محمد بركة: مساحة الحرية في عالمنا العربي لا تكفي كاتباً واحداً

الكاتب المصري يقول: أكتب ما أحب ولا تخيفني الاتهامات الجاهزة

محمد بركة
محمد بركة
TT

محمد بركة: مساحة الحرية في عالمنا العربي لا تكفي كاتباً واحداً

محمد بركة
محمد بركة

يُبدي الكاتب والروائي المصري محمد بركة اهتماماً لافتاً بالتناقضات الإنسانية في أعماله، ويبني عليها مفارقات الشخوص وصراعها مع ذواتها وواقعها، كاشفاً من خلال ذلك عن أقنعتها التي تخفى هشاشتها وأحلامها المنكسرة... وفي هذا الإطار، تدور روايته «عرش على الماء»، الصادرة أخيراً عن «دار أقلام عربية» للنشر بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل: «الفضيحة الإيطالية» و«أشباح بروكسل» و«حانة الست» و«آيس هارت في العالم الآخر»، هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

* برغم التنويه في بداية روايتِك الأحدث «عرش على الماء» بأنها عمل إبداعي بحت، فإن ثمة تقاطعات بين بطل الرواية وشخصية داعية شهير، تجعل القارئ يشعر بأن الرواية سيرة مُستلهمة من حياته. هل توقعت هذا الأمر؟

- نحن نعيش ثقافة النميمة والتفتيش في ضمائر المؤلفين والهوس بالتأويل على نحو يسمح بالقيل والقال. والربط بين الشخصية الرئيسية في الرواية وبين نظيرها في الواقع كان شيئاً متوقعاً، لذلك جاء التنويه ليضع الأمور في نصابها، لكن يبدو أن هذا لم يكن كافياً لدى البعض. وللأسف مثل هذه التأويلات المتعسفة القائمة على قراءة النص في ضوء الواقع هي ما جعلت الناشرين يحجمون عن نشر الرواية لأكثر من عامين رغم اعترافهم بأنها «عمل فذ وبديع»، بتعبير بعضهم، لكنهم اعتذروا عن عدم إصدارها. وأذكر أن أحدهم قال لي نصاً: «لقد اجتمعنا مع لجنة القراءة أربع مرات لنجيب عن سؤال واحد: هل يمكن أن نطالبك بعمل بعض التعديلات لنمرر العمل واكتشفنا أن التعديلات المطلوبة من الكثرة بحيث سيبدو كأننا نطلب منك إعادة كتابة الرواية».

* تطرح الرواية تعقيدات بالغة مُتصلة بتناقضات البطل والتباساته، بين صورة براقة كداعية ديني «مؤثِر» وبين جوهر مُشوه يُنافي هذا الخطاب. حدثنا عن بنائك لهذه الشخصية المركبة؟

- تناقضات البطل والتباساته هي ما تصنع إنسانيته كنموذج فريد يتوق إلى لمس سماء الروحانيات بيده، لكن قدميه غائصتان في قاع الشهوات الضارية للمال والنساء والصعود الطبقي. لقد أحب «مشهور الوحش» بكل أشواق الغرام الأولى فتاة تدعى «ست الدار» وكان يصفها بأنها «أغنية الليل، والوعد المؤجل في مملكة الذكورة المقموعة». وحين خانته، أصيب بلعنة الرغبة في الانتقام من كل النساء كما تحول إلى خائن يبيع وطنه من أجل حفنة من الدولارات وأيضاً تحول إلى قاتل. حاولت أن أبحث عن لغة تناسب تلك الشخصية التي لا تخلو رغم كل شيء من حس صوفي فكانت الابتهالات التي تنم عن نهم وجشع، والتي تتصدر كل فصل، وسيلة مهمة في هذا السياق، كما جاءت اللغة نفسها لتمزج بين التراث والشعر في سبيكة واحدة.

* صنعتَ حالة من المُقاربة بين نشأة البطل وتطلعاته النهِمة، وبين التطورات السياسية والطبقية العاصفة التي يمر بها وطنه وسط تشكيل خطاب ديني موائِم لطبيعة تلك السياقات... إلى أي مدى تطلّب العمل بحثاً موازياً في تطورات هذا الخطاب وصولاً للخطاب الموجه للغرب؟

- الخطاب الديني الذي يتبناه البطل يرتكز تاريخياً على حقبة السبعينيات حيث تحالفت السلطة السياسية في مصر آنذاك مع جماعات اليمين الديني المتطرف، وأنتج الطرفان خطاباً معادياً للمرأة والفنون ومضاداً لفكرة التحضر. ومن ثم تختزل شخصية البطل أبعاد وطوايا فكرة تستمر عبر العصور عمادها دس السم في العسل وتبرير كل قبيح من خلال تأويلات مغلوطة لصحيح الدين. هو فكرة والفكرة لا تموت بل تعيش في أزمنة مختلفة وسياقات جغرافية متعددة وتنتقل من الريف إلى المدينة ومن الشرق إلى الغرب بكل سلاسة.

* لكن، هل يُجري الكاتب حالة من التفاوض بين خياله الروائي، وبين محاولة تجنب سجالات متوقعة مثل الاتهام بتشويه صورة رجل الدين أو خدش المقدسات؟

- كان بودي أن أجيب عن هذا السؤال، وأقول إنه على الكاتب أن يقول كلمته بكل قوة وصراحة ويمضي، لكن الثقافة العربية بشكل عام ضاغطة وأسوأ سلطة يعاني منها المبدع هي سلطة المجتمع وهوس الرأي العام بلعب دور رقيب فظ متعسف. في ظل هذه الملابسات، لا بد من اللجوء للحيلة والذكاء لتمرير ما نود قوله في ظل مناخ عام من التربص.

الرواية لا تتضمن أي إساءة أو تجريح أو خدش من أي نوع يُذكر بشهادة الجميع، الشخصية الرئيسية خانت الأمانة وتنكرت لثقة الناس، وهذا شيء عادي يحدث في أي مهنة وكل مجال.

وفيما يتعلق بتجربتي في الكتابة بشكل عام، لا تخيفني الاتهامات الجاهزة، ولا ترهبني سهام الإدانة المجانية التي تتخذ من حساسية بعض الموضوعات الشائكة وسيلة لترويع الأدباء. أكتب ما أحب، وفي الوقت نفسه أدرك أن مساحة الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً، وأنه من الجنون الرسمي أن أعبر عن كل ما أشعر به بمنتهى الأريحية والحرية.

كثير من الأدباء يقدمون حالياً نصوصاً رديئةً لكنهم يظنون حسب المواصفات والطلب أنها تتوافق مع منظور هذه الجائزة أو تلك

* هل استشعرت خلال كتابتك للرواية أن من شأنها إثارة جدل، أو أن تواجه صعوبة في النشر؟

- توقعتُ أن يثار جدل فني أو إبداعي لكني لم أتوقع أن يتحول هذا الجدل إلى نوع من الاتهام المجاني. وبالطبع لم أتوقع أي صعوبة في النشر لأن الرواية مكتوبة بنضج ومسؤولية، فأنا لست كاتباً مراهقاً، وأعرف أننا لسنا في سويسرا بنهاية المطاف.

* تناولت شخصية سيدة الغناء العربي في روايتك «حانة الست»... حدثنا عن «الصوت» السردي الذي منحته لأم كلثوم وهي تتحدث عن نفسها؟

- كانت الفكرة تتمثل في نزع القداسة عن أم كلثوم، ورفض أن تتحول إلى متحف تعلوه لافتة «ممنوع الاقتراب أو التصوير». الرواية تقترح طريقاً جديداً لمحبة أم كلثوم، والتأكيد على عظمتها يتمثل في استعادة وجهها الإنساني ورصد ما في شخصيتها من ضعف وتناقضات وغيرة وغيرها من الانفعالات الإنسانية. الرواية تدور على لسان أم كلثوم التي أتخيل أن روحها قررت أن تقص على الأجيال الجديدة «القصة المحجوبة» لكوكب الشرق.

* في هذا العمل، بدَت «أم كلثوم» تعاني من هاجس يتعلق بـ«الأنوثة» كصوت لا واع موازٍ لسطوتها «الأسطورية»...

- التاريخ الحقيقي لأم كلثوم لم يُكتب بعد، رغم أن المصادر التاريخية موجودة وموثقة وأغلبها متصل بأم كلثوم نفسها مثل «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد» للكاتب الصحفي الراحل محمود عوض الذي يتضمن حواراً مطولاً معها. هناك حالة عامة من التواطؤ في تجنب الحقائق في حياة أم كلثوم، مثل تأثير ارتدائها الزي الرجالي لفترة طويلة تمتد إلى ما بعد العشرين على نفسيتها وعلاقتها بذاتها الأنثوية، وكذلك تعرضها للتنمر من أخيها الأصغر «خالد»، فضلاً عن المعاملة القاسية التي تلقتها من أبيها «الشيخ إبراهيم».

* في روايتك «آيس هارت في العالم الآخر» انتقلت بسردك للعالم الآخر ليس فقط كفكرة وإنما كمسرح روائي، ما هو الهاجس الأدبي الذي دفعك لعالم بطل الرواية؟

- الموت ليس مخيفاً أو مرعباً كما تصوره المخيلة الجماعية لنا. هذا ما تؤكده تجارب «العائدين من الموت» أو «الموت السريري» لهؤلاء الذين ماتوا لثوان أو دقائق أو ساعات ثم عادوا للحياة وحكوا لنا ما شاهدوه. وبينما يحكي هؤلاء عن أشياء لا تكاد تملأ صفحة واحدة، كان علىّ أن أسافر على جناح الخيال وأرصد عبر نص كامل ما يحدث بعد الموت في سردية غير تقليدية.

* جدلية الشرق والغرب انعكست كثيراً في أدبنا العربي، هل شغلك هذا الخاطر وأنت تكتب روايتك «أشباح بروكسل»؟

- لم يشغلني كثيراً لأن المنظور عندي مختلف والمتغيرات عديدة مقارنة بالروايات السابقة التي تناولت تلك الجدلية منذ توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، وفق منظور رومانسي حالم أو مفرط في البراءة حين كان الفارق حاسماً بين الشرق والغرب، لكن في «أشباح بروكسل» اختلطت الحدود واختفت الفواصل وأصبح العرب والمسلمون والأفارقة شبه أغلبية في كثير من المدن والأحياء الغربية، كما أن الغرب متاح لدينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

* هل، برأيِك، تُؤثر حالة الصخب المواكِبة للجوائز الأدبية وترشيحات مواقع التواصل على مشروع الكاتِب وعلاقته بأسئلة الكتابة لصالح حسابات أخرى كالرواج أو تصدر المشهد؟

- ينبغي ألا يكون لها تأثير- برأيي- لكن للأسف يحدث العكس. كثير من الأدباء يقدمون حالياً نصوصاً رديئة، لكنهم يظنون حسب المواصفات والطلب أنها تتوافق من منظور هذه الجائزة أو تلك. الجوائز أفادت الحركة الأدبية وأحدثت نوعاً من الرواج، لكنها في الوقت نفسه أضرت الإبداع حين تحولت إلى معيار وحكم قيمة، وكأن من لم يفز بجائزة يصنف في مستوى أدنى.


مقالات ذات صلة

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

ثقافة وفنون عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

عودة الراحلين في معرض القاهرة الدولي للكتاب

يعيش المعرض الذي ينطلق غداً ظاهرة لافتة تتمثل بوجود كتب جديدة لن يتمكن مؤلفوها من رؤية أغلفتها وملامسة أوراقها.

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون أربع مجامر موقع سمهرم في سلطنة عُمان

مجامر من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

كشفت أعمال المسح المستمرة في سلطنة عُمان عن سلسلة من المواقع الأثرية، من أبرزها موقع خور روري الذي ضمَّ في الماضي مدينة عُرفت باسم سمهرم

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله

د. فاضل عبود التميمي
ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون عبد الله القصيمي

جيناتنا العظيمة

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى.

خالد الغنامي

عبد الله الغذامي شخصية «مهرجان القرين الثقافي»

يأتي مهرجان القرين الثقافي وتكريم الغذامي في ظلّ احتفال الكويت هذا العام باختيارها «عاصمة الثقافة العربية» (الشرق الأوسط)
يأتي مهرجان القرين الثقافي وتكريم الغذامي في ظلّ احتفال الكويت هذا العام باختيارها «عاصمة الثقافة العربية» (الشرق الأوسط)
TT

عبد الله الغذامي شخصية «مهرجان القرين الثقافي»

يأتي مهرجان القرين الثقافي وتكريم الغذامي في ظلّ احتفال الكويت هذا العام باختيارها «عاصمة الثقافة العربية» (الشرق الأوسط)
يأتي مهرجان القرين الثقافي وتكريم الغذامي في ظلّ احتفال الكويت هذا العام باختيارها «عاصمة الثقافة العربية» (الشرق الأوسط)

اختار مهرجان «القرين» الثقافي، التابع للمجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، الأكاديمي والناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي (شخصية المهرجان)، للدورة الـ30 المقرر إقامتها خلال الفترة من 3-12 فبراير (شباط) المقبل، ويُقام حفل تكريم الغذامي، مساء التاسع من فبراير، في فندق «سان ريجيس».

يأتي مهرجان القرين الثقافي، وتكريم الغذامي، في ظلّ احتفال الكويت، هذا العام، باختيارها «عاصمة الثقافة العربية»، حيث من المقرر أن يُقام حفل «الكويت عاصمة الثقافة والإعلام العربي» في 13 فبراير، حيث يجري تقديم العرض المسرحي الوطني التاريخي (محيط الأرض).

وتتضمن خطة الأنشطة والفعاليات بهذه المناسبة 37 نشاطاً لتعزيز مكانة الكويت الثقافية والإعلامية، وسبعة أنشطة لتطوير الإعلام الرقمي، و20 نشاطاً لتشجيع الاستثمار في المشاريع الثقافية والإعلامية، و12 نشاطاً لدعم التنمية المستدامة، بالإضافة إلى 29 نشاطاً لتعزيز الهوية الثقافية العربية والمحافظة على التراث.

الغذامي: قامة فكرية

ويُعدّ الدكتور الغذامي أحد أبرز الأسماء البارزة في المشهد الثقافي والفكري والنقدي السعودي والخليجي والعربي، وعلى مدى نصف قرن أثرى الساحة الثقافية بكثير من الدراسات النقدية والفكرية.

حصل الغذامي على الدكتوراه من جامعة «إكستر» بالمملكة المتحدة عام 1978، والإجازة في اللغة العربية عام 1969، وأصبح أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة الملك سعود بالرياض، ودرّس في جامعة الملك عبد العزيز من 1978 إلى 1989 مواد النقد والنظرية، كما أسس قسم اللغة العربية، ومجلة كلية الآداب.

وبالإضافة لمؤلفه البارز «الخطيئة والتكفير»، قدّم عدّة مؤلفات؛ منها: «الصوت القديم والجديد»، و«الكتابة ضد الكتابة»، و«ثقافة الأسئلة»، و«القصيدة والنص المضاد»، و«المشاكلة والاختلاف»، و«المرأة واللغة»، و«ثقافة الوهم»، و«النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية»، و«من الخيمة إلى الوطن»، و«حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية»، و«القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة»، و«ثقافة تويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير»، و«الجنوسة النسقية»، و«السردية الحرجة: العقلانية أم الشعبوية»، و«العقل المؤمن / العقل الملحد: كيف لعقول البشر أن تؤمن أو تلحد»، و«مآلات الفلسفة: من الفلسفة إلى النظرية»، و«إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق».

مهرجان القرين الثقافي

ومنذ 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 1994، ينظم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت «مهرجان القرين الثقافي»، الذي يمثل التظاهرة الثقافية الكبرى في دولة الكويت، ويجمع حول أنشطته أطيافاً من الإبداعات الثقافية والفنية والمحلية والعربية والدولية، وجموعاً من المبدعين والمثقفين.

ويقام المهرجان سنوياً، وتستمر أنشطته قرابة ثلاثة أسابيع، شاملة نشاطات فكرية وثقافية وموسيقية ومسرحية وشعرية، إلى جانب أنشطة تشكيلية عربية وعالمية، بما يخلق فرصة متجددة للقاء سنوي بين جمهور الثقافة والفن، ونخبة من المفكرين والمبدعين العرب.