«ليلٌ طويلٌ يضنيه حزنٌ موجعٌ
ولا فجر للحزن
فأين أنت فلسطين؟
حارقٌ ربيعك
وشقاؤه حارق
شهيقٌ دائمٌ، فأين أنت يا فلسطين؟
يذبلُ وردٌ، ويجف نبعُك
والمغيب دمويٌ
فأين فجرك يا فلسطين؟
خرس الطيرُ على سعف نخلك المثبور
وصرت جرح جسد الأرض العربية البليغ
نامت القنابل على وسائد أطفالك، مكان اللعب
وسنَّ أطفالك خناجرهم في المهد...
ولا أجمل منك يا فلسطين
مساجد القدس
ونهر الأردن
وكلنا نغني
نعرف أغنية واحدة
إننا سنعود إليك يا فلسطين»
كأنه يخاطب فلسطين الجريحة اليوم، وكان على مقربة منها وهو يزور لبنان في عام هزيمة 67... كان الداغستانيون يتفاعلون مع قضايا العرب والمسلمين من قبل ومن بعد، مؤخراً وصلت أصداء مذابح غزة الإسرائيلية الأخيرة إلى شبابهم بمحاولة محاصرة الطائرة الإسرائيلية في مطار عاصمتهم، وكأنهم يستحضرون روح شاعرهم الذي احتفل أهالي طشقند بمئويته قبل شهور، حيث تُوفي رسول حمزاتوف في محج قلعة سنة 2003 بعد حياة حافلة في روسيا، وهي في ذروة بروز الاتحاد السوفياتي بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية سنة 1917، ابتدأها من قرية تسادا بجمهورية داغستان الإسلامية بولادته سنة 1923 متعلماً على يدي والده حمزة تساداسا، ومنهياً دراسته في «معهد غوركي للأدب» بموسكو سنة 1950، ليحصل على «جائزة لينين» سنة 1963 عن ديوانه «النجوم العالية»، وقد طار اسمه في الأفاق، وشغل إثرها عضوية مجلس السوفيات الأعلى عن جمهورية داغستان، الذي رأس اتحاد كتابها.
يصف رسول حمزاتوف والده بأنه عالي الثقافة، حيث تشرب حب الأدب وكتابة الشعر باللغة العربية رغم لغته الآفارية، قارئاً الشعر العربي الجاهلي والعباسي، مسحوراً بأشعار الفرزدق وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري، وبلغتها العربية قرأ كلاسيكيات الرواية الروسية المترجمة... بل وكتب شعره بها! حينما كان النطق بالعربية شائعاً على ألسنة الداغستانيين، منذ وصلت حركة الفتوحات العربية إلى أواسط آسيا الوسطى سنة 18 للهجرة، فأسفر ذلك عن تعلق الداغستانيين والبخاريين والسمرقنديين بالقرآن الكريم وعلومه الحديثية والفقهية والنحوية والبلاغية والاهتمام بالخط العربي، منذ ظهرت أولى الكتابة باللغة العربية في بداية القرن الثامن الميلادي، وأصبحت سمرقند تزود بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية بالورق طوال قرنين، مع انطلاق حركة التدوين بداية القرن الثاني الهجري، أي بين القرنين السابع والثامن الميلاديين، فزخرت مكتبات بخارى وخراسان وداغستان وباكو بآلاف المجلدات من المخطوطات، واستمر النطق بالعربية سليماً على امتداد القرون اللاحقة حتى القرن الثامن عشر الميلادي، عندما تعرضت الثقافة العربية والدين الإسلامي إلى بداية التهميش في العهد القيصري.
وأتذكر هنا تناولي هذا الموضوع في أكثر من مقال بجريدة «الرياض»، منتصف الثمانينات الميلادية، على خلفية قراءتي المنبهرة برائعة رسول حمزاتوف «داغستان بلدي» في طبعتها السورية الصادرة سنة 1982، وقد امتازت بتجنيس أدبي عابر لأنماط الكتابة السيرية والسردية والشعرية والحكايا الشعبية، فخرجت بأن حمزاتوف لم يكن في عمله البديع الآسر سوى ثمرة لسلسلة من ثقافة عربية وإسلامية عاشت متراكمة فوق أراضي الاتحاد السوفياتي قبل تفككه، إذ تم تداول الكلام العربي مدة أربعة عشر قرناً في بخارى وسمرقند وداغستان وخراسان، سمع بفصاحته وكتب بخطه في باب الأبواب والمراكز القريبة منه كلاماً سليم النطق مع استمرار وصول العوائل العربية إلى داغستان حتى القرن السابع عشر الميلادي، كما يؤكد الباحثان الداغستانيان في «أكاديمية العلوم السوفياتية» حاجي حمزاتوف وعمر شيخسعيدوف.
ومنذ القرن التاسع عشر، ساهم عرب من الشام ومصر والحجاز في نشر اللغة العربية بروسيا القيصرية، مدرسين في المعهد الدبلوماسي، بقصد تدريب الرحالة والموظفين الروس المنتدبين سفراء ودبلوماسيين إلى العالم العربي، ويأتي في طليعتهم الشيخ الأزهري محمد عياد الطنطاوي (المصري) الذي عاش وعمل وألف في بطرسبورغ، وكذلك أحمد حسين (المكي) في قازان... وبحكم إشراف روسيا القيصرية على الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين وسوريا ولبنان، عمل أدباء وتربويون من هذه الدول، مدرسين للغة العربية، بالأخص من السوريين، في بطرسبورغ وموسكو، (ميخائيل عطايا وجرجس إبراهيم وبندلي صليبا جوزي وكلثوم عودة فاسيليفا وغيرهم) مشكلين جسراً «استعرابياً» ذهبياً في المثاقفة العربية الروسية.
يذهب الباحث والدبلوماسي العراقي نجدة فتحي صفوت في كتابه «العرب في الاتحاد السوفياتي» إلى قدم الوجود العربي هناك، بوصول قبيلة بني سنان وقبيلة بني شيبان إلى آسيا الوسطى في بخارى عبر أفغانسان منذ ما يقارب القرنين والثلاثة من منتصف القرن العشرين، في حين يؤكد المؤرخ العراقي والبحاثة المجمعي الضخم د. صالح العلي في كتابه «الفتوحات الإسلامية» وما كتبه عن «أحكام الرسول محمد في الأراضي المفتوحة» و«استيطان العرب في خراسان» أن الوجود العربي قد وصل إلى آسيا الوسطى قبل ذلك بكثير على يد قتيبة بن مسلم، الذي جاء من بغداد إلى هرات ونيسابور وخراسان، مستدلاً (العلي) بأن أسماء بعض أبواب سمرقند كانت تحمل أسماء عربية، مثل باب بني سعد وباب بني سعدة، بينما يذهب باحث روسي هو ألكساندر خاتشا تريان إلى أن كتابة عربية في حصن تالين السفلى بأرمينيا، تؤكد وصول العرب إلى هناك مع السلاجقة. حين شن السلطان السلجوقي ألب أرسلان حملة غزو على بلاد الأرمن (أرمينيا) وأرض الروم (روسيا)، وفتح العديد من الحصون والقلاع، وأعطاهم إلى حاكم أران «أبي الأسوار» كي يضمها إلى مملكته سنة 170 للهجرة.
أما ما أصبح موجوداً من العرب الذين ذكرهم صفوت آنفاً، فيقدرهم بالآلاف إذ عايش بعضهم، حين عمل في السفارة العراقية بموسكو سنوات الستينات، ووصف نطقهم العربي بأنه قريب من اللهجة العراقية تارة، ولهجة بدو أواسط الجزيرة العربية... أي اللهجة النجدية تارة أخرى، لكن هؤلاء العرب الروس تعرضوا إلى الاضطهاد منذ عهد القياصرة، منظوراً إليهم أقلية قومية مستضعفة، وأثقلوا بالضرائب المستمرة حتى اضطر بعضهم - حال عرب الأندلس (الموريسكيين) أيام محاكم التفتيش الكنسية - إلى إخفاء أصولهم العربية... ومما زاد طينتهم بلة، ما قام به جوزيف ستالين من حملة قهرية مشهورة بإذابة شعوب آسيا الوسطى وغيرهم - على اختلاف إثنياتهم وأديانهم - في «شعب الجمهوريات السوفياتية»! متمركزين حول الثقافة الروسية ولغتها، خصوصاً العرب والمسلمين، ومنهم طائفة المسخليت الذين تكرر ذكرهم في أحداث المشكلات القومية، في بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، وكان هؤلاء وغيرهم من إثنيات أخرى غير سلافية تعرضوا للطرد من بلدانهم الأصلية إلى بلدان سوفياتية أخرى، وقد عانوا بالغ المعاناة من المحاولة الستالينية القمعية لمحو آثار الإسلام وثقافتهم العربية، التي كانت هي السائدة، خصوصاً لدى الداغستانيين.
من هنا يمكن تفسير تعلق حمزة تساداسا والد رسول حمزاتوف باللغة العربية، وقراءة آدابها وكتابة الشعر بها، مستنداً إلى نشوء أدب محلي ظل يكتب باللغة العربية بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هذا ما يؤكده حاجي حمزاتوف وعمر شيخسعيدوف في أكثر من بحث لهما نشرتها مجلة «أبحاث جديدة للمستعربين السوفيات - الجزء الثاني» الصادرة من «أكاديمية العلوم السوفياتية» بموسكو سنة 1987 بوجود عدد كبير من الوثائق المكتوبة باللغة العربية ذات طابع رسمي وخاص، تتعلق بمراسيم العقود والرسائل والوصايا ووثائق البيع والشراء وغيرها... هذا ما انعكس بجلاء ساطع في بيت حمزة تساداسا الذي كان يصلي سراً.
أما ابنه رسول حمزاتوف فقد بدأ كتابة قصائده باللغة الآفارية في عمر الصبا، وفي سنة 1943 نشر أول مجاميعه الشعرية باللغة نفسها التي كتب بها أشعاره الأخرى «قلبي في الجبال» و«الغرانيق» و«حوار مع أبي» و«النجوم العالية» و«مسبحة السنين» و«أيها الأصدقاء»، متوجاً نثره الشاعري برائعته الفريدة «داغستان بلدي» الذي عانى في طباعتها، فلم يحصل على الموافقة على نشرها إلا بصعوبة بالغة إبان العهد البريجنيفي.
لم لا؟ وكتابه قد أطلق صرخة ثائرة على القبضة الحديدية والخطاب الآيديولوجي.
تأمل في رده حين طلب منه محرر مجلة الحزب أن يكتب تسع أو عشر صفحات عن تطور داغستان في ذلك العهد المنصرم كتابة تمجيدية، فأجابه:
«لن أستطيع أن ألف داغستاني، بلدي، في صفحاتك التسع أو العشر
ولن أستطيع أن أكتب (مواد عن المنجزات وعن غد منطقتي الجبلية)... قلمي الصغير لا يقوى على هذا الحمل».
ويوضح رده على المحرر الحزبي بهذا التشبيه البليغ:
«لا أحد يعرف عادات حصانك خيراً منك أنت فابحث لك عن طريق خاص بك».
بينما يعلن احتجاجه في إحدى قصائده المعنونة بـ«التصفيق» رغم عضويته في مجلس السوفيات الأعلى، ضد ما كان يجري من استكانة وخضوع في مؤسسات الدولة الحزبية:
«لقد صفقنا
حتى تألمت أكفنا
حدث في السنوات التي مضت
أن احمرت أكفنا كخدودٍ خجلاً ضربناها بشدةٍ ورغبةٍ.
كم ضربنا أكفنا بنشوةٍ!
حماساً لكلمات المديح أو التسفيه
ولو كانت أكفنا أجنحة
فما أنا إلا غبي لوح بجناحيه...»
ويواصل نقده الصارخ ضد إجبار أبناء الجمهوريات الإسلامية على تغيير أسمائهم العربية إلى النسبة بالأسماء الروسية، قائلاً في إحدى التماعاته المدهشة في كتابه «داغستان بلدي»:
كان ميخائيل غريغوريفتش حسينوف في لجنة منطقة حزبية قد غير اسمه من محمد. غصب عليه والده وقد غير اسمه من حسن إلى غريغوري بسبب تنطعه الحزبي الذي حينما اختلف مع صاحبه غير العقائدي مما جعل أحد الشعراء يكتب مقطعاً شعرياً ساخراً:
(تبدد الضباب في الجبال
فالطريق أمامك واضح
أغنامك أيها الراعي
سر بها إلى الشيوعية!)
برز تماهييه في روح داغستان الإسلامية واضحاً في قصيدته «معنى القرآن العظيم» معلناً بشجاعة ما كان يخفيه والده المتيم بقراءة القران وأداء الصلاة سراً
إن رسول حمزاتوف لا يطيق الانسلاخ من الجلد قط، لذلك لم يحسن النطق تماماً باللغة الروسية رغم روسيته! كان مترجمون روس ينقلون شعره إلى جماهير معجبيه الروس بلغتهم:
«بعض أصدقائي الأفاريين غادروا قراهم وذهبوا يعيشون في المدن الكبيرة الروسية... حين تحدثت إليهم فوجدت أن اللغة التي يتحدثون بها ليست الآفارية، ولم تكن الروسية فذكرني هذا بغابة يعبث بها خطابون بلداء.
كان والدا شاب يعارضان في زواجه من فتاة روسية لكن الفتاة كانت تحب فتاها الآفاري وذات يوم استلم منها رسالة باللغة الآفارية.
أرى الشاب والديهم الرسالة. قرآها غير مصدقين ومن شدة ذهولهما سمحا لابنهما بأن يأتي بالفتاة إلى بيتهما».
إن تعلق حمزاتوف الأمومي بداغستان يعبر عن أصالة انتماء وحب صوفي لشعبه، المتذمر من محاولة ستالين قولبة داغستان وشعوب الجمهوريات الإسلامية قسراً في دولة سوفياتية واحدة:
«داغستان، يا ملحمتي،
كيف لي ألاّ أصلّي من أجلك،
ألاّ أحبك،
وھل يمكنني أن أطير بعيداً عن سرِب الغرانيق في سمائك؟ داغستان: كلَّ ما أعطاه الناس لي، أتقاسمه بالعدل معك، أوسمتي وجوائزي
سأعلِّقُھا على قِممك ..
تنظر قريتي إلى الأسفل محصورة بين الجبال..
كما العش الھش في الصخور العالية
يقف بيتي معلَّقاً فوق الھاوية
فأنا ولْدت لداغستانية فقيرة
في أصعِب عام من أعوام الجوع».
وبرز تماهييه بروح داغستان الإسلامية واضحاً في قصيدته «معنى القرآن العظيم» معلناً بشجاعة ما كان يخفيه والده، المتيم بقراءة القرآن وأداء الصلاة سراً:
«أي شاعر أنا إذا لم تبتهج روحي بمعنى القرآن العظيم».
منحنياً أمام الشعراء العرب، وقد تأثر عن طريق والده بهم خصوصاً أبا العلاء المعري:
«أنحني أمامكم أنا الهباء التافه.
لقد عرفتم الحكمة والوصايا، لقّنكم إياها من الأعالي الله».
هل لهذا وجد نفسه مندفعاً في أخريات عمره نحو شمس الصحراء العربية مفتوناً بلياليها القمراء وعبقها الروحي، وهو يحل في المملكة العربية السعودية سنة 1995 معتمراً في مكة المكرمة وزائراً النبي العربي، حيث دفن في المدينة المنورة محارب القياصرة محمد شامل، البطل الداغستاني الذي طالما ردد رسول حمزاتوف اسمه بإعجاب في رائعته، بل قل ملحمته الذائعة «داغستان بلدي»؟