مقاربات مُراوغة ما بين عالمي الكتابة والطب النفسي يطرحها الكاتب والروائي المصري طلال فيصل في كتابه «الغابة والقفص» الصادر عن دار «الشروق» بالقاهرة. يتكشف ذلك بدايةً من تصنيف الكتاب باعتباره «رواية»، كما يظهر على الغلاف، بينما يبدو أقرب إلى إيقاع المتتالية القصصية.
يتماهى الكاتب مع عمله طبيباً نفسياً بالأساس، فيتناوب سرده التخييلي من وراء قناع الطبيب النفسي تارة، وتارة أخرى وراء أقنعة مرضاه الذين يجمعهم ذلك الشك في قدرة الطبيب على استبصار بواطن أزماتهم الحقيقية، حتى لو كان هذا الآخر طبيباً، فالأبطال يطرقون أبواب العيادات النفسية المجهولة محمولين بالدافع نفسه، وهو تحريرهم من قبضة حكايات أصبحت تربك حياتهم، فيما يبدو العلاج النفسي وكأنه رحلة للعثور على مفردة بعينها تائهة وسط أدغال من المشاعر: «ستكبر بعد سنوات وتعلم أن الكلمات لا تعني دائماً ما تعنيه، وأن الإنسان بحاجة لطبيب نفسي ليعثر على اللفظة المناسبة لإدراك ما يشعر به. ستعرف أننا نصف الأشياء بغير دقة - إما كسلًا أو جهلًا أو كليهما». ولكن يبدو أن طرق باب طبيب نفسي جديد صار مُقترناً بشك مُسبق في جدوى الزيارة، فبطل قصة «الطريق إلى البيت» يسبق طبيبه بخطوة دائماً، بحكم خبرته في عيادات الطب النفسي «سيُرحب بك ثم يُلقي الأسئلة التمهيدية التي صرت تحفظها لأنها في كل مرة هي هي، بلا تغيير في ترتيب أو صياغة»، وصولاً لمتطلبات ضغط التعبير عن المشكلة النفسية في 45 دقيقة بطريقة تجعل الفكرة مشدودة ومستقيمة، فيما تبدو شكوى المريض النفسية في المجموعة أقرب لمهمة كتابة سرد ذاتي مُحكم في حيّز مُحدد من الكلمات.
غرفة مغلقة
تتراوح فضاءات القصص ما بين عيادات الطب النفسي المتفرقة التي غالباً ما تكون «مستطيلة ضيقة»، وبين نِثار الذكريات والتجارب التي يستحضرها الأبطال بعُسر في غرفة مغلقة حيث لا أحد سوى «أنت والطبيب»، فيما يبدو أن عالم المجموعة ككل يدور داخل ذلك الممر المُعتِم، ومحاولة استنطاقه ومعرفة ما يؤلم به، وتتبع مسارات هذا الألم.
ويطرح الكاتب مُفارقات عبثية للعبة الحكي، فنرى مريضاً يقوم بحكي قصة مُتوهمة لطبيبه: «تُلغِم الحدوتة الوهمية برموز لتتسلى بسماع الطبيب وهو يُفككها ويخرج منها بتفسيرات وتأويلات عن الفكر والشعور والسلوك»، فيما يبدو تمرداً على الخيارات التفسيرية الجاهزة، وتمرداً داخلياً على هذه الزيارة التي تبدو طوعية بالأساس ولكنها لا تخلو من إكراه أيضاً، فالبطل يشرد ويصف كلام طبيبه بأنه: «هذا الكلام الفارغ الذي جلست وراء اللاب توب في مكتبك البارد بشركة الإعلانات، تصمم وترسم، لتتمكن من دفع ثمن سماعه».
ويبدو عالم الكتابة والمثقفين موصولاً بالتمرد أو الانقلاب كذلك، بصورة تصل ببطل «كراسة الحقيقة» لغرفة الطبيب النفسي، حيث يبدو متمسكاً بلهجة متثاقفة فصيحة وهو يسرد إنجازاته الأكاديمية بإسهاب وتفصيل، وكأنه في لقاء تلفزيوني وليس في حضرة طبيب نفسي، وتبدأ محنة البطل بعد انتهائه من إتمام رسالة الدكتوراه في الخارج وعودته إلى مصر، حيث يغتنم فرصاً للكتابة النقدية في الصحف والدوريات، وصولاً لحفلات التوقيع، وشقه الطريق لعضوية لجان التحكيم: «أقول أي كلام فارغ - كتابة ونقداً وتعليقاً»، كما يتخفف بالاعتراف أمام الطبيب، ويحكي عن مصادفة فكرة تدوين آرائه الحقيقية عما يطالع على مدار اليوم في كراسة صغيرة أطلق عليها «كراسة الحقيقة» يُمارس فيها حريته الكاملة لنصف ساعة قبل النوم، ويبدو مشتتاً بين صدمة الأحكام التي يدونها عن مجتمع المثقفين وكتاباتهم، وبين «خليط المجاملات والأكاذيب» التي جعلته في مصاف النقاد والمُحكمين في الجوائز، ويبدو الرجل على مشارف فِصام على مستويات عدة، تبلغ ذروتها بعدما تضيع تلك الكراسة في ظرف غامض، فيفقد ذاته وكلمته، وحتى قدرته على العودة لما قبل «كراسة الحقيقة».
مشورة «غوغل»
تبدو زيارات الطبيب أقرب للتخفف من تلابيب الحكاية دون إيمان موازٍ بأن هناك مخرجاً منها، فبطل «كراسة الحقيقة» يخبر طبيبه أنه مدفوع لزيارته بعدما ساء حاله ودفعته زوجته لزيارة الطبيب النفسي، وبمجرد أن يحكي عن أزمته ينهض دون أن يستمع لتحليل الطبيب: «مشكلتي أعرف حلها، سأبحث عما فقدت، كل هذا تضييع وقت وقلق بلا جدوى، شكراً لوقتك واستماعك». ولا يبدو العبث في تناول العلاقة بين المريض والطبيب النفسي كامناً داخل المريض وحده، ففي المجموعة نلتقي بطبيب نفسي يعترف بأن مهنته مضجرة وموجعة، لكنها بشكل مؤكد مهنة «طريفة»، لا سيما عندما يكون مريضه النفسي من عالم «المثقفين»، يعترف الطبيب بهذا رغم شعوره بالذنب في أن يجد طرافة هي في ذاتها معاناة لأصحابها.
يبدو التواصل هو الحلقة الأكبر المفقودة، في عالم يستعين فيه الأبطال بـ«غوغل» ليُطلعهم على وسيلة كتابة فقرة تجعلهم أكثر رؤية ومشاهدة على منصات التعارف «تندر»، فبطل إحدى القصص يصوغ «البروفايل» الخاص به بتوجس «كأنها رحلة داخل نفسه وعقله، ومعرفة نقاط قوته وجاذبيته وتسويقها»، في عالم يستعين فيه الناس بفيديوهات تعليمية يستدلون منها على كيفية إقامة قصة حب، وخلق حوارات شيقة وعلاقات مُشبعة كتلك التي يشاهدونها في الأفلام الأجنبية وراء سجون الشاشات التي يحتجبون وراءها حيث «الخوف يحبسهم داخله في قفص».
ويُكرِس الكاتب في نهاية الكتاب فصلاً تظهر فيه تنويعات لهشاشة المُعالج النفسي الذي يستعين بكلام فرويد وكلاين وبياجيه عن «عُقد الطفولة»، فيما هو يُشارك مرضاه العجز ويتقاطع مع أزماتهم كإنسان: «تعلم في أعماقك أنك مثلهم، عاجزٌ عن خلق علاقة وحوار، ولكن لأنك ذكي ومحظوظ قررت العمل طبيباً نفسياً، لتكون حياتك حواراً مستمراً لا ينقطع، وعلاقة لا تنتهي مع مريض تشتكي آخر اليوم الطويل منه، لكنك تعلم أنك تُعاني مثله...».