مجسم أنثوي من «قلعة البحرين»

يتبع نسقاً فنياً تكوّن في جنوب بلاد الرافدين

مجسّم أنثوي من «قلعة البحرين» يقابله مجسم من «متحف اللوفر» ومجسم من «متحف أشموليان» ومجسم من «المتحف البريطاني»
مجسّم أنثوي من «قلعة البحرين» يقابله مجسم من «متحف اللوفر» ومجسم من «متحف أشموليان» ومجسم من «المتحف البريطاني»
TT

مجسم أنثوي من «قلعة البحرين»

مجسّم أنثوي من «قلعة البحرين» يقابله مجسم من «متحف اللوفر» ومجسم من «متحف أشموليان» ومجسم من «المتحف البريطاني»
مجسّم أنثوي من «قلعة البحرين» يقابله مجسم من «متحف اللوفر» ومجسم من «متحف أشموليان» ومجسم من «المتحف البريطاني»

يحتفظ «متحف قلعة البحرين» بمجموعة من الآثار التي خرجت من بين أطلال الموقع الأثري الذي يحمل اسمه؛ منها مجسم أنثوي صغير صُنع من الطين المحروق، يعود، كما يبدو، إلى مطلع الألفية الثانية قبل ميلاد المسيح. وصل هذا المجسّم بشكل مجتزأ؛ إذ فقد رأسه وقدميه، غير أنه حافظ على تكوينه الأساسي. يتبع هذا التكوين نسقاً فنياً تكوّن في جنوب بلاد الرافدين خلال العهد السومري، وشاع في أنحاء واسعة من تلك البلاد خلال العهود التالية، كما يُستدل من الشواهد الأثرية الكثيرة التي تمثّله.

تقع «قلعة البحرين» في ضاحية السيف؛ حيث ترتفع فوق تل يشرف على شاطئ البحر في الجهة الشمالية من الجزيرة، بين قرية كرباباد من جهة الشرق وقرية عبد الصالح من جهتي الجنوب والغرب. خرج هذا الموقع من الظل إلى النور في الخمسينات من القرن الماضي، حيث قادت بعثة دنماركية أعمال البحث والتنقيب فيه على مدى سبع سنوات، تحت إشراف العالم بيتر غلوب وتلميذه البروفسور توماس جيفري بيبي، وتبيّن أن عمق طبقات الموقع يزيد على ثمانية أمتار، وفي ثنايا هذه الطبقات، تراكمت مدن عدة بنيت بعضها فوق بعض على مرّ العصور، أقدمها مدينة أنشئت على الأرض البكر ونمت فيها في الفترة الممتدة من عام 2800 إلى عام 2300 قبل الميلاد.

في تلك الحقبة، احتلت البحرين موقعاً رئيساً في إقليم عُرف باسم «دلمون»، شكّل مركزاً تجارياً متوسطاً بين حضارة بلاد ما بين النهرين وحضارة وادي السند، وقد حافظت على هذا الموقع في فترة تالية استمرّت على مدى خمسة قرون من الزمن، كما تؤكّد الشواهد واللقى الأثرية المتعدّدة التي جمعتها البعثة الدنماركية خلال أعمال الاستكشاف والمسح والتنقيب. يعود المجسّم الأنثوي إلى هذه المدينة الدلمونية الأولى، وقد عُثر عليه في ركن مجاور للسور الشمالي للقلعة، وهو من الحجم الصغير، ويبلغ طوله 9.5 سنتيمتر، وعرضه 4 سنتيمترات. فقد هذا المجسّم رأسه بشكل كامل، كما فقد الجزء الأسفل من ساقيه، وما تبقّى منه يكشف عن امرأة ذات صدر مكتنز، تقف منتصبة القوام، رافعة يديها المتشابكتين فوق محيط بطنها، قابضة بكفّها اليمنى على كفّها اليسرى، ووفقاً لوضعية ثابتة عُرفت في بلاد النهرين بشكل واسع.

نسب عالم الآثار البريطاني السير تشارلز ليونارد وولي هذا الطراز إلى العصر المعروف باسم «عصر لارسا»، وهو عصر أسرة أور الثالثة التي أسسها الأمير أو نامو بمدينة أور الواقعة في تل المقير جنوب العراق. بلغ عدد ملوك هذه الأسرة خمسة، وحكموا أكثر من مائة سنة، من 2111 إلى 2006 قبل الميلاد، وفي تلك الحقبة، سطعت الحضارة السومرية وتقدّمت تقدماً ملحوظاً في سائر حقول المعرفة، وغدت أور قبلة الشرق القديم. تظهر المجسمات الأنثوية ذوات الأيدي المتشابكة في هذه المدينة الأثرية خلال هذا العهد، كما تظهر في نواح أخرى من بلاد الرافدين، وشواهدها الأثرية لا تُحصى، ومنها تلك التي كشفت عنها بعثة أثرية قامت بها «جامعة متحف فيلادلفيا» بالتعاون مع «المعهد الشرقي» التابع لجامعة شيكاغو في مدينة نيبور التي تُعرف كذلك باسم نفر، وتقع في منطقة الفرات الأوسط، حيث تتبع في زمننا قضاء عفك بمحافظة القادسية.

من الحي المعروف باسم حي الكتبة في نيبور، خرجت مجسمات أنثوية عدة تتبع هذا الطراز. ويحتفظ «متحف المعهد الشرقي» في شيكاغو بمجسمات مشابهة مصدرها موقع تل أسمر وموقع تل إشجالي بمحافظة ديالى في شرق العراق. ويتجلّى هذا الطراز في مجسم محفوظ بـ«المتحف البريطاني»، عثر عليه السير تشارلز ليونارد وولي في ناحية من نواحي أور تُعرف باسم دقداقة. كذلك، يحتفظ «متحف اللوفر» في باريس بمجموعة أخرى من هذه المجسمات، مصدرها مدينة شوشان التي تُعرف كذلك باسم سوسة، وتقبع أسفل جبال زاغروس التي تقع غرب إيران وشرق العراق، وتُعدّ ثاني أعلى سلسلة جبلية في إيران، كما أنها تضم أعلى قمة جبلية في العراق. تعود هذه المجسمات إلى عصر سلالة سوكل ماخ التي سادت في حقبة امتدت من عام 2000 إلى عام 1500 قبل الميلاد، حكمت فيها إقليماً من أقاليم مملكة عيلام، شكّل امتداداً لحضارة بلاد ما بين النهرين.

يحتفظ «متحف المعهد الشرقي» في شيكاغو بمجسمات مشابهة مصدرها موقع تل أسمر وموقع تل إشجالي بمحافظة ديالى في شرق العراق

تتبع هذه النماذج المختلفة طرازاً واحداً جامعاً تظهر ملامحه بشكل خاص في تجسيم الصدر المكتنز، والاستقامة الواضحة في خطوط الفخذين والساقين. في المقابل، تُظهر هذه النماذج تبايناً واضحاً في رؤوسها، ويظهر هذا التباين في تعدّدية الأساليب المتبعة في نقش تسريحات خصل الشعر، وفي العناصر التي تزينها. في أغلب الأحيان، تظهر المرأة بمنديل يلتف حول رأسها، يحدّ طرفه شريط أنيق ينعقد حول أعلى الجبين، غير أن هذا المنديل يغيب في بعض الأحيان، كما يشهد مجسم من العصر البرونزي محفوظ في «متحف أشموليان التاريخي» بمدينة أكسفورد البريطانية، يعود إلى العهد الأكادي أو العهد البابلي القديم، ويمثل امرأة في الوضعية المعهودة، يكلّل رأسها تاج عريض. فقد مجسّم رأسه بشكل كامل للأسف، وفي غياب هذا الرأس، بات تحديد مواصفاته أمراً مستحيلاً.

تواصل إنتاج هذه المجسمات الأنثوية في العصور التالية، ونقع على نماذج منها تعود إلى النصف الأول من الألفية الأولى قبل المسيح، وتمثّل امتداد هذا التقليد الفني إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الحديثة، وعهد الإمبراطورية البابلية الحديثة. تختلف آراء المختصين في تحديد هوية هذه المجسمات الأنثوية ووظيفتها؛ إذا يرى البعض أنها تُمثّل معبودة تعددت أسماؤها وفق المواقع الجغرافية والحقب التاريخية، ويرى البعض الآخر أنها تُمثّل كاهنات مكرسات لهذه المعبودة، وتُجمع الآراء على القول إن هذه المجسمات تشكّل طرازاً من الطُرز التي تمثل الخصوبة في بلاد ما بين النهرين وجوارها.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون دانيال دينيكولا

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟
TT

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

البيوت في الحرب... ملاذنا الآمن أم أجسادنا المخلعة؟

لطالما كانت البيوت، بأشكالها وأنماطها كافة، ظهير حيواتنا الأوفى، والسجل الرمزي الذي يؤرّخ لحظة بلحظة، لتحولات أعمارنا منذ صرخة الولادة وحتى ذبول الأنفاس. وسواء اتخذت البيوت شكل الكهوف والمغاور زمن الأسلاف البدائيين، أو شكل المنازل المتواضعة والبيوت الطينية البسيطة في الريف الوادع، أو ارتفعت قصوراً باذخة وأبنية شاهقة في المدن المعولمة، فهي تظل بالنسبة لقاطنيها، الحاضنة والكنف وفسحة الطمأنينة والملاذ الآمن.

وقد يكون الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، أحد أكثر الفلاسفة المعاصرين احتفاءً بالبيوت، وتغنياً بما تمثله من وداعة العيش ودفء الوجود الأصلي. وهو ما يبدو على نحو جلي، في كتابه الفريد «جماليات المكان»، حيث يؤالف على طريقته بين الفلسفة والشعر، وبين الحواس والحدوس، راسماً للبيوت صورتها المحمولة على أجنحة التأويل، ومتحدثاً عن دلالات المداخل وغرف الاستقبال والطعام والنوم، ومتنقلاً بين أحشاء الأقبية وفضاء الشرفات. والبيوت عند باشلار ليست الأماكن التي تحتوي على الزمن مكثفاً فحسب، بل هي الدروع الصلبة التي تعصم الإنسان من التفتت، و«تحميه من أهوال الأرض وعواصف السماء». والبشر الأوائل الذين كانوا يكبرون في أماكن مبهمة ومجهولة الأسماء، بدأوا بعد مكابدات طويلة وشاقة «يتعرفون إلى المكان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً. كما أخذوا يلقون فيه جذورهم ويتوجهون نحوه بالحب، وحين يبتعدون عنه يُفضون بحنينهم إليه، ويكتبون عنه أشعار الشوق وكأنهم عشاق».

وإذا كان الشعراء والكتاب والفنانون قد أولوا البيوت الكثير من الاهتمام، وأفردوا لها عبر العصور الكثير من القصائد واللوحات والأغاني، فليس غريباً أن يتوقف الشعراء العرب ملياً عند ما وفَّرته البيوت لهم من مشاعر السكينة والأمان، وسط الخلاء الصحراوي المفتوح على المجهول، والمثخن بالوحشة والخوف والاقتتال الدائم. وسواء كانت طينية أم حجرية، خياماً أم مضارب، فقد سمى العرب البيوت منازل؛ لأنهم يدركون في قرارتهم أنهم سكانها المؤقتون الذين ينزلون في ضيافتها، ويحطون بين ظهرانيها رحالهم، ويودعونها أجسادهم الآيلة إلى موت محقق. والأرجح أن اتسام تلك الأماكن بالهشاشة، وافتقارها إلى الصلابة والثبات، هو الذي دفع العرب الأقدمين إلى أن يطلقوا اسم البيت، على السطر الشعري المؤلف من شطرين متناظرين، والذي يتكرر بالطريقة نفسها على امتداد القصيدة، كما لو أنهم رأوا في الشعر، الظهير الرمزي الذي يعصمهم من الزوال، ويوفر لهم سبل الالتئام وأسباب الخلود.

ومع أن امرأ القيس قد أعطى الأولوية للحبيب على المنزل، وهو يصعد سلم البكاء الطللي، فإن ذلك لا يقلل أبداً من قيمة المنازل، بقدر ما يؤكد على اعتبارها امتداداً لأجساد ساكنيها ووعاءً لأرواحهم، وخزاناً لذكرياتهم وحنينهم العصي على النفاد. ولهذا السبب حذا الشعراء اللاحقون حذو سابقيهم، فاحتفى أبو تمام بالبيوت التي سكنها بصورة متتابعة، جاعلاً الحنين إلى المنزل الأول، صورة من صور الحنين إلى الحبيب الأول الأول. وهو ما عبر عنه في بيتيه الشهيرين:

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزلِ

ومثلما فعل أبو تمام، هتف المتنبي بحرقة مماثلة:

لك يا منازل في القلوب منازلُ

أقفرتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهلُ

ولعلنا في ضوء هذه التوطئة نستطيع أن ندرك السبب الذي يدفع الغزاة والمحتلين، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا، إلى جعل البيوت جزءاً لا يتجزأ من غنائم الحرب، حتى إذا تعذر القبض عليها بصورتها السليمة، تم إحراقها وتحويلها رماداً، أو تدميرها وتسويتها بالأرض. ولعل ما فعلته قوى الاحتلال الإسرائيلي ببيوت غزة والضفة ولبنان، هو الشاهد الأبلغ على ما تقَدم. فما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها، بلا إنذار مسبق، أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟ وما الذي يعنيه انقضاض الطائرات المحملة بالقذائف الفتاكة على البشر الآمنين لتسوية أحياء كاملة بالأرض، ودون تمييز بين المقاتلين والبشر العزّل؟ ألا تعبّر النشوة الغامرة التي يعيشها الطيارون المطلون من شاهق على المدن والقرى المكلفين تدميرها، عن نزوع سادي، مماثل تماماً لذلك الذي انتاب نيرون، وهو يحوّل روما التي أحرقها لوحة بصرية ممتعة، أو لذلك الذي حمل في أحشاء طائرته قنبلة هيروشيما، منتشياً بمشهد المدينة التي تحولت خلال لحظات قليلة ركاماً؟ والمؤلم ألا يكون هذا النزوع مقتصراً على أفراد بعينهم، بل تتسع دائرته لتشمل الجماعة الإثنية أو السياسية التي يمثلونها، والتي لا ترضى بأقل من إبادة الآخر ومحوه من الوجود، بذرائع أسطورية ولاهوتية تم اختلاقها لمثل هذه الأهداف؟

إن أكثر ما يُشعر المرء بالصدمة في هذه المحرقة التي تسمى حرباً، أن ذلك الذي أطلق بالأطنان صواريخه وقنابله المتفجرة فوق غزة أو بيروت، متسبباً بانكماش المباني على نفسها كالصفيح، لم يقْدم على ذلك بتأثير نوبة غضب أو خروج عصبي عن السيطرة، بل فعل ذلك عامداً ومدفوعاً بدم الآيديولوجيا البارد، وبحقه المزعوم في إبادة المئات من «الأغيار» حتى لو كان الهدف متعلقاً بواحد أو أكثر من أعدائه المقاتلين، أو مقتصراً في أغلب الحالات على الشبهة المجردة. وللمرء أن يتساءل كيف لذلك الشخص الذي ينتمي إلى أسرة يعيش في كنفها، أو بيت يأنس إلى هدوئه الوادع، أن يعود إلى بيته، أو يعانق بعد ارتكاب مجزرته الدامية، زوجته وأطفاله المتلهفين إلى عودته، دون أن تخزه لسعة الندم، أو يفكر قليلاً بزوجات مماثلات وأطفال مماثلين، كانت لهم هناءات عيش مماثلة، قبل أن ينقلهم بلحظة واحدة إلى خانة العدم.

ولو كان البيت الذي يتهدم، مؤلفاً من حجارته وإسمنته وسقوفه وأراضينه الصغيرة لهان الأمر. لكنه يضم بين جنباته، الحيوات التي كانت تضرب مع المستقبل مواعيد من أحلام خالصة ورجاء متجدد. وهذه البيوت التي لم يعد لها أثر، هي سجل سكانها الحافل بالمشقات والمسرات والأنفاس والدموع ورعشات اللذة أو الخوف، وغيرها من التفاصيل والذكريات التي لا تنضب.

ولعلني لا أجد ما أختتم هذه المقالة أفضل من استعادة قصيدة «البيوت»، التي كنت قد كتبتها في حرب مشابهة.

ما الذي يعنيه دكّ البيوت والمباني والأبراج على رؤوس ساكنيها بلا إنذار مسبق أو بإنذار لئيم دون فاصل زمني؟

البيوت طيورٌ تزقِّمُ أفراخها لوعةً

كلما ابتعدوا عن حديد شبابيكها المائله

والبيوت جسور الحنين التي تصل المهدَ باللحد،

ريشُ المغامرة الأمّ،

طين التكاثرِ،

سرُّ التماثل بين الطبيعة والطبع،

بين الجنازة والقابله

والبيوت سطورٌ

يؤلّفنا بحرها كالقصيدة بيتاً بيتا

لكي نزِن الذكريات بميزانها

كلما انكسر اللحنُ أو تاهت البوصله

والبيوت جذورٌ تعود بسكانها دائماً

نحو نفس المكان الذي فارقوهُ

لتعصمهم شمسها من دوار الأعالي

ومن طرقاتٍ تشرّدهم في كسور المكانْ

والبيوتُ زمانْ

يقسّم دقاتهِ بالتساوي على ساكنيهِ

لكي يسبحوا بين بيتين:

بيت الوجود وبيت العدمْ

وكي يعبروا خلسة بين ما يتداعى وما يلتئمْ

والبيوت رحِمْ

توقنا للإقامة في أرخبيل النعاس،

للتماس مع البحر من دون ماءٍ

لكي نتشاكى حرائقنا الأوليةَ،

أو نتباكى على زمنٍ

لن يعود إلى الأرض ثانيةً

والبيوت فراديسنا الضائعه

تواصَوا إذن بالبيوت،

احملوها كما السلحفاةُ على ظهركمْ

أين كنتمْ، وأنّى حللتمْ

ففي ظلها لن تضلّوا الطريقَ إلى بَرّ أنفسكمْ

لن تملُّوا حجارتها السودَ

مهما نأتْ عن خطاكمْ مسالكها اللولبيةُ،

لن تنحنوا فوق مهدٍ أقلّ أذىً

من قناطرها المهمله

ولن تجدوا في صقيع شتاءاتكمْ

ما يوازي الركون إلى صخرة العائله

وحرير السكوتْ

تواصوا إذن بالبيوت

استديروا ولو مرةً نحوها

ثم حثُّوا الخطى

نحو بيت الحياةِ الذي لا يموتْ