هل ستنصف التكنولوجيا الذكية المرأة المبدعة؟

ليس سهلاً أن يثبُت في الذاكرة الجمعية اسم مبدعة حتى وإن أدركَت التميز

سيمون دو بوفوار
سيمون دو بوفوار
TT

هل ستنصف التكنولوجيا الذكية المرأة المبدعة؟

سيمون دو بوفوار
سيمون دو بوفوار

الأمر الواقع الذي لا مجال للشك فيه، هو أن العالم بكل مكوناته يتغير بسرعة مدوخة من حولنا، لا يستثني النساء ولا الرجال، مثل حتمية مخاض ولادة لا فكاك منها، فلا مجال لردها أو تجاهلها أو تجاوزها وكأنها لم تكن. كمثل موجات تسونامي عاتية لم يسببها زلزال تحت سطح البحر، أو ثوران بركاني تحت الماء، بل خلقتها ظاهرة التطور العلمي والتكنولوجي والرقمي، التي ما فتئت تزعزع اليقينيات والقناعات المتخشبة، وتذهب بعيداً لتوسيع آفاق المعرفة، وتحفيز قدرات العقل والفهم، وإيقاظ ما غفا من مهارات الفكر وصنوف الإبداع الأدبي والفني والتفكير الفلسفي والنقدي... كل شيء في تغير مضطرد على هذا الكوكب، وإن بإيقاعات متفاوتة جغرافياً وحضارياً. لكن، ألا ننتظر من هذا كله تغييراً جوهرياً للأساليب الذهنية والاجتماعية في طبيعة التعامل مع المرأة المبدعة بشكل عام، والمرأة الكاتبة بشكل خاص، وهذا ما نحاول الاقتراب منه هنا.

نازك الملائكة

تعالوا إذن نعبُر ممرات التاريخ الأدبي والإبداعي، خاصة تلك الدروب المنسية منها والمغبرة... لكن تريّثوا قليلاً، وركزوا التفكير - فلا فضل لطريق على أخرى إلا بقدرتها على خرق العادة - على حد قول الشيخ الأكبر ابن عربي. تأمل، ستجدونها تعج بأسماء كاتبات أُسدلت عليها ستائر من حرير، إن لم نقل وُوريت تراب النسيان. لا تُتداول في سوق الإعلام الضاجّة، ولا أروقة الدعاية التي كثيراً ما تنفخ وتطيّر بالونات ذكورية ضخمة، سيتبين بعد حين ونيف، أنها مجرد معاطف فارغة.

دقِّقوا النظر في جنبات الطرق الهامشية للحياة أو التاريخ، ستجدونها مؤثثة بأشباح، وظلال وجوه نساء تترقرق في مرآة الزمن، نساء ذوات تجارب إبداعية عالية، جئن فنون الأدب من كل حدب وصوب، ولغة ولون، وقومية ومعتقد. بلغن بها الوعي بالذات والعالم، خلقن التعليل البارع، والفكرة المبتكرة الطريفة، ونسَجْن الخيال المحيّر المتمرد، ولمسْن أفق العمق الاجتماعي والإنساني رغم وعورة سبل الحياة غير الرحيمة. هن قليلات هؤلاء اللواتي فلتن من عيون غربال الذاكرة الانتقائية، منذ أمدٍ بعيد من علاقة المرأة بالأدب، واهتمامها بالشؤون الإنسانية، وغير معلبة في النطاق النسوي الضيق.

مي زيادة

لنتذكر إِذن... ألم يشترط الناشر على مؤلفة أشهر سلسلة عالمية أدبية وسينمائية «هاري بوتر» الكاتبة «جُوآن رولينغ»، أن تغيِّر اسمها إلى «ج.ك.رولينغ» J.K.Rowling، وعذره في ذلك أنها حيلة تجارية ومن دونها لن تنجح، لأن الفتيان لا يقرأون قصصاً من تأليف النساء!! طبعاً ستدركون أن الأمر ليس سهلاً وليس من اليسير أن يثبُت في الذاكرة الجمعية بشكل عميق وواضح اسم مبدعة حتى وإن أدركَت التميز. مثلاً، هذه الكاتبة التشيلية Gabriela Mistral غابرييلا ميسترال 1889 – 1959، التي استلفت اسمها المركب ونحتته من اسمي كاتبين، واحد إيطالي والآخر فرنسي، علّها تبرأ من وجع ذكرى والدها بملاحقة اسمه لها، وهو الذي ترك البيت فجأة وتخلى عنها وأمّها وهي في الثالثة من عمرها. هل سيعلو اسمُها وحضورُها المكانَ والزمان والإعلام، رغم أنها أول كاتبة «امرأة» في التاريخ تنال جائزة نوبل سنة 1945. ثم إنها أول كُتّاب أميركا اللاتينية على الإطلاق، تحصل على جائزة نوبل، وذلك قبل أن يحصل عليها كل من ميغيل آنخيل أستورياس 1967 وبابلو نيرودا 1971 وغابرييل غارسيا ماركيز 1982... وكما مواطنها نيرودا الذي كان سفير تشيلي في باريس 1970، عُيّنت غابرييلا قنصلاً ثقافياً قبل ذلك في دول مختلفة كسويسرا والبرتغال وإسبانيا والمكسيك وإيطاليا... ومثلت ثقافة بلادها بحنكة دبلوماسية وحب عارم، ولم تتوان عن الترويج لثقافة الشيلي وأدبه، كما لم تتردد في البوح بعشقها لبلدها حيثما مرت، ويشاع عنها أنها كانت تنقل معها صرَّة صغيرة تجمع فيها حفنة من تربة بلدها ترافقها في غربتها.

فرجينيا وولف

لن تتعجبوا إن عرفتم أن غابرييلا التي رحلت منذ أكثر من ستين سنة، لم يُعترف بمكانتها سوى منذ سنوات قليلة لتتحول إلى أيقونة في بلادها، ويروج لأشعارها وأدبها وأفكارها، وتدرج في المناهج المدرسية، لتعتلي من جديد مدرجها المستحق، ومكانها التاريخي والرمزي في المشهد الثقافي الشيلي والإنساني العالمي. ولا بد أن السيد غوغل سيعدل من إجاباته، فإن أنت سألته عمَن هو أول كاتب من أميركا اللاتينية حصل على جائزة نوبل يجيبك - وكأنه هو الآخر لم ينج من فيروس العقلية «الذكورية الاصطناعية» - ويخبرك بأن أول المتوجين بجائزة نوبل هو غابرييل غارسيا ماركيز... ثم وبعد، يضيف لك المعلومة - ربما على مضض - أن ذلك حدث بعد غابرييلا واستورياس ونيرودا...

سافو، ومارغاريت بوريت، وهيلويز، وماري دو فرانس، وكريستين دو بيزان، وأنيتا لووس، وكيو جين، ومَرْيمَ بان، وفدوى طوقان، وزليخا السعودية، ومي زيادة، ويوميكو كوراهاشي، وآنّا سويل، ونازك الملائكة، ويانغ جيانغ، وسيمون دو بوفوار، ومارغاريت ميتشال، وإيميلي برونتي، وأمريتا بريتام، وماها سويتا ديفي، وميريام تلالي، وإيريس موردوك، وتوني موريسون... وأخريات كثيرات غيرهن، اقترحن من خلال كتاباتهن رؤية جديدة للعالم وللسكن فيه. كاتبات انتشين بتُوقِهن إلى الكمال عبر التاريخ واللغات والقارات، ولم يغبن منذ الثورات الثلاث: من الكتابة إلى الطباعة الميكانيكية إلى الرقمنة، وظللن قائمات رغم الكسور النفسية الموجعة.

أما بعد... كيف يقابَل الانكسار في الأدب والحياة عند الكاتبة؟ هل حقاً يشكل الرحيلُ النهائي وحده صكّ الاعتراف بوجودها، هل يمثل الموت، الغياب المادي والجسدي والفعلي عن الحياة، الوجه الآخر للحضور الرمزي، أم لا بد من التشبث بالحياة والكتابة معاً؟ حل فيرجينيا وولف Virginia Woolf بالانتحار... تلك الكاتبة المدهشة، والإنسانة بالغة الحساسية والهشاشة، تلجأ إلى الإلقاء بنفسها في الحضن البارد، والغرق في قعر النهر، هروباً من الجنون ومن أصوات تلاحقها وتصرخ في علبة رأسها، نتيجة معاناة نفسية وصحية هي كل إرثها من تفاصيل حياة اجتماعية معقدة ومأساوية؟ إنه ذلك الجنون نفسه الذي تفطنت لأخطاره الكاتبة الشهيرة سيمون دو بوفوار، فأوكلتْه إلى شخصياتها الروائية النسائية، فأضحى موضوعة شائعة تعج بها سرودها. بحكمة روائية متمرسة، وزعت سيمون أهواله على شخصياتها الروائية، ربما كي لا تقع بين مخالبه هي الأخرى، في مجتمع ذكوري قاس وماكر، لا يمل من أن يبحث للمرأة عن نقصان أو عن «مَحْرَم» حتى في عالم الأدب، فيذكرها للتقليل من شأنها ومسارها، بأنها تأثرت برفيقها الأبدي الفيلسوف «جان بول سارتر»، ولولاه لما كانت. فتجيب سيمون دو بوفوار بحنكة المجادلة، وهي الأديبة والمفكرة وأستاذة الفلسفة، التي كانت - وعلى لسان سارتر نفسه - تقرأ مؤلفاته قبل نشرها، بأنها تكتب الأدب ولا تعد نفسها فيلسوفة.

نجت دو بوفوار من الجنون. ونجت من الاكتئاب، ونجت من الانتحار، الذي طالما لاحق أقدار بعض أهم الكاتبات عبر الأزمنة، رغم ذكائهن، وثقافتهن، وجمالهن... نجت سيمون ولم تنج «سيلفيا بلاث» Sylvia Plath1932 - 1963 الشاعرة والروائية الأميركية ذات الإسهامات الأدبية الكبيرة، من قدرها التراجيدي الحزين، بإقدامها على الانتحار بواسطة الغاز. سيلفيا التي ضاقت بها الحياة الشخصية الصعبة والتحديات النفسية التي واجهتها بعد طلاقها من الشاعر والكاتب «تيد هيوز» بعد خيانته لها. هل آلمها إخفاق أحلامها الكبيرة في الأدب أولاً، وفي خلق عش دافئ لطفليهما الصغيرين فريديا ونيكولاس، فقررت إما أن تملك كل شيء تريده وتحبه أو أن تتركه كله، الشعر والحب والعش الذي لم يعد دافئاً! خلّف اختيارُها الرحيلَ المبكرَ على ذلّ حياة الإخفاق صدمة في عالم الأدب. صمتت روحُها الجريحة عن الشعر، صمتت عن «الكلام الأكثر تعبيراً، الذي يمر عبر الأحاسيس ليصل إلى الروح»، كما يصفه الشاعر السنغالي الكبير ليوبولد سيدار سنغور. لعلها كانت تعلم أن مؤلفاتها الشعرية والنثرية، حتى تلك التي صدرت بتوقيت انتحارها، ستحقق شهرة وانتشاراً كبيرين، وكأنها كانت تؤمن بحتمية مأساة المرأة المبدعة، في كل المجالات من فنون وآداب وعلوم، تُقصى وتُتناسى وتُتجاهل، ولن تنال حقها من التقدير والاعتراف بموهبتها سوى بعد رحيلها، بعد خلوّ البسيطة من ظلها.

إنه مجتمع ذكوري قاس وماكر، لا يمل من أن يبحث للمرأة عن نقصان أو عن «مَحْرَم» حتى في عالم الأدب للتقليل من شأنها ومسارها

ثم ماذا، والثامن من مارس (آذار) يعود كل سنة ليذكّر بأن لا مفاجأة بين يديه ولا من خلفه، وأن فيروس الكراهية والحروب بكل أشكالها الواقعية والرمزية، ما فتئ يفْتكُ بالعلاقات الإنسانية فوق هذا الكوكب غير المحظوظ، ويخشى أن يعود ذات زمن فيجده خالياً من البشر - وقد أفنتهم رغبتهم العمياء في التسلط والهيمنة والاستبداد - بل سيجده مأهولاً بسكان من أناسٍ آليين.

صحيح أننا على عتبة بوابة زمن الفتوحات العلمية الجديدة، والإنسان الآلي، والذكاء الاصطناعي، وما بعد الإنسانية... فهل ستظل دار لقمان بفروقها التقليدية بين الإنسان المرأة والإنسان الرجل، على حالها المزرية، أم أن تحديات ما بعد الإنسانية، ستنجح في تفكيكها من خلال تأثير التكنولوجيا الحديثة، والعلوم والتطورات الثقافية، على مفهوم الإنسان والمجتمع والحياة، والفهم الجديد للجسم والعقل. هل نأمل في أن مكونات عالمنا بكل اختلافاتها ستغيرها المعطيات الجديدة نحو الأحسن، فتضحى الإنسانية أكثر إنسانية، أم أن وضع ساعة بعض البشر، بعقاربها المتحركة داخل إطار من ذهب، أو من خشب، لن يِؤثر بمكان في مسار الزمن؟!


مقالات ذات صلة

سامانثا هارفي: أهدي فوزي لأولئك الذين يتحدثون باسم الأرض

ثقافة وفنون سامانثا هارفي تمسك بجائزة البوكر ورايتها «أوربيتال» (إ.ب.أ)

سامانثا هارفي: أهدي فوزي لأولئك الذين يتحدثون باسم الأرض

ذكر رئيس لجنة التحكيم، الفنان والمؤلف إدموند دي وال، بأن رواية سامانثا هارفي تستحق الفوز لـ«جمالها وطموحها»

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!