«آخر المدن»... الواقعية الوحشية

زهير الجزائري ينحاز أكثر للروائي عن التسجيلي في روايته الجديدة

«آخر المدن»... الواقعية الوحشية
TT

«آخر المدن»... الواقعية الوحشية

«آخر المدن»... الواقعية الوحشية

تضعنا رواية «آخر المدن» للكاتب زهير الجزائري، الصادرة عن دار سطور للنشر والتوزيع/ بغداد 2023، أمام ثنائية المفارقة بين السرد والوثيقة، فبقدر ما تستدعي لعبة السرد التخيل والإثارة والرغبة بتقويض التاريخ، فإن الوثيقة تعمد إلى مجاورة الواقع وصيانته، وربما استحضار التاريخ نفسه بوصفه مجموعة أحداث وحكايات وصراعات.

لم يشأ الروائي وضع الوثيقة أمام «المتخيل السردي»، بل جعل هذا المتخيّلَ مجسَّه السردي للحفر في المخفيّ من الوثيقة، وهو ما جعل حبكة الرواية تنمو في إطارٍ «سائلٍ» يتسع للتشابك بين ما هو سردي، وما هو وثائقي، فتمارس عناصر السرد خرقها للثابت، والوجود، ولاصطناع رواة خارقين، متمردين، مفتونين بتحويل الشهادة/ التدوين إلى رؤيا، وهو الضد مما حفظته الوثيقة في «لا وعيها» حول حادثة «بشتشان» الدموية، بوصفها مرجعية وثائقية وإطارية للرواية، إذ تحولت إلى «تاريخ» فاصل بين زمنين، استدعت لها كثيراً من أولئك الرواة، الذين عاشوا أزمتها ودمويتها، فحمّلوها إسقاطاتهم النفسية والأيديولوجية. والرواية في هذا السياق لا تعدو أن تكون تمثيلاً لما يرويه عنها أولئك الرواة، الذين تمرّدوا على أصل الحادثة، فحوّلوا الوثيقة إلى «ظل» سحري للذوات المأزومة، مثلما حوّلوا الأمكنة القاسية والمُوحشة إلى دوستوبيات طاردة ومُعادية، عاشوا معها سيرة هروبهم من ذاكرة الحادثة، وكأنهم كانوا يهربون من أوهامهم، إذ بَدَت فكرة الهروب نظيرة للبحث عن فكرة الخلاص، ونفياً لفكرة الموت، ومواجهة مفارقة مع الذات المهزومة والآخر / السلطوي، والآخر / الدوغمائي / الأيديولوجي.

ثنائية السرد والوثيقة تحولت إلى لعبة استقطاب أرادها الروائي أن تكون مجالاً بؤرياً لوضع الفاعل السردي في سياق ضدي لكتابة شهادته الضدية، عبر تتبع رحلة «الأنصار» في الجبال المُوحشة، وتدوين انكساراتهم وخيباتهم، حيث استثارة المسكوت عنه في هذه الرحلة الغرائبية، وفي تحويل هذا الصراع من طابعه السياسي / الأيديولوجي إلى صراع نفسي، عاشت استلابه شخصيات كانت تثق بالحلم الأيديولوجي اليوتوبيي، لكنها اصطدمت بالواقع المتوحش، فتكشف لنا عبر لعبة السرد وجوداً «دوستوبياً» تتمثله فكرة «موت المكان»، بصفتها تورية لموت البطل الأيديولوجي، وموت الحلم الثوري.

العنوان وعتبة الخرق

العنوان الدال على النهاية / آخر المدن، يوحي بنهاية ذلك الحلم، ونهاية السيرة / الرحلة في «المكان الدوستوبي». وعبارة «آخر» هي خرق سيميائي للمكان اليوتوبي، حيث يصنع السرد عبر واقعيته المتوحشة أمكنة سردية طارئة وطاردة، لا حدود لها، ولا أفق لها سوى ما يصلح لتمثيل تلك الواقعية، ولطبائع الشخصيات المستلَبة فيها، ولتحميل «الوثيقة» بعداً إيحائياً يتعالق مع ما تعرّضت له «حركة الأنصار» من خيانة، ومن أخطاء ومن استلابات، جعلتها تعيش مراثي المكان الدوستوبي، بغرائبيته، وبانتهاكاته، وبغرائبية شخصياته التي تحولت وتشوهت، فبدا وجودها في «الجحيم الثلجي»، وكأنه نظير للوجود النفسي القهري لجحيم الذات، في هزيمتها وانكسارها، وفي سيرتها الفارقة.

دأب الجزائري في أغلب كتاباته على ممارسة هوايته «التسجيلية» مع الأمكنة، عبر عين «كاميرا السرد»، و«لغة الريبورتاج»، فاصطنع عبرها مدوَّنات ووثائق زاوجت بين الواقعية التسجيلية وسردية الصحافة، لكنه في رواية «آخر الأمكنة» بدا أكثر انحيازاً إلى الروائي، حيث تحولت الوثيقة / الحدث إلى مُحفز للسرد، ولكشف ما عاشته شخصيات الرواية في رحلتها الدامية، على مستوى فنطازية مواجهتها للطبيعة القاسية، أو على مستوى وقوفها أمام محنة المجهول والعدو والرهاب الأيديولوجي، فكانت الرواية مأخوذة بتوصيف مُركّب وغرائبي زاوَج فيه الروائي بين رعب المكان الجحيمي، وأرخنة التحولات / الهروبات النفسية والصراعات التي عاشتها شخصياتها في جبال كوردستان الثلجية بعد حادثة «بشتشان» التي مثّلت انكساراً حقيقياً في تاريخ الحركة، وفي تحويل المكان اليوتوبي / الثوري إلى مكان دوستوبي مسكون بجحيم الهروب والمطاردة والعزل والإحباط. وبقدر ما كشفته سيميائية السرد من خرق في المكان «الثوري» من دلالات فاجعة، فإنها انفتحت على خروقات أخرى، مسّت «الذات الأنصارية» في أسئلتها الوجودية، وفي غربتها داخل المكان الغرائبي، وصولاً إلى ما أفضت إليه من تداعيات - أيديولوجية وسياسية ونفسية - أسهمت في صناعة الخرق الأكبر؛ وهو المنفى، الذي عُدّ خياراً للخلاص، مثلما عدّه البعض هزيمة وجودية للحركة ولحُلمها الثوري، وذهاباً إلى «اللامكان»، وربما كان هروباً من سرديات الذات القلِقة إلى الآخر، حيث لم يعد هذا الآخر «جحيماً»، كما قال سارتر، بل إن الجحيم ظلّ عالقاً بالذات، ومسكوناً بقلقها الوجودي، وهوسها بالبحث عن المكان التعويضي / الإشباعي الذي يتضادُّ مع قسوة التاريخ / الوثيقة.

«أمكنة زهير الجزائري يغلفها الضباب»، هذا التوصيف للكاتب علاء المفرجي تعبير عن هوس الجزائري بالأمكنة، إذ هي جزء من لعبته في أسفاره الصحافية، لكنه في رواية «آخر المدن» جعل تلك الأمكنة خارج لعبته الصحافية، وداخل تخيلات الرهان السردي، ليدوّن من خلالها محنة واغتراب الإنسان، الغاطس في «جحيم الثلج»، فيكشف عن ملامحه الشاحبة والمُعذَّبة، وعن موته العلنيّ وجودياً وأيديولوجياً، مثلما يكشف عن ملامح الطبيعة الناتئة، غير المُؤَنْسنة، والتي فقدت أثرها لولا ما أطلقه عليها «الشاعر...» الذي التقطته فرق الحركة، فهو جندي هارب من أهوال المعارك العبثية الأخرى، ومن «خنادق مُهدّمة»، ومن ذاكرة محشوّة صور جثث في «سورة الماء وأخرى معلَّقة على الأشجار أو نائمة في حقول الخشخاش»، «فأسبغ بحضوره البوهيمي نوعاً من الشغف الشعري، عبر هلاوسه، وأحلامه، وعبر ما اصطنعته مخيلته التائهة من توصيفات ظلّت عالقة بذاكرة الأمكنة مثل «فم الذئب» و«جبل العاشق»

الزمن بوصفه مجالاً سيميائياً

قد يكون الزمن «التاريخي» أكثر تعلّقاً بحمولات ما تُدوّنه الوثائق عن الحروب والأحداث الكبرى، وعن سيرة الإنسان الذي يكتب عن أسفاره ورحلاته، لكن حضور «الزمن النفسي» في الرواية جعلها أكثر إثارة؛ ليس لأنه يلعب على فكرة تقويض «الزمن التاريخي» أو سرديته؛ بل لأنه استغرق في الكشف عن رهاب الصراعات التي عاشتها شخصيات الرواية في دواخلها، وفي المكان الدوستوبي، وعلى نحو جعل صاحب كتاب «ضباب الأمكنة» مشغولاً بإيهامات رصد تلك التحوّلات النفسية الصاخبة لشخصياته، عبر مراقبة انفعالاتها وتمرداتها، فجعل الزمن النفسي أكثر تمثيلاً للكشف عن تلك التحولات، وعن رصد تشوهات علاقتها بالمكان، وبما أعطى لـ«المكان الثلجي» من بُعد سيميائي للعذاب الإنساني، حيث استعارة ميثولوجيا العذاب في «الجحيم الدانتوي» بوصفه معادلاً نفسياً لمحنة شخصياته وهي تعيش «الاغتراب» القاسي بمفهوميه الفلسفي والتطهيري، فلا تملك سوى التمرد، والرحيل الفاجع إلى «آخر المدن» بوصفه اعترافاً وتطهيراً وخلاصاً.

تجاوزُ الروائي الجزائري وثائقية الزمن الكورنولوجي الخارجي وضَعَنا أمام زمن داخلي يتحطم فيه النموذج النمطي، فجعل زمن الهزيمة / الحادثة هو زمن اللاوعي الذي تتسرب من خلاله إيحاءات ما يخصّ مصائر شخصياته وتحولاتها، فاصطنع لها مقاربات سردية يتمثل فيها النفسي بوصفه تعبيراً عن القلق والخوف والعجز، مثلما يتبدى فيها الاغتراب بوصفه طرداً من «الحلم» وكشفاً فاجعاً عن الهزيمة الذاتوية، إذ تشظّى وجودها بين رعب الأمكنة القاتلة التي لجأت إليها تلك الشخصيات، وبين رعب الانكسارات النفسية الفاجعة التي أخذت تتضخم، بهلاوسها وكوابيسها وهاجسها، المأخوذة بمطاردة البرد والسلطة ورقابة «البختيار».

الشخصيات والتمثل البوليفونيقد يبدو الروائي العليم حاضراً وفاعلاً في الرواية من خلال ضمير المتكلم الجمعي «نحن»، لكنّ مفارقة هذه الوظيفة - أحياناً - تُعطي بعض الشخصيات الأخرى حضوراً تؤدي من خلاله وظائف تمثيل خطابها الوجودي في سياق الأحداث، بوصفها ناقلة لها، أو للتعبير عبر «ضمير الغائب هو» عن المخفي، وهذا ما أسهم في تعزيز مستويات البناء السردي في الرواية، على حساب التدوين الوثائقي، فجعل لعبة السرد مربوطة بشبكة علائق ذات طاقة تمثيلية، تدخل فيها اللعبة البوليفونية بوصفها واسطة تجمع بين فواعل وبين سردية «السيرذاتي»، وتدوينها للشهادة / الوثيقة، وهو ما ألقى ظلاله على اشتراطات لعبة السرد، فجعل فضاء الحكي مرهوناً بتخليق سرديّ تُمارس فيه عين الكاميرا وظيفة راصدة، مثلما جعل عين السارد تمارس وظيفة الاستغراق في اليومي والتفصيلي، فجعل شخصياتٍ مثل هشام، جوتيار، رؤوف، سمية، د. عشتار، د. مالك، رائد الخائن، الشاعر، بهاء الأيديولوجي، هشام المسؤول العسكري، البختيار، وغيرهم، عناصر أو وحدات رمزية في السياق الروائي، تمنح الرواية تكاملاً يقوم على ثنائية أرخنة الحدث في بشتشان، وأثر المضمر في تقويض الحلم، وبين فاعلية السرد وما تنطوي عليه من آليات تستجيب لضرورات واستراتيجيات بناء الرواية، على مستوى تغذية خطوط السرد بالحركة، أو على مستوى تقديم شخصيات تتبادل وظائفها بقسوة، فتعيش صراعاتها وتقاطعاتها، دون وجود مركزية لوظيفة «البطل»، إذ تبدو البطولة الغامضة قرينة ببطولة «الإنسان» الذي يُقتل، أو الذي يعيش محنة المكان والهزيمة والإحباط، وهذا ما جعل الشخصية الروائية أكثر تمثيلاً لسيكولوجيا الرعب في «المكان الثلجي» بوصفه معادلاً لسيكولوجيا الرعب الذي يعيشه الإنسان في مواجهة العدو، ومواجهة الدوغما الأيديولوجية، حيث «تسقط المدن الفاضلة» (ص 217)، وحيث «يبدو التاريخ أمامنا مثل كيان يتحلل، حتى يوشك على فناء حقيقي» (ص 16).

الهروب ونبوءة البختيار

«سيموت هؤلاء قبل نهاية الرحلة» (ص 7)، هذا الاستهلال هو ما أخبر به البختيار «القادة الشيوخ»، وكأنه يرسم تلك الرحلة بأفقها، عبر المعرفة بالطبيعة المتوحشة، وربما عبر حدسه لمحنة الإنسان الذي سيواجه أخطارها، إذ تتحول الطبيعة إلى عدو آخر يمارس سطوته في استثارة أعداء «داخليين» يتوزّعون بين الخيانة والخذلان واليأس والعجز والخوف، فضلاً عن العدو الخارجي الذي يفرض سيطرته على الجغرافيا.

ما بين لعبة الأعداء المتعددة تأخذ لعبة السرد تواليات جعلها الروائي تنمو في إيقاع بطيء، وكأنه إيقاع الإنسان في محنته، وفي غربته عن المكان والحب والجسد، وهذا ما أسبغ على لغة الرواية واقعية قاسية، جعلتها بلا حميمية، وغير مُؤَنسنة، حيث تعيش الشخصيات رهابها وقلقها، وحيث يصطخب وجودها بأصوات تكشف عن أزمتها الداخلية، لكن دون تحديد هوية لسانية لها، فالأمكنة «كردية»، وأغلب الأنصار من المهاجرين إليها، فلم نجد لهذه المفارقة اللسانية أثراً واضحاً في الرواية.

الشخصيات التي رحلت من «حافة الأرض الحرام» بَدَت وكأنها تستسلم إلى قدَرٍ لها، يستبق مع نبوءة «البختيار»، حيث تتحول تلك الرحلة إلى ما يشبه «السيرة الهلالية» في المخيال الشعبي، بحثاً عن وجود ما، عن مدنٍ تمنحهم إحساساً بالخلاص من عقدة «البشتشان»، لكن هذه الرحلة تحولت إلى مسار للرعب، وإلى ما يشبه «الوثيقة السردية» التي تسنفر قوة التخيّل، كاشفة عن دوستوبيا المكان، وعن أزمات الشخصيات، وعما تعرضت له من فقد، ومن جروح «نرجسية» و«أيديولوجية» جعلتها تنزع إلى التمرد، «لقد امتلكوا حق التصرف كاملاً حين اختاروا الذهاب بدونه» (ص 217)، حيث تركوا قائدهم الأيديولوجي وهم مسكونون بهوس البحث عن آخر المدن.


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.