبل. إنه غزو البلهاء». هذا الغزو حقيقي ولا يزداد إلا توسعاً في عالمنا العربي، فعندما تدخل منصات التواصل الاجتماعي، ستجد أن كبار المثقفين الأكاديميين لا يتابعهم إلا أرقام صغيرة من الأشخاص، وقد يكونون من طلابهم المضطرين لمتابعتهم، بينما يحظى الغاغة بمتابعة الملايين، رغم أنهم لا يقولون شيئاً على الحقيقة. الناس في عالمنا العربي يحبون من يمسد على قناعاتهم ويكرر ما كان يقوله آباؤهم، ولا يحبون من يناقش قناعاتهم ومدى صحتها الأصلية.

لا ترى من هؤلاء النجوم الجدد إلا استماتة على الشهرة تحدو صاحبها على الإمعان في تكريس التفاهة، لا ترى إلا الارتزاق بأي شيء كان، حيث يقوم نجوم التواصل الاجتماعي بأي شيء كان، ومن ذلك القيام بدور المهرج، والضحك من أنفسهم، من باب تشجيع المتلقي على الضحك مما لا يُضحك. ولا يبالون في ذلك بأن الكوميديا فن رفيع وله نجومه، ولا يليق امتهانه بهذه الصورة التي تحاول أن تحوّل الجميع إلى مهرجين.

يقال، هذا ما يريده الناس، فلماذا نقف أمام إرادة المجتمع؟ وكنت سأتفق مع هذه المقولة لولا الأضرار البليغة التي أحدثها هذا الغزو الغوغائي. نجوم وسائل التواصل أصبحوا هم من يوجه العموم، وهم القدوة، وهم من يسعى الشباب إلى الاقتداء بهم، علّهم أن يحظوا بالثراء والشهرة. ونجوم التواصل الاجتماعي لم يكتفوا بدور التهريج، بل امتدوا إلى عالم السياسة فأصبحوا امتداداً لبروباغندا عبد الناصر وإذاعة صوت العرب في الستينات، فصرت ترى المحلل السياسي الذي لم يقرأ كتاباً واحداً في أي فن يناقش القضايا التي أعيت كل حكيم، وماتت الأجيال دون الوصول إلى حل فيها، كالقضية الفلسطينية.

ومن باب منصات التواصل الاجتماعي عادت من جديد خطابات الصحوات الدينية، مستغلة الأحداث المؤلمة في غزة وعنجهية الجيش الإسرائيلي، لتملأ العالم ضجيجاً عما يجب أن نعمله وما لا يجب أن نعمله. مرة أخرى، نحن أمام الغوغاء وهي تحاول أن توجه النخبة. الصحوة / الغفوة التي اندلعت بسبب الثورة الإيرانية وحادثة الحرم وعاشت تراجعاً قوياً في السنوات الأخيرة، عادت لتطل برأسها وتشعل خطاباتها المتقدة من جديد، بعد أن وجدت القضية والمنصة. هم جزء لا يتجزأ من الغاغة التي تؤثر بعمق في مشهدنا الثقافي العربي، وستبقى دائماً خطراً لا يصح التغافل عنه.

قديماً كان يقال إن ثمة فجوة بين المثقفين وعامة الناس، وسبق أن اتهم المثقفون بأنهم يعيشون في أبراج عاجية، وأنهم لا يعرفون مشكلات المجتمع واحتياجاته. هذه التهمة مشكوك فيها إلى حد كبير، فالمثقف هو ابن مجتمعه ويعرفه جيداً، وإن مال إلى العزلة أحياناً، فهذا سببه الرغبة في السلامة من الجنون، في عالم تضج فيه الأصوات بما لا يمكن التعايش معه. غِبْ فترة عن منصات التواصل الاجتماعي حتى يصفو ذهنك، ثم عد واقرأ ما يقولون وستبصر ما أحدثك عنه. العزلة أمر ضروري؛ لأن من يبقى في الدوامة نفسها لا يبصر الخلل، بل يتكيف معه ويصبح عنده الخطأ صواباً، والصواب خطأ، ناهيك عن الأضرار الأخلاقية.

هذا الاتهام بالعيش في قصور من عاج دعا بعض المثقفين إلى النزول لمستوى العامة وانحرف خطابهم، نتيجة لهذا الغزو والتنازل، بأن أصبح خطاباً شعبوياً يكرر ما يريد أن يسمعه العامة. حسناً، كيف سيتطور المجتمع فكرياً وكيف ستحدث المساهمة في نهضة بلادهم إذا غاب النخبة عن دورهم على هذه الصورة؟ المثقفون - رغم العيوب التي لا يخلو منها إنسان - هم ملح البلد، فكيف أصبح مصيرهم على هذه الصورة غرباء «كصالحٍ في ثمود»، بحسب تعبير شاعر العربية أبي الطيب المتنبي؟ لا بد من نقطة التقاء في الوسط تحل مشكلة التواصل وتبقى فيها النخبة نخبة.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.