التّحاسد والتَّنابز بين المثقفين الأقدمين

لأسبابٍ شخصيّة أو عقائدية مذهبيّة أو لنيل حظوة مِن خليفة أو وزير

التّحاسد والتَّنابز بين المثقفين الأقدمين
TT

التّحاسد والتَّنابز بين المثقفين الأقدمين

التّحاسد والتَّنابز بين المثقفين الأقدمين

إذا علمنا مِن عداوة أو تبادل مثالب، بين الكُتاب والشُّعراء اليوم، فهذا امتياز امتاز به مثقفو العصور كافة. فليس غريباً ما يحصل اليوم، فهي الحرفة الأكثر تحاسداً بين أصحابها، لأسبابٍ شخصيّة، أو عقائدية مذهبيّة، أو حسداً لنيل حظوة مِن خليفة أو وزير. أقلها أن يُسمي أحدهم الآخر «حاطب ليل»، وهو نعت ليس قليلاً اليوم، وكم فيه مِن إلغاء وشطب على موهبة ومقدرة، أي لا يدري ما يكتب أو ما يؤرخ، إذا كان مؤرخاً.

فهذا الأشعريّ عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ) قلل من شأن المعتزلي عبد الله البلَّخي (ت 319هـ)، مع أنّ الاثنين كانا كباراً في مجالهما. قائلاً فيه: «حاطب ليل، يدعي كلَّ شيء، وهو خالٍ من كلِّ شيء» (البغداديّ، الملل والنِّحل)، مع أنَّ البلخي أحد علماء ومتكلمي معتزلة بغداد، ومؤرخ مقالات الإسلاميين. هنا آتي بنماذج فقط، أو مثلما يُقال: «غيض مِن فيض» قليل مِن كثير، محاولاً ذِكرها على تسلسل الزمن، الأقدم فالأحدث.

عندما تولى هارون الرّشيد (170 - 193هـ) الخلافة، شكل لجنة لفحص قصائد الشّعراء ونصوص الخُطباء المتقدمين للاحتفال بهذه المناسبة، فكثر المادحون، واختلط الغث بالسَّمين، وأخذ الصّغار أو الهواة ينافسون الكبار، لذا قرر الوزير الفضل بن يحيى البرمكي (ت 193هـ) تكليف الشّاعر والأديب أحمد بن سيار الجُرجانيّ، المعروف بمدحه للقائد العباسيّ يزيد بن مزيد الشّيباني (ت 183هـ) لتمييز قصائد الشُّعراء، مَن يمنح مكافأة ومَن لا يمنح، أو مَن تُقبل قصيدته ومَن لا تُقبل، وكان أبو نواس (ت 195) أحد المتقدمين، لكن خصوم الأخير من الشّعراء، مثل مسلم بن الوليد وأبان اللاحقيّ وأشجع السُّلمي، وآخرين طلبوا مِن المُحكم الجُرجانيّ الحط مِن قصيدة أبي نواس، ورفضها لعدم جودتها. فلما عرض أبو نواس قصيدته على الجُرجانيّ رمى بها، ولم يقبلها، قائلاً: «هذا لا يستحق قائله دِرهمين» (الجهشياريّ، الوزراء والكُتاب)، فلم يقرأ أبو نواس، وهو على عظمة قدره، وعلو كعبه بين شعراء عصره.

فلم يكن أمامه إلا هجاء الجُرجانيّ، قائلاً: «بما أهجوك لا أدري - لساني فيك لا يجري - إذا فكرتُ في قدرِ - ك أشفقتُ على شعري» (الجهشياري...).

كان أبو عبد الله إبراهيم بن محمد الواسطي المعروف بنفطويه (ت 323هـ) عالماً بالحديث والعربية، وأستاذه صاحب الكامل محمد بن يزيد المبرد (ت 286هـ)، وكان صاحب «الاشتقاق» و«الجمهرة» ابن دريد محمّد بن الحسن البصريّ (ت 321هـ) أشهر من نار على عَلم في عِلم اللّغة، لكن بينهما اللُّجاج في شدة الخصومة، من إنكار أحدهم باع الآخر. فأشاع نفطويه أن ابن دريد لا يفقه شيئاً، وهو منتحل كتاب «العين» لأحمد بن خليل الفراهيدي البصري (ت 181هـ)، وجعلها «الجمهرة»، مع أن من يطلع على معجم العين وكتاب الجمهرة لا يجد انتحالاً بينهما. وكي يرسخ ذلك في الأذهان جعل نفطويه التّهمة شعراً، فسارت بها الرّكبان. قال:

«ابن دريد بقره - وفيه لؤم وشره - قد ادعى بجهله - وضع كتاب الجمهره - وهو كتاب العين إلّا - أنه قد غيره». فردّ عليه ابن دريد شعراً أيضاً، وعيّره بسواده، حتّى لُقب لهذا السبب بنفطويه، والنّفط يخرج من الأرض أسود، مع نتانة رائحته. فقال: «أف على النحو وأربابه - قد صار من أربابه نفطويه - أحرقه الله بنصف اسمه - وصير الباقي صراخاً عليه» (الأنباريّ، زهرة الألباب في طبقات الأدباء). فكان بينهما ما هو أشد من فظاعة الحسد، حتّى وصف بـالمماظّة بينهما (الحموي، معجم الأدباء).

كان بين صاحب «الأغاني» أبي فرج الأصفهانيّ (ت 356هـ) والنحوي أبي سعيد السّيرافي (ت 368هـ) عداوة، فقال الأول في الثّاني ناكراً عليه علمه، بل ناكراً على كل سيراف: «لست صَدرا وَلَا قَرَأت على صدرٍ - وَلَا علمك البكي بكافي - لعن الله كل شعر وَنَحْو - وعروض يَجِيء من سيراف» (الثّعالبيّ، يتيمة الدَّهر).

ما أنّ غفل الحنبليّ أبو الفرج بن الجوزيّ (ت 597هـ) بنقل رواية خاطئة، مِن دون تمحيصها، إلا نجد الشّافعي ابن حجر العسقلانيّ (ت 852هـ) قد ترك صاحب الخطأ الأصل، وهو عبد القاهر البغداديّ، وقال عن ابن الجوزيّ: «ودلت هذه القصة على أنَّ ابن الجوزي حاطب ليل، لا ينقد ما يُحدث به» (ابن حجر، لسان الميزان). مع أن ابن الجوزي، في «المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم» قد ذَكر مصدره الذي نقل عنه الرّواية، وهو كتاب البغداديّ «الفرق بين الفرقِ».

كذلك كان بين ابن الجوزي وأبي سعد السَّمعانيّ (ت 562هـ)، صاحب كتاب «الأنساب»، عداوة وخلاف عميقان، وكانا متجايلين ومتجاورين ببغداد، فالأول كان حنبليّاً والثّاني شافعيّاً، فلما جاء ابن الجوزي على ترجمة السّمعاني، في منتظمه، أنكر عليه أنه شد الرّحال إلى التّعلم والدَّرس عند علماء ما وراء النّهر (نهر سيحون)، فقال: «كان يأخذ الشَّيخ البغدادي، فيجلس معه فوق نهر عيسى (نهر عباسي ببغداد)، ويقول حدثني فلان من وراء النَّهر، ويجلس معه في رقةِ بغداد، ويقول حدثني فلان بالرِّقة (رقة الشّام)، في أشياء من هذا الفن، لا تخفى على المحدثين، وكان فيه سوء فهم» (ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم).

فردّ صاحب الكامل عزّ الدِّين الجزيريّ المعروف بابن الأثير (ت 630هـ) على ابن الجوزي، وقد أدرك الاثنان، السّمعانيّ وابن الجوزيّ، قائلاً: «كان مكثراً من سماع الحديث، سافر في طلبه، وسمع ما لم يسمعه غيره، ورحل إلى ما وراء النهر، وخراسان، ودخل إلى بلد الجبل، وأصفهان، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشَّام، وغيرها... وذَكره أبو الفرج بن الجوزيّ وقطعه... أي حاجة به إلى هذا التلبيس البارد؟ وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي، وله أسوة بغيره...». (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

بعد هذه النّماذج التي قلنا إنها «غيض مِن فيض»، وإلا فكتب التّراث ملأى بمثل هذه المواقف، نأتي بما يراه أبو حيان التَّوحيدي (ت 414هـ) في نقد هذا التحاسد، وبدلاً عنه يُصار إلى تبادل الفائدة والاعتراف بالموهبة، وقد تحدث عما كان يحصل مع النحويّ أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت 377هـ)، وكتابه «التّعليقة على كتاب سيبويه»، لأن القوم يفضلون كتاب صاحبهم أبي الحسن علي بن عيسى الرُّماني (ت 384هـ)، وكان الفارسي والرماني ندّين. قال أبو حيان: «يكثرون الطَّلب لكتاب شرح سيبويه، ويجتهدون في تحصيله، فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه، وتزرون على مؤلّفه، فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نردّ عليه ونعرّفه خطأه فيه. قال أبو حيان: فحصّلوه واستفادوا منه ولم يردّ عليه أحد منهم. أو كما قال أبو حيان، فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه» (الحموي، معجم الأدباء).

كما انتقد التّوحيديّ ما كان يوجهه أبو سعيد السّيرافي، مِن صاحب الأغاني وأبي علي الفارسيّ، والجميع كانوا في عصر واحد، قال: «كان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلون عليه الرُّماني، فحكى ابن جني عن أبي علي أن أبا سعيد قرأ على ابن السَّراج 50 ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه فقال لي: يجب على الإنسان أنْ يقدم ما هو أهم، وهو علم الوقت من اللُّغة، والشِّعر، والسّماع من الشُّيوخ، فكان يلزم ابن دريد، ومن جرى مجراه من أهل السّماع» (الحموي، معجم الأدباء).

غير أنَّ مَن يقرأ «ذم الوزيرين» أو «مثالب الوزيرين» لأبي حيان التّوحيدي يرى العجب العجاب، فقد أظهر ابن العميد (ت 360هـ)، وابن عباد الصَّاحب (ت 385هـ)، صاحب المحيط في اللغة، والشّاعر، جاهلين لا يملكان مواهبَ ولا آداب، وتداعى ثلبهما إلى ثلب الشّعر والشعراء. وربّما له عذره الشّخصي، فقد كان نساخاً لرسائلهما وكتبهما (مثالب الوزيرين، أخلاق الصاحب بن عباد وابن العميد). وهذا إذا دخلنا فيه لا يسعه المقال.


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان
TT

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان

استطاع الشاعر البحريني مهدي سلمان أن يترك بصمة بارزة على خريطة الشعر في بلاده عبر عدد من دواوينه الشعرية التي تتميز بتراكيب بصرية جريئة ولغة مشحونة برؤى جديدة. صدر ديوانه الأول «ها هنا جمرة وطن، أرخبيل»، 2007، لتتوالى بعده أعماله التي لفتت الأنظار لموهبته الكبيرة؛ مثل «السماء تنظف منديلها البرتقالي»، و«لن أقول شيئاً هذه المرة»، و«لا شيء يحدث ولا حتى القصيدة».

ومن الشعر تمتد تجربته الإبداعية إلى المسرح بقوة، حيث شارك ممثلاً في نحو 20 مسرحية؛ منها «اللعبة»، و«المستنقع»، و«الوهم»، كما أخرج مسرحيتي «مكان ما»، و«التركة»، وحصد جوائز مرموقة في المهرجانات الفنية المتخصصة... هنا حوار معه حول تجربته وهمومه الأدبية:

* لنبدأ بثنائية الشعر والمسرح في تجربتك، فالقصيدة، على الأقل في تصور العامة، فن ذهني ساكن، في حين أن المسرحية فن بصري حركي... هل ثمة تناقض بين النوعين؟

-هنالك بالتأكيد اختلافات بين كتابة القصيدة وكتابة المسرحية، لكن هذا الاختلاف لا يرقى ليكون تناقضاً، إن الأجناس الأدبية اليوم تستقي من بعضها، وتتجاور بكل هدوء، فيأخذ الشعر الحالة الدرامية من المسرح، ويأخذ المسرح الحالة التأملية الرائية من الشعر، وتنهل الرواية والقصة من مظاهر هذا وذاك. وعموماً لم يكن الشعر يوماً فناً ساكناً، على الرغم من كونه ذهنياً، فلطالما احتوى الشعر على صراع عنيف بين الأفكار والمشاعر، وهذا الصراع أهم سمات المسرحية. وكذلك لم تكن المسرحية دائماً فناً حركياً، فلقد استخدم كتّاب المسرح في كثير من تجاربهم طرق وأساليب التأمل الشعري لإنتاج الحدث. فعل ذلك كتّاب مسرح العبث؛ مثل يونسكو، وبيكيت، وكذلك تجارب توفيق الحكيم المسرحية الذهنية، وقبلهم استغل كتاب المسرح الكلاسيكي الحوار الداخلي والمناجاة من أجل الاقتراب من روح الشعر في المسرح.

* أيهما أسبق في إثارة ولعك ووجدانك، القصيدة أم المسرحية، وكيف أثرت إحداهما على الأخرى من واقع تجربتك؟

- لا أتذكر بالتحديد أسبقية شكل على آخر، لقد كان الشكلان ينموان معاً في تجربتي، ويتبادلان الأهمية والتأثير، وكذلك يتساقيان الفهم من التجارب المختلفة. ولطالما كان الشعر قريباً من المسرح والمسرح قريباً من الشعر، منذ سوفوكليس حتى شكسبير. ولطالما كانت الكتابة لأحدهما تغترف من تقنيات الشكل الآخر، ومن أدواته وإمكاناته، ليس على مستوى الممارسة في الكتابة فقط، إنما كذلك في آلية تحليل وتفسير وتقليب الأفكار والعواطف والقضايا، لا يمكن للكاتب أن يقول أين يكمن هذا التأثير، وكيف، لكنني أومن أنه موجود في الكتابة للشكلين، وفي التمثيل والإلقاء على السواء.

* لنتحدث قليلاً عن فكرة «الجمهور» فهي حاضرة بقوة أمامك بصفتك ممثلاً يصعد إلى خشبة المسرح، لكن كيف تتمثلها بصفتك شاعراً؟

* لو سألتِ أي ممثل على المسرح كيف ترى الجمهور، لقال لك إنه لا يراه، حضور الجمهور في المسرح هو حضور فكرة، فحين تظلم القاعة، ويصعد الممثل على الخشبة لا يرى أمامه إلا الظلمة التي فيها ومن خلالها يدخل ويخرج من وإلى الشخصية، أظن فكرة الجمهور في الكتابة تشبه هذا، ظلمة لا تتبينها، لكنها أمامك، تدخل نحوها شخصاً، وما إن تخطو فيها حتى تصير شخصاً آخر.

* ماذا عن موضوع «التطهر» بوصفه وظيفة قديمة في التراجيديا الإغريقية... هل يمكن أن تصنع قصيدة النثر حالياً حالة شبيهة وتخرج الانفعالات المكبوتة داخل القارئ، لا سيما الخوف والشفقة؟

- بقدر الخلاف على معنى محدد لمفهوم مصطلح التطهر أو التنفيس، لا يمكن القطع بإمكانية شكل ما شعري أو سواه في حيازة نتاج هذا المفهوم، فهو موجود في جميع الأشكال - الشعرية وغيرها - كما في المسرح، بنسب مختلفة. إنه جزء من صنع الفن، طالما أن الفن جزء منه يخاطب العقل والقلب والمشاعر والأفكار الإنسانية، فهو فعل تطهّر أو تطهير، وكذلك في المقابل هو فعل تلويث كذلك، أو فلنقل هو فتح للجروح المختلفة، لكن في كل ذلك، هو نتاج الفاعل لا الفعل نفسه، الشاعر لا شكل القصيدة، الكاتب المسرحي، لا نوع المسرحية.

وبقدر ما يبحث الشاعر أو المسرحي أعمق، ويقطع أكثر، بقدر ما يطهّر، نفسه، قارئه، شخصياته، أو أفكاره وعواطفه، وهو في كل ذلك ليس فعلاً قصدياً دائماً، إنما هو نتاج إما لشخصية الكاتب، أو للظروف المحيطة به، لذلك فهو يظهر في فترات تاريخية بعينها بشكل أوضح وأجلى، وقد يخبو في فترات أخرى، تبعاً لقدرة المجتمعات على فتح جروحها، أو على الأقل استقبال هذا النوع والشكل من الفعل الفني.

* على مدار أكثر من نصف قرن، لم تحصد أي جائزة أو تنال تكريماً بصفتك شاعراً، لكنك في المقابل حصدت عدداً من الجوائز والتكريمات بصفتك ممثلاً مسرحياً... كيف ترى تلك المفارقة؟

- يعود ذلك إلى مفهوم الجائزة فيما بين الشكلين، والخلل الكبير في شكل الجوائز الأدبية في عالمنا العربي، الجوائز لا ينبغي أن تُطلب، إنما تُعطى نتيجة لفعل ما أو جهد ما، هذا يحدث في المسرح الذي هو عمل جماعي، فالمؤسسة القائمة على المسرحية هي التي تتقدّم لمهرجان ما، أو جائزة ما. وعندها يحصد ممثل أو كاتب أو مخرج جائزة على جهده في هذا العمل بعينه، فيما على الكاتب أن يتقدّم بنفسه لطلب جائزة أو تكريم لديوان أو قصيدة، وهذا خلل بيّن في ضبط مصطلح جائزة، أو تكريم، أو حتى مسابقة. الأجدى أن تكون هناك مؤسسات، إما دور النشر، أو الوكالات الأدبية، هي التي تمحّص أعمال الكتّاب، وتنتقي منها ما يتقدّم للجائزة، أو المسابقة، وذلك من أجل ضبط عملية خلق المعايير في الساحة الأدبية، لكن وبما أننا في بيئة فاقدة للمعايير، فالتقدّم للجوائز الأدبية، يرافقه في أوقات كثيرة تشويه لدور الكاتب أو الشاعر، أين يبدأ وأين ينتهي.

* تقول في ديوانك «أخطاء بسيطة»:

«كل الذين لمست أصابعهم في الطريق

تماثيل شمع غدوا

كل من نمت في حضنهم خبتوا

واختفوا».

من أين يأتي كل هذا الإحساس العارم بالعدمية والخواء، وكأن الحميمية تعويذة ملعونة تلقيها الذات الشاعرة على الآخرين؟

- لا يمكن اقتطاع أبيات شعرية لتشكل معنى عاماً في تجربة ما، بالتأكيد هنالك عدمية تظهر أحياناً في أحد النصوص، لكنْ في مقابلها معان أخرى، قد تناقضها. الشعر فعل مستمر، تحليل دائم، وتدفق في مشاعر قد تكون متناقضة بقدر اختلاف أزمان الكتابة أو أزمان التجارب، لكن إن كنا نناقش هذه التجربة خاصة، هذا المقطع من هذا النص تحديداً، عندها فقط يمكننا أن نسأل، بالتأكيد ثمة لحظات في حياتنا نشعر خلالها بالانهزام، بالعدمية، بالوحشة، ونعبّر عن تلك اللحظات، ومن بينها تلك اللحظة في النص. ويأتي هذا الشعور بالتأكيد من الخسران، من شعور مغرق في الوحدة، وفقدان قدرة التواصل مع آخرين، إنها لحظات تنتابنا جميعاً، ليست دائمة، لكن التعبير عنها يشكّلها، بحيث نكون قادرين على مساءلتها، واختبارها، وهذا هو دور الشعر، لا البحث عن السائد، إنما وضع الإصبع وتمريره بحثاً عن النتوءات أو الحفر، لوصفها، لفهم كيف تحدث، وماذا تُحدِث.

* ينطوي عنوان ديوانك «غفوت بطمأنينة المهزوم» على مفارقة تبعث على الأسى، فهل أصبحت الهزيمة مدعاة للطمأنينة؟

- الهزيمة في معناها العام ليست فعلاً سلبياً دائماً، إنها التراجع كذلك، أو فلنقل العلوّ، رؤية المشهد بشكل آخر، من أعلى كما أراها، خلافاً للمنهمك فيه والداخل فيه. لذلك فإن الطمأنينة التي ترافق هزيمة كهذه هي طمأنينة المتأمل، أن تخرج من ذاتك أو تنهزم منها، لتحاول أن تجد طمأنينة ملاحظتها، والبحث فيها، وفهمها. أن تنهزم من تجربة ما وتتراجع عنها، لتجد لأسئلتها أجوبة، وأن يرافق هذا البحث طمأنينة الخروج والمغادرة، حتى لو كانت هذه المغادرة وقتية وليست تامة.

* في ديوان آخر هو «موت نائم، قصيدة مستيقظة»، هل أصبح الشعر المقابل الفعلي للموت؟

- ليس مقابلاً، إنما معطى آخر، ليس نقيضاً أو معاكساً، بل هو رفيق وصاحب يفعلان أفعالاً عكسية للتوافق والتوازن، وليست للمناكفة والمعاداة. تستيقظ القصيدة، لا لتلغي الموت، أو تنهيه، إذ لا يمكن إنهاء الموت، أو إماتته، لأن في موت الموت موت للحياة كذلك. لكنها تستيقظ في اللحظات التي يقف فيها في الخلف، تستيقظ لأجل أن ترى، وتبصر، وتصنع، وتحاول أن تتكامل معه من أجل الخلق نفسه، والولادة نفسها.

* كيف ترى الرأي القائل إن قصيدة النثر التي يكتبها غالبية أبناء جيلك استنفدت إمكاناتها الجمالية والفكرية، ولم تعد قادرة على تقديم الجديد؟

- ثمة تراجع حالياً نحو القصيدة العمودية، إنه واضح تماماً، أبناء جيلي والأجيال التالية، يعودون نحو روح العمود، حتى لدى كتاب قصيدة النثر، حيث الكتابة بوصفها فعلاً ليست فعل بحث واكتشاف إنما فعل إدهاش وتعال. لا، ليست القصيدة هي التي استنفدت إمكاناتها، بل كتاب القصيدة وشعراؤها هم الذين استنفدوا طاقتهم على المواجهة، الكتاب الآن يبحثون عن (صرة الدنانير) التي كان الخلفاء يلقون بها على شعراء المديح، هذا فقط تغيّر في روح الكتّاب، لا روح الكتابة نفسها.

* أخيراً، كيف تنظر إلى ما يقال عن تراجع تأثير الشعر في المشهد الثقافي مؤخراً وعدم ترحيب الناشرين بطباعة مزيد من الدواوين؟

- هذه حقيقة، وهي جزء من الأزمة ذاتها، التحوّل نحو الشكل العمودي من جانب، والنكوص نحو الذاتية المستنسخة من جانب آخر. تحوّل في فهم روح العصر، يأس من فعل الكتابة بوصفه عامل تفسير وتحليل وتفكيك وتغيير، تطويع الشعر ليعود إلى أدواره السابقة، فيكون صوت السائد الذي يُصفّق له. الشعر الآن في أي شكل من أشكاله، انعكاس للوجوه المتشابهة التي خضعت لعمليات التجميل التي نراها حولنا، هذا هو العصر، وأنت لا تريد تغييره، أو محاولة تغييره، أنت تريد الخضوع له وحسب. هذا هو ما يحدث.