يستعيد نجم والي في روايته الأخيرة عمتي الرومانتيكية وصديقاتها ورجالها... وأنا «روايات: الشارقة، 2024»، أجواء ثمانينات العراق الدامية الممتدة لحقبة التسعينات الكئيبة. إنها أزمنة الديكتاتور بأسوأ حالاتها وأقنعتها المختلفة من حرب وحصار وذاكرة متورمة. وهي الأزمنة الأكثر تمثلاً لإشكالية السرد في مدونة والي كلها؛ فهي، عنده، ميدان الذاكرة الأصيل وصندوقها الأسود بشخوصها وحكاياتها ورواتها المتماثلين إلى حد كبير؛ إذ نادراً ما نجد السرد يفارق زمنه الأثير، سوى أنه يتخذ صياغات متعدِّدة تختلف عن بعض باختلاف الحكايات وعوالمها السردية. في العمة الرومانتيكية، هذه المرة، نستعيد ميراث الخاسر كل شيء: الخاسر الصديقات، الرجال، الزهور وأزمنتها الزاهية، الحب، الذاكرة برمتها. إنه حال العمة الرومانتيكية الخاسرة الأبدية والممثلة الأصلح، ربما، لصيغة الفقدان والخسارة الكلية؛ وهل هناك خسارة وفقدان أكثر من الحرمان من الاسم ذاته والاكتفاء بصفة «العمة»؛ عمة الراوي ذي الاسم القناع «صبري: أمين صندوق البصرة؛ كما غنت يوماً صديقة الملاية، أو حافظ أسرار (أخبار) العمة كما تريد الرواية أن تقنعنا» كناية عن حفظ الأسرار غير المباحة، مما لا يمكن الجهر بها في عراق الثمانينات شأن اسم الحي البغدادي الذي سكنه الراوي وعائلته جوار عمته الرومانتيكية. لا ذكر للاسم، إذن، في حالتي العمة والراوي، في مقابل بذخ في ذِكر الوقائع والأسماء، وهذه إحدى الكنايات الكبرى في قصة العمة.
كنايات العمة الخاسرة
أربع كنايات رئيسية استخدمها الراوي بصفتها مداخل لا غنى عنها في كتابة قصة العمة، وهي أقسام الرواية الأربعة: «في خبر رجالها» و«في خبر صديقاتها» و«في خبر زهور عمتي» و«في خبر الحب وتبعاته». تنشغل الكنايات الثلاث الأولى بقصة العمة وحدها، في حين يشترك الراوي مع العمة في القسم الرابع. وهذه أحد مقاصد العنوان الفرعي للرواية «وصديقاتها ورجالها وأنا»، سوى أن كنايات الرواية الأربع، لنقل أقسامها، لا تلتزم بتراتبية العنوان الفرعي المقترحة؛ فنص الرواية يبدأ بـ«خبر رجالها»، ثم «خبر صديقاتها»، ثم «خبر زهورها»، ثم «خبر الحب» الخاص بالراوي. ماذا تريد أن تقول لنا الرواية باصطناع هذا الاختلاف؟ أزعم أن الإجابة كامنة في نظام الكناية ذاته، أقصد في تحويل الخبر كناية. نتحدث، هنا، عن الأخبار الأربعة التي تشكَّلت منها قصة العمة. وفي اختيار صيغة «الخبر» ما يُفيد معنى الجهر بما جرى إخفاؤه أو تغييبه. وهي تقنية جديدة تضاف إلى مدونة «والي» السردية، وتقوم على تحويل نظام الخبر إلى كناية سردية تتضافر مع كنايات أخرى لتؤلف خطاباً كنائياً مفارقاً في الرواية، يعمل على دمج الأخبار الأربعة مع بعض. لنتأمل المقاصد المتوخاة من تحويل وظيفة الخبر نحو النظام الكنائي. يظهر القصد الأول، والأهم ربما، في ربط الخطاب الكنائي السردي ببنية الإخفاء، وهذه الأخيرة إحدى نتائج سردية القاتل المتخفية في الرواية. نتحدث، هنا، استعارات تقنية وثيمية كثيرة أخذتها الرواية من نظام الرواية البوليسية، وإن شئنا الدقة أكثر فإن الكلام هنا عن إعادة تكييف لبنية هذه الرواية بما ينسجم مع مقولات قصة القاتل، وفي مقدمتها بنية الإخفاء: إخفاء اسمي العمة والراوي والحي السكني، بل إخفاء البشر بسجنهم مثلاً، أو حتى تغييب ذاكرتهم كما حصل مع العمة عندما فقدت ذاكرتها.
لكن مقولة «الرومانتيكية» تعيد توجيه الإخفاء بما يحقق التوازن المطلوب بين الاقتصاد السردي ونقيضه الإسراف. أفكّر، هنا، بمقدار الإسراف الموجود في الرواية «لماذا لا أقول الراوي!»، الإسراف بذكر الوقائع السردية غير الضرورية، ربما. هل للأمر صلة بسردية العمة وكناياتها؟ وقد يكون الأحرى أن نسأل عن معنى الرومانتيكية في أزمنة الحرب والموت وتغييب البشر؟
في المهاد الحكائي للرواية المعنون بـ«في خبرها» يتكتم الراوي على الدلالة الكلية لمقولة «الرومانتيكية»، فلا ذكر ولا احتفاء سوى بمهمة الراوي الخاصة بكتابة قصة العمة. لكننا نقرأ في المهاد ذاته تلميحاته عن «صندوق» حكايات العمة، ونعثر على إشارات مفيدة تخص معاني الرومانتيكية المتخيلة. وهي محض إشارات عامة غير دالة، في مقدمتها جُمل الافتتاحية الخاصة بمعنى الرومانتيكية؛ فالدلالات الحقة لصفة العمة تأتينا عن طريق كنايات النص السردية كلها ومدخلها أيضاً. أفكر بوظائف النظام الكنائي في الأخبار الأربعة. أتحدث عن الرابط الجامع بينها، وهي عندي الدلالة الكلية لمقولة «الرومانتيكية»؛ فذكر الرجال المحبين، رجال العمة، لا سيّما «آدم» المتوج الأخير لخسارتها الفادحة، بعد أن تخلى عن حبها وشقَّ لنفسه حياة مختلفة في باريس، ثم في ذِكر الرجال السابقين بما أضافوه من دلالات لرومانتيكية العمة، فإبراهيم كان سبباً في اغتصابها من قِبل خال إبراهيم، العقيد في الجيش، وممثل القاتل في حياة العمة، وسمعان أو إسماعيل الفنان المنتحر، ثم آدم الذي زرع في نفس العمة الرغبة الأصيلة في الفرار من زمن القاتل والهجرة من بلاد الحروب اللانهائية إلى بلاد أخرى نجهلها كلياً.
هؤلاء برعوا في تأبيد الصفة المهيمنة في الرومانتيكية وهي معنى المأساة؛ فأن تكون رومانتيكياً في بلد القاتل فهذا لا يعني سوى أن تكون ذا مصير مأساوي. ولا تبلغ المأساة سرديتها القصوى من دون تحقُّق المصائر التعيسة لرفيقات العمة في السجن والعمل والحياة؛ ألا تقول العمة نفسها للراوي: «قل لي من هو صديقك، أقل لك من أنت!؛ فكيف إذا كانت الصديقة، أو الصديقات، ممن يصفهن الراوي بـ«العجيبات». وهن كذلك في حياتهن ومصائرهن التعيسة، لا سيّما رفيقات السجن وصديقات الحياة لاحقاً.
تختلف كنايات الصديقات، أو أخبارهن كما يجادل الراوي، بتباين وظائف كلٍّ منهن؛ لنأخذ «فاتن» مثلاً لصديقات الجامعة، ما قبل السجن، فرقاً عن منار، السجينة الطارئة، ثم صديقة العمة وحبيبة الراوي. حالة فاتن تظل جزءاً من تفاصيل الحكاية الأصلية، حكاية العمة قبل منعطف السجن، فهي مادة سردية تضاف، وقد لا تضاف، إلى متن الحكاية، وهي موجودة في الحالتين. وهذا الوصف يختلف عن حالة منار؛ إذ تؤلف «سردية» مختلفة وحالة جديدة تولِّد تحوِّلاً كبيراً في مسار السرد برمته، وقد نبالغ فنقول إن حكاية العمة، ومن خلفها حكاية الراوي أيضاً، كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة لولا منعطف السجن، فكانت حالة منار إضافة حقيقية إلى النص كله؛ فقد أسهمت بمدِّ السرد بمواد حكاية جديدة، وهي ذاتها من منحت الراوي قيمة كبرى بوصفه شخصية سردية أو فاعلا رئيسا في النص وليس محض راوٍ. والنتيجة أن منار كانت سببا في القسم الثالث «في خبر زهور عمتي» والرابع «في خبر الحب وتبعاته»؛ إذ لولا سردية منار ما كان للسرد أن يتقدَّم خطوة واحدة للأمام، ولظل النص يعاني من التضخم الحكائي غير المجدي.
ثمة تأكيدات كثيرة تصدر عن الراوي نفسه تقول لنا إنه مكلَّف من العمة سرد قصتها... لكن النص وكناياته يقولان لنا إنها قصة الراوي أيضاً
حكاية العمة أم حكاية الراوي؟
ثمة تأكيدات كثيرة تصدر عن الراوي نفسه، تقول لنا إنه مكلَّف، من العمة، حتماً، سرد قصتها. عنوان الرواية نفسه «عمتي الرومانتيكية»، يقول لنا، ابتداءً، هذا الأمر: إنها قصة العمة فقط، لكن النص وكناياته يقولان لنا إنها قصة الراوي أيضاً. سردية الراوي شاهد حي، ليس على موثوقيته المؤكدة من قِبل العمة فقط، إنما هي دليل إضافي على فاعلية النظام الكنائي المساهم بتدعيم الحكاية الأصل، حكاية العمة، وعلى توريط الراوي بسرد حكاية لم يكن شاهداً حقيقياً على أغلب تفاصيلها؛ بحكم سنه الصغيرة؛ فهو ابن السنوات الأربع عندما تحوَّلت العائلتان إلى الحي البغدادي، ولا دليل على صحة مروياته السردية من حكايات عمته. هو صندوق حكايات العمة، وهو صبري أمين البصرة كما يصر على هذا الاسم؛ حتى غلب على الاسم الحقيقي غير المذكور. وهو وريث صندوق العمة الأسود، وإن شئت الدقة قل إنه وريث ذاكرتها بعد فقدانها الذاكرة وضياعها في متاهة ما في بغداد. يمكننا أن نضيف توصيفات أخرى تصف هذا الراوي، وهذه كلها لا تحقِّق للراوي الموثوقية المطلوبة، كما نعتقد، في سرد وقائع حكاية العمة. هل نريد القول إن «لحظة» ما بعد السجن وظهور منار ثم زواجه منها هو التسويغ الحكائي المفترض لتحقيق بعض الموثوقية؟ ربما؛ فحالة ما بعد السجن هي «انقلاب» سردي كامل على صُعد النص كلها، ومنها التحوِّل التدرجي للحكاية ذاتها من الصيغة الفردية المطلقة، التي لا يشغل فيها الراوي سوى وظيفة السرد وإدارته، إلى الصيغة الحكائي المشتركة بين العمة والراوي، حتى كأننا نشهد تنازعا بينهما على من يكون موضوع الحكاية الأصلي، لا سيّما في القسم الرابع والأخير «في خبر الحب وتبعاته»، الذي نشهد فيه تراجع حضور العمة مقابل تنامي حكاية الراوي الشخصية.
«عمتي الرومانتيكية» الرواية الثالثة في سياق روايات تعطي البطولة المطلقة للنساء؛ فقد سبق لوالي أن أصدر «إثم سارة: 2018»، و«سعاد والعسكر: 2021»، والآن «عمتي الرومانتيكية». وأغلب الظن نحن إزاء متتالية روائية سردية موضوعها حكايات النساء في أماكن عربية مختلفة: «الرياض، والقاهرة، وبغداد». وفي الرواية الأخيرة يبرع «نجم والي» كثيراً في انتشال الحكاية النسوية من براثن «السياسة»؛ دافعاً الأخيرة إلى الوراء لتكون محض ديكور ذي وظيفة تفسيرية. نحن، هنا، أمام حكاية امرأة تنفتح على حكايات النساء الأخريات من جارات السكن في الحي البغدادي أو صديقات أو سجينات. إنه عالم العمة النسوي المستقل بنفسه. عالم يحتفي بسردية المرأة وحكاياتها، وينتصر لذاكرتها المفقودة.