عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت مختارات شعرية للشاعر السوري نوري الجراح تحت عنوان «ألواح أورفيوس». اختارت القصائد وقدمت لها الدكتورة ناهد راحيل. وهي تغطي مراحل عدة في تطور تجربة الجراح الشعرية، تقع المختارات في 305 صفحات، ومما جاء في المقدمة:
«يقدم الجراح عبر مسيرته سردية شعرية مضادة تمثل الذات في صورتها الحقيقية، يواجه بها الخطاب الرسمي الذي عادة ما يمتلك طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد أنواع الخطابات الأخرى الممكنة، لذلك يعمد الجراح إلى استعادة الدور الحضاري للشرق في الحضارة الإنسانية وتشكيل الهويات المفقودة وإعادة بنائها بعيداً عن سيرورات سوء التعرف التاريخية...».
ويمكن تعريف النصوص الشعرية التخييلية بالذات بأنها تلك النصوص التي يمكن أن يكون للقارئ فيها دوافع ليعتقد، انطلاقاً من التشابهات التي اكتشفها، أن هناك تطابقاً بين الشاعر والشخصية الرئيسية، في حين أن الشاعر اختار أن ينكر هذا التطابق، أو على الأقل اختار ألا يؤكده عبر استخدامه عدداً من الحيل الفنية التي تعينه على ذلك.
وعند التعامل مع الخطاب الشعري لنوري الجراح لا يمكننا تجاهل تلك الظاهرة الواضحة المتعلقة بالتناول الواسع لذاته ولشخصيته الحقيقية بوصفها موضوعاً للقصيدة سواء بتصريح نصي منه أو بإيهام بالتصريح.
فقد تحوّلت شخصية الشاعر الخارج نصية إلى جزء لا يتجزأ من خطابه الشعري، حتى إنه من الممكن القول إن المتلقي قد يجد صعوبة في إدراك شعرية خطابه لو لم يكن على دراية بحياته والمؤثرات التي أثرت عليه وكوّنت شخصيته. وعلى النقيض فإنه لن يعي شخصيته إلا عندما يقف على قصائده وخصوصيتها، وما تحمله من ذاتية تؤهله لاستقبالها وتلقي خطابها؛ حيث يجد القارئ نفسه أمام شاعر أوجد لنصه استراتيجية خاصة تقوم بتهجين الشعر بالسرد، وأقام علاقة متبادلة بين الذاكرة والتخييل على اعتبار أن مادة القصيدة الخام هي الحياة الخاصة التي عاشها الشاعر، التي سيقوم بسردها في النص الشعري.
وانطلاقاً من تلك الذاتية، نجد أن الجراح يشبه أشعاره؛ فهو لا يتعامل مع القصيدة بوصفها وسيلة، بل بوصفه هو نفسه جسد القصيدة، فقد عُرف بخطابه التخييلي الذاتي، فهو شاعر يحوي إنتاجه الأدبي العديد من تجاربه الشخصية.
وقد مال الجراح إلى استخدام الترميز للإلماح بهذه الذاتية عبر استخدام تقنيات عدة؛ أولها استخدام الشخصية المطابقة أو النموذج، ثم اللجوء إلى تقنية التقنع بالشخصيات التراثية.
والنموذج، كما قال فيليب لوجون، هو النسخة المطابقة والواقع الذي يدعي الشاعر أنه يشبهه، فتكون علاقة الذات الشاعرة (داخل النص) بالنموذج (خارج النص) هي بالتأكيد علاقة تطابق بشكل عام، لكنها بالخصوص علاقة مشابهة؛ فكان النموذج هو الممارسة الشعرية التي اعتمد عليها الجراح في استعادة تجاربه الذاتية وإعادة تأويلها وفق منظور جديد يقترب من/ يبتعد عن المرجع الواقعي الخاص بحياته المعلن عنها من قبل.
تطالعنا المجموعة الشعرية «الصبي» (1978-1982) بتوظيف النسخة المطابقة، وهي المجموعة الأولى للجراح؛ حيث انفتاح وعيه المبكر على واقعه وبداية اشتعال التجربة الشِّعرية، فعبر تقنية المونولوج وضمير المتكلم «أنا» الذي يناسب البوح دائماً، تستعيد الذات الشاعرة في القصيدة -التي حملت العنوان نفسه - مرحلة التكوين:
صباحُ الخير أيتها المُعَلِّمة
أنا ولدٌ لا يطيق الدُّروس
وها أنذا أمدُّ يدي
لأتناول نصيبيَ من عصاكِ السَّاحرة.
ثم يعود للسرد بضمير الغياب، مما عمل على التفاعل المستمر بين الواقعي والمتخيل؛ حيث يتنقل الشاعر بين السرد الذاتي من خلال ضمير المتكلم الذي يحيل على ذات الشاعرة مباشرة، والسرد الموضوعي من خلال ضمير الغائب الذي يحيل على النموذج (الصبي) الذي يبدأ مسيرة التمرد:
الصَّبيُّ المولعُ بالشَّمسِ وتسلُّقِ الأشجارِ
والذي يرى نجوماً في الصباحاتِ
سوف يفتحُ عينيه فجاءةً
ويطرحُ أسئلتَه على النَّهر.