الكتابة... رهاب الضوء وقدر السواد

تتحول عند البعض إلى زيغ ينبغي التستر على معالمه

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

الكتابة... رهاب الضوء وقدر السواد

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

ليس للكتابة لون مرئي إلا على جهة المجاز، وإن تجلى الحديث عن النصوص دوماً ممهوراً بمقامات الضياء وتدرجات البياض والسواد والزرقة والحمرة والاخضرار... مثلما أن جعل الكتابة مقترنة بسلوك الكائن تظهر، بمنحى ما، سعي النقاد إلى إدراك مغزى التداول، في محدوديته أو في انتشاره وصولاً إلى تسلطه. وفي الأساس قد تقترن الكتابة بالهروب من الكلام، والتصريح بالمشاعر والأفكار أمام الملأ. فنون بكاملها نشأت لمداراة الحياء من القول المباشر، من الغزل إلى الهجاء إلى السيرة إلى روايات العواطف والجسد... تغدو الكتابة هنا حجاباً يستر ذات المتكلم الذي يحس نفسه عارياً أمام متلقيه حين ينطق ويحاور، وكأنها شيء مستقل أو يتعلق بذات أخرى لن يسلط عليها الضوء. فهذا الأخير تحديداً هو ما يؤرق المبدعين ويولّد رهاب الوجود خارج الورق. ويمكن الحديث عن روائيين وشعراء وقصاصين ونقاد مأخوذين بالظلال، لدرجة أن فعل الكتابة يتحول لديهم إلى زيغ تنبغي مداراته، والتستر على معالمه، أو على الأقل يجب أن يبقى مفصولاً عن وجودهم الاجتماعي. لهذا قد يواجه المرء في مجتمع القراءة نعتاً من قبيل «انعدام الحياء» بوصفه معادلاً للتولع بالظهور، مع قصور في الإنجاز وتسرع في النشر، فضعف القيمة متصل، للمفارقة، بالشجاعة والجرأة، إذ الكتابة السيئة مقدامة في عمقها لا تخيفها الأحكام ولا تضيرها الفضائح. والكاتب السيّئ وحده من يتقن العيش خارج الكتابة بادعائها، وربطها بشروط تعوّم قيمتها وتحتفظ فقط بمظاهرها الخارجية، التي تذلل المنابر والشاشات والمنصات.

سولجنيتسين

في المقابل، يمكن استحضار التمنع (العبثي) الذي يبديه روائيون ونقاد وفلاسفة وشعراء في الاستجابة لحفلات التوقيع والحديث عن تجاربهم، يجب تفهم التمنع، بوصفه خوفاً من فقدان الهالة المتصلة بالخفاء، وصوناً لرمزية الاسم من جبروت الضوء والعلن، وللكتابة من التحول لاحتفال حارق، شيء لا علاقة له بالتعالي أو قلة الذوق. إنما هو الرغبة في عيش الكتابة داخلياً ورمزياً. لهذا يجب تفهم ذلك العنف التلقائي غير المؤذي الذي يرافق سلوك الكاتب الحي، فهو يداري في العمق هشاشة راسخة ليس منها برء، في محيط معادٍ للكتابة. ولا غرابة أن يحوله أحياناً إلى كائن خطر. وكأنما العنف قرين الخفاء وصنوه ومجنّه في الحياة والإبداع، ذلك ما يلمس من سير جان جنيه ويحيى الطاهر عبد الله وغالب هلسا ومحمد شكري وسركون بولص، ممن صيغت جبلتهم من سبيكة هشاشة وعنف.

وجود الكاتب في مشهد توقيع أمر قد يدعو للارتياب في القيمة؛ طاولة وقلة من المنتظرين لدورهم في مكتبة أو قاعة ندوات، بخلاف حفلات افتتاح المعارض الفنية، المكتسحة بالأضواء. يوحي الأمر وكأن التقاطب نهائي، والمكانة ظاهرة لمن له القدر المعلَّى في مجتمعات السلطة؛ لكن بإنعام النظر في تفاصيل المشهد يتضح أن الصورة خادعة إلى حد كبير، بالنظر إلى مصائر المتوسلين بالمكتوب من جهة والمرئي، من جهة ثانية، في مدارات السطوة والتجلي. حيث ظلت الكتابة طموحاً مؤرقاً لكل الحكام، وموهبة يتوق إلى الظهور بها الديمقراطيون والمستبدون، الحكام والمعارضون. في الآن الذي لم يكن فيه الانشغال بالرسم يشكل رهاناً متصلاً بممارسة السلطة. فغير بعيد عن المسجد الأزرق في إسطنبول، وضمن عشرات المقابر المنجمة في المدينة النائمة على أديم من أجساد الجنود والسلاطين والتجار والحرفيين الناطقين بلغات الشرق المتعددة، توجد مقبرة لا توحي بأهمية ما تحتضنه من لحود، في المدينة الموزعة بين تخوم الشرق والغرب. لكن لوحة مثبتة عند المدخل تشرح أنها تخص كتاباً أتراكاً، وبدخولك إليها وتجولك بين مقابرها ستكتشف أن كل الأسماء المخطوطة على شواهد القبور هي لـ«باشوات»، أو بالأحرى «كتّاب باشوات»؛ قادة في الجيش وموظفون سامون وسفراء، ووزراء في حكومات السلاطين. وفي مقابل هذه المقبرة نعثر على عشرات اللوحات في قصور السلاطين، بورتريهات ولوحات لمناظر طبيعية وقصور... وأحياناً لا نعرف حتى اسم الفنان الذي رسمها، يمكن أن يكون شخصاً صاحب حظوة كبيرة لدى السلطان، ويمكن أن يحوز قدراً كبيراً من الثراء، لكنه يظل رغم ذلك مغموراً. تُذكّر هذه التفاصيل بوظيفة شديدة الأهمية في بلاطات الملوك الأوروبيين إلى حدود القرن التاسع عشر، هي «رسام الملك»، التي شغلها عدد كبير من مشاهير الفنانين، لعل أبرزهم الإسباني فرنسيسكو غويا الذي كان رساماً لفرناندو السابع، لكنه لم يكن يتطلع إلى أي دور غير أن يخلد اسمه في أعمال تبجل القصور وعوالم ضيائها المبهرة، ولم ينشغل مثل ابن خلدون أو المتنبي ومئات غيرهما بالجلوس على كرسي الأمير ذاته.

لوحة « إعدام» لغويا

لكن، في المقابل، ستبدو الكتابة ملتبسة بالسواد، وبالمصائر السوداء، مثلما يلتبس المعنى بالأعماق الموحشة. والشيء المؤكد أن الأمر لا يتعلق بأي نزوع عرقي، أو عنصري، حين تسعى مختلف التعابير الروائية والمسرحية والشعرية إلى التعلق بالمضمرات والزوايا المعتمة، وتلك التي لا تحتمل الأضواء أو البياض، لكن تشوفها الدائم إلى استخدام الأقنعة يجعل الأدب متصلاً في وجوده بجدل لوني، حيث الالتباس يكسب الحقائق وجوها عديدة، لهذا فحتى حين ننظر إلى السواد بوصفه الوجه الظاهر للحروف والكلمات، لحظة رسمها بالحبر على الورق، فإن حقيقة تطلعها إلى البياض والإشراق يبقى انشغالاً وجودياً وغير محدود في الزمن.

لكن السواد الأدبي، بوصفه قدراً محزناً، وهوية لا تبعث على الارتياح، لا ينحصر في عتبات الحبر والقاع المظلم والمعنى الباطني، وإنما يتخطاها إلى السريرة النفسية غير السوية، والعدوانية تجاه ما يوجد خارج لحائها بمعنى ما، وإلى العواطف الدالة على نزوع شيطاني؛ فما يمكن أن نسميه تجاوزاً بـ«الشر الأدبي» هو جزء من إنسانية الكتابة، وهو ما يميزها عن الخطابات الطهرانية والسرديات المقدسة، فلا يمكن أن نعزل الرواية الحديثة عن السعي المتأصل إلى تصفية الحساب مع المحيط والمجتمع والذاكرة واللغة أيضاً، فما البلاغة الروائية في النهاية إلا تحايلاً وتلاعباً بالأصوات، وإيهاماً وإثارة وسخرية، وسعياً للإقناع بوجهة نظر فرد بصدد جماعة. السواد والسوداوية والشر الأسود في هذا السياق مكونات جوهرية، في التعبير الروائي، ما دامت مهارات التمثيل والتخييل والتصوير تستند في اشتغالها على مثالب شخصية قد تبدأ بولع الاغتياب ولا تنتهي بتأصّل الحسد، في مقام نثري قد يبدو وقوراً؛ فلا قدرة إبداعية لتبيين الوجود «مع» أو «ضد»، دون ضغائن تجاه العالم.

وجود الكاتب في مشهد توقيع أمر قد يدعو للارتياب في القيمة - طاولة وقلة من المنتظرين لدورهم في مكتبة أو قاعة ندوات

ومنذ مجتمع بيزنطة الذي أُحرقت فيه كتابات الراهب آريوس، ومُنِعت من التداول، ظهر للوجود تدريجياً ما سُمي بـ«القوائم السوداء»، ولم تنفصل ما تضمنته من إرادة منع ونبذ ومصادرة، منذ بداياتها المبكرة تلك، عن مجال الخفاء؛ فالقوائم السوداء، سواء أكانت لأشخاص أو لكتب، لا تُعلن على رؤوس الأشهاد، وإنما تظل في الغالب تشتغل في العوالم السرية، ينكرها واضعوها، ويسعون إلى تعميمها في العتمة، على نحو شبيه بإطلاق الرصاص عبر كاتم صوت.

القوائم السوداء قاعدة أساسية في مجتمع الأدب، وليس القصد هنا، فقط، تلك القوائم الرسمية التي تضعها الأنظمة التسلطية ببلاهة، لمحاصرة أعمال محددة ومنعها من الانتشار، من مثل «آيات شيطانية» لسلمان رشدي أو «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ أو «أرخبيل غولاغ» لألكسندر سولجنيتسين، وإنما تلك الإرادة الجماعية التي تمنع أسماء وتيارات ومفاهيم من التداول، تلك الرغبة في إشاعة الصمت تجاه كتابات حقيقية، وجعلها رهينة الدهاليز المعتمة، لأسباب متصلة بالأهواء والعواطف، إنها الإرادة التي تجسد الوجه المعلن لـ«السواد الأدبي».


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية
TT

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

«الأديب الثقافية»: محور عن الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية

صدر العدد العاشر من مجلة «الأديب الثقافية - صيف 2024»، وهي مجلة فصلية عراقية تُعنى بـ«قضايا الحداثة والحداثة البعدية»، يرأس تحريرها الكاتب العراقي عباس عبد جاسم، وقد تضمّنت دراسات وبحوثاً ومقالات ثقافية مختلفة.

كتب رئيس التحرير «افتتاحية» العدد بعنوان «أسلمة العروبة أم عوربة الإسلام».

وتضمّن حقل «بحوث» ثلاث دراسات؛ «أدونيس بين النص والشخص» للشاعر والناقد والمترجم عبد الكريم كاصد، إذ «يكرّر أدونيس في حديث له أخير، ما قاله سابقاً في مناسبات كثيرة، وهو أن القارئ العربي غير معني بالنص قدّر عنايته بالشخص الذي يقرأ له، وبعبارة أخرى أنه يقرأ النص، فما يشغله هو الشخص ذاته كما يفهمه القارئ من خلال الصورة التي كوّنها عنه، الصورة التي قد تكون مفارقة تماماً للصورة الحقيقية للشخص».

والدراسة الثانية «الخطاطة المعرفية: المفهوم وتعدّد التسميات» للناقدة الدكتورة وسن عبد المنعم، وذلك من خلال تفكيك «المتوالية القصصية» للدكتور ثائر العذاري، وفيه تسعى إلى التوصل لمفهوم جديد للنقد المتفكّر بآركيولوجية معرفية، من منطلق ما يصطلح عليه بـ«الخطاطة المعرفية» من حيث المفهوم العابر للنقد الأدبي، بوصفها تمثّل أهم الثيمات المفصلية في التحولات المعرفية ما بعد الحداثية بأفق سوسيو ثقافي أوسع.ونشر الدكتور فاضل عبود التميمي «قراءة في ضوء الدراسات الثقافية» لـ«يوميات الطفولة في سيرة - أمواج» للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم.

وتقدّم «الأديب الثقافية» محور «الدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية» بأفق نقدي موسع، يضم دراسات لنقاد وأكاديميين عرب وعراقيين، منها: مشروعية ما بعد الأكاديمية في النقد العربي المعاصر - للدكتورة آمنة بلعلي من الجزائر/ ما بعد المنهج: مسارات النقد العربي المعاصر من التمثل إلى الكاوس - للدكتور فيصل حصيد من الجزائر أيضاً/ المفاتيح الإجرائية للمرحلة ما بعد الأكاديمية - للدكتور محمد سالم سعد الله/ النقد العربي ما بعد الأكاديمي (قفزة نوعية برهانات كبيرة) - للدكتور عبد العالي بوطيب من المغرب/ المقاربات البينية أفقاً للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتور عبد الحق بلعابد من جامعة قطر/ النقد وسلطة المؤسسة - للدكتور سامي محمد عبابنة من الأردن/ الممهدات النظرية والفكرية للدراسات النقدية ما بعد الأكاديمية - للدكتورة إنصاف سلمان/ مقدمة في الفكر النقدي لما بعد النظرية النقدية - عباس عبد جاسم.

وفي حقل «ثقافة عالمية»، نشر المترجم والكاتب المغربي عبد الرحيم نور الدين ترجمة لـ«حوار بين المفكر الأميركي مايكل ساندل والفيلسوف الاستراقام إلى بيتر سينجر»، وتضمن مستويات متعدّدة من الفكر والفلسفة: «العدالة في العالم/ الأخلاق/ منطق السوق/ الثقافة النفعية». وفي حقل «نصوص» أسهمت الشاعرة والروائية العراقية المغتربة نضال القاضي بقصيدة حملت عنوان «يممت وجهي».

وفي حقل «تشكيل» كتب عبد الكريم كاصد مقالة بعنوان «تعبيريون: كاندنسكي، مونتر، والفارس الأزرق» عن معرض تشكيلي شامل.

وفي حقل «نقطة ابتداء»، تناول الدكتور عبد العظيم السلطاني «محنة قصيدة النثر»، إذ استتبع فيها العلامات الفارقة في تاريخ قصيدة النثر من حيث التنظير لها والمنجز منها، ابتداء من كتابها في مجلة «شعر» في بيروت مثل أدونيس وأنسي الحاج، وغيرهما، ومحمد الماغوط قبلهما، وتوقف عند النقاط المفصلية لمأزق قصيدة النثر ومحنتها في المرحلة الراهنة.

وتصدر «الأديب الثقافية» بطبعتين؛ ورقية وإلكترونية في آن واحد.