جامعة الملك سعود تنظم المؤتمر الدولي «عام الشعر العربي... أصالة الإرث وعالمية الأثر»

تثميناً لقيمة المنجز الشعري وقيمته الحضارية

جامعة الملك سعود في الرياض (واس)
جامعة الملك سعود في الرياض (واس)
TT

جامعة الملك سعود تنظم المؤتمر الدولي «عام الشعر العربي... أصالة الإرث وعالمية الأثر»

جامعة الملك سعود في الرياض (واس)
جامعة الملك سعود في الرياض (واس)

افتُتح في جامعة الملك سعود بالرياض ‏المؤتمر الدولي الرابع «عام الشعر 2023... أصالة الإرث وعالمية الأثر»، ويقيمه قسم اللغة العربية وآدابها بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة بالشراكة مع جائزة الملك فيصل. ويقام المؤتمر، اليوم (الاثنين) وغداً (الثلاثاء).

العلاق والعراق والآخر

بدأت الجلسة الأولى (الاثنين) برئاسة الدكتور فالح العجمي، بتقديم الورقة الأولى وعنوانها «الإشاريات بين الشعرية والدلالة... دراسة تداولية في شعر العلاق» للدكتورة ذكرى القبيلي، إذ أشارت في هذه الورقة إلى دراسة الإشاريات وتوظيفها عند الشاعر والناقد العراقي علي العلاق؛ ثم وقفت بالوصف والتحليل على قصيدته «شبيه بأول هذي البلاد» وإشارياتها الشخصية والمكانية والزمانية والاجتماعية.

كما كشفت الباحثة عن كيفية توظيف الشاعر للإشاريات الشخصية، وخصوصية استعماله لها، وأساليبه في توزيعها وخلق دلالات طريفة ومهمة. وبيّنت أيضاً العمليات التداولية والإسقاطية التي قام بها الشاعر مع العلم الشخصي من جهة، ومع وطنه العراق من جهة أخرى. والدلالات المتعالقة ضمن ثلاثية (العلاق – العراق - الآخر).

كما شارك سعد المطرفي بورقته «شعر الرجز بين الفصحى والعامية: بحث في الامتداد والطبيعة الفنية» التي تناولت دراسته شعر الرجز بين الفصحى والعامية؛ فأبان الباحث عن أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما شكلاً ومضموناً، كما رصد البحث القوالب المتنوعة لشعر الرجز وطرق تأديته، وكذلك الظواهر اللهجية فيه.

وقدم الدكتور عبد الرحيم أحمد في ورقة بعنوان «صور معاني توظيف أمثال التأبيد والاستحالة في الشعر الجاهلي» وهي دراسة تحليلية، رصد فيها الباحث ثماني صور عبّرت عن معاني محددة قصدها الشعر الجاهلي كربط الامتناع عن الفعل الممكن بحدوث فعل يستحيل وقوعه أو حدوثه، أو ربط الامتناع عن الفعل الممكن بفعل يستحيل توقفه أو انتهاؤه، وغير ذلك من الصور.

وأبان البحث أيضاً عن محاور متنوعة لأمثال التأبيد والاستحالة تتمثل في الغياب والثبات والتضاد التي وظَّفها الشعر الجاهلي في سياقات متعددة كالرثاء والفخر والهجاء.

وانتهت الجلسة بورقة للدكتورة غزية الثبيتي وعنوانها «الإبداع الشعري بين الفصحى والعامية في كتاب (نزهة النفوس ومضحك العبوس) لابن سودون البشبغاوي»، وتناولت دراستها المنجز الإبداعي لابن سودون، فوجدت أن إبداعه الأدبي عامة، والشعري خاصة قد تراوح بين مجالي الجد والهزل.

كما أشارت الباحثة إلى أن نصوص البشبغاوي الشعرية الفكاهية لم تكن عامية خالصة، بينما كانت نصوصه الشعرية الجدية فصحى خالصة؛ مما يؤكّد قصدية تخيّره للنمط الشعري العامي ليعبّر من خلاله عن الموضوعات الفكاهية، ويؤكد أيضاً أن ابن سودون كان واعياً بارتقاء المستويات اللغوية لتلائم الأغراض الشعرية التي يكتب فيها.

جانب من المتحدثين في ‏المؤتمر الدولي الرابع «عام الشعر» (الشرق الأوسط)

الشعر والفلسفة

وحملت الجلسة الثانية عنوان «الشعر والفلسفة» برئاسة الدكتورة أمينة الجبرين، وبدأت بورقة قدّمتها الدكتورة بودالية تواتية بعنوان «النّظريّات الفلسفيّة السينوية في الرّجز الطبي: الأرجوزة الطبية لابن سينا أنموذجاً»، وأبرزت الباحثة فيها مختلف نظريات ابن سينا الفلسفية التي شاعت في أرجوزته الشعرية الطبية، كما كشفت عن المؤثرات الفلسفية التي طبعت لغة الأرجوزة، وقد ظهر من خلال البحث تكامل العلاقة بين الفلسفة والشعر والطب.

وحملت الورقة الثانية للدكتور عبد الواسع الحميري عنوان «الشعر العربي في مواجهة تحديات الهوية»، إذ تنطلق دراسته فيها من فرضيّة أساسيّة مفادها: أنّ الشّعر ملاذ الهويّة الآمن وحصنها الحصين، وقد سعى الباحث إلى التحقق من صحّة هذه الفرضيّة من خلال وقوفه على خصوصيّة شبكة العلاقات المتزامنة بين مكوّنات النّسق الشّعري نظرياً وتطبيقياً، من خلال نماذج من الشعر العربي القديم والحديث.

فلسفة الكراهية

وتلت ذلك ورقة للدكتورة عبير الجربوع بعنوان «فلسفة الكراهية في الشعر العربي» بيّنت فيها الباحثة فلسفة الكراهية في الشعر العربي من حيث إن الكراهية صورة من صور الخبرة البشرية، كما استعرضت الآراء المختلفة للكراهية لدى فلاسفة حاولوا فهمها وتسويغها، ثم حللت عدداً من النصوص الشعرية التي تناولت موضوع الكراهية.

وانتهت الباحثة إلى أن الحديث عن الكراهية قليل في الشعر، بخلاف التعبير عن الكراهية. كما أن لدى الشعراء رغبة في فهم الكراهية وأسبابها، وأن التعبير عن الكره في الشعر إما لشخص وإما لشيء وإما لفعل، وقلّما يَرِدُ التعبير عن الكراهية للمخاطب. كما أنه لا يكون الآخر موضوع الكراهية دائماً، بل يمكن أن يعبِّر الشاعر عن كراهيته لنفسه أو لشيء منه، أما أبرز أسباب الكراهية فكانت بسبب العجز، والحزن.

الذات في قصيدة النثر العمانية

واختُتمت الجلسة بورقة للدكتور علي الكلباني (سلطنة عمان) تحدث فيها عن بحثه المعنون بـ«التأويل الوجودي لحضور الذات في الشعر المعاصر (قصيدة النثر العمانية أنموذجاً)» الذي درس الطباع الوجوديّة للذات في قصيدة النثر العمانيّة الحديثة من خلال أمثلة نصيّة لروّاد شعرِ الحداثة في عمان، معتمداً في تطبيقاته على تأويل الفلسفة الوجودية للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، فدرس الباحث الطباع الوجدانيّة التي تتأسس على الأمزجة المتغيّرة وتجعل الذات في مستويات مختلفة من الراحة والاستياء في القسم الأول من البحث.

وفي القسم الثاني درس الطباع التي تمارسها الذات عندما تكون مع الآخر، وأخيراً درس الطباع التي تمارسها الذات عندما تتعلق بالآخرين، ليتوصل البحث بعد ذلك إلى نتيجة مفادها أن الطباع الوجوديّة للذات تحضر في القصيدة العمانية الحديثة بنسب متفاوتة.

الجلسة الثالثة حملت عنوان «الشعر والدرس اللغوي» وعُقدت برئاسة الدكتور صالح الغامدي، وبدأت بورقة الدكتور إبراهيم الشمسان أستاذ النحو والصرف في جامعة الملك سعود بالرياض، بعنوان «منزلة الشعر والشعراء عند اللغويين» وقد وضح في مقدمتها عن الشعر وكيف هو أداة للتعبير عمّا في النفس، وأثر هذا الشعر في وضع قواعد اللغة العربية، ثم تحدث عن الشعر واستعمال اللغويين له، موضحاً تمييز اللغويين ما هو شاهد شعري وما هو مثال. وختم حديثه عن أهمية الاستشهاد والفرق بينه وبين ما يقعّد على الاستشهاد.

كما قدم البروفسور أيمن الجندي، أستاذ النحو والصرف بكلية اللغة العربية في جامعة الإمام، بحثاً بعنوان «الشاهد الشعري في كتاب (نكت الأعراب في غريب الإعراب) لجار الله الزمخشري (ت538هـ)»، وتحدث فيه عن إبداع الزمخشري في توظيف الشاهد الشعري ومنهجه فيه، استدلالاً بكتابه «نكت الأعراب في غريب الإعراب» موضحاً مهارة الزمخشري في الربط بين الوجه الإعرابي والشاهد الشعري، وختم الباحث حديثه بموقف الزمخشري من الاحتجاج بشعر المولدين.

جانب من المتحدثين في ‏المؤتمر الدولي الرابع «عام الشعر» (الشرق الأوسط)

كما قدم البروفسور رمضان القسطاوي، أستاذ النحو والصرف بجامعة الملك سعود بالرياض، بحثاً بعنوان «الأثر الجمالي للضرورة الشعرية في النحو العربي» كشف فيه عن الأثر الجمالي للضرورة الشعرية في الدرس النحوي، وذلك استدلالاً بأعمال علماء النحو القدماء، وطرح في ختام حديثه عن أهمية الضرورة وكيف تعطي أثراً جمالياً، والمعادلة بين خفة اللفظ وثقله مع ثقل المعنى وخفته في نفس الشاعر.

وألقى نايف الشدي، أحد موظفي وزارة التعليم، بحثاً بعنوان «مكامن المعاني للأفعال المزيدة في ديوان النابغة الذبياني - دراسة صرفية» أوضح فيه مراد الشاعر، وأثر سياق الصيغ في فهم النص العربي وتذوقه جيداً وذلك عبر دراسة استقرائية لصيغ في ديوان النابغة الذبياني.

جانب من الحضور خلال المؤتمر الدولي الرابع «عام الشعر 2023... أصالة الإرث وعالمية الأثر» في جامعة الملك سعود (الشرق الأوسط)

وانتهت الجلسة الثالثة بورقة للبروفسور يوسف فجال، أستاذ اللغويات في جامعة الملك سعود بالرياض، وعرض فيها بحثاً بعنوان «الوظيفة التفسيريّة في قصيدة (واحرّ قلباه) للمتنبّي- دراسة مقارنة بين وظيفتَي النعت والحال» راجع فيها جهود النحويين حول الوظيفة النحوية، ثم أمعن بالحديث عن الوظيفة التفسيرية التي تجلّت في بعض الأبواب النحوية، والاستشهاد بها من شعر المتنبي، خاتماً حديثه بأبرز النتائج التي تطرق إليها.


مقالات ذات صلة

الأرميني كارين أخيكيان لـ«الشرق الأوسط»: منحوتاتي صوت معارك النساء

يوميات الشرق منحوتاته تعكس صمود نساء يثابرن رغم ما يُعرقل (كارين أخيكيان)

الأرميني كارين أخيكيان لـ«الشرق الأوسط»: منحوتاتي صوت معارك النساء

كارين أخيكيان نحّات من أرمينيا، تستكشف أعماله موضوعات الصمود والعواطف المركَّبة. باستخدامه أسلاك الحديد والنحاس، يبتكر منحوتات تعكس تخبُّط الروح وإنجازاتها.

فاطمة عبد الله (بيروت)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
ثقافة وفنون غازي القصيبي

غازي القصيبي... صيغة مركبة

مبادرة غازي القصيبي امتازت بما أسميه «الإبداع المركب»، فهل بسبب كونه شاعراً، اصطبغت محاضراته في التدريس الجامعي أستاذاً في العلاقات الدولية والعلوم السياسية.

محمد رضا نصر الله
يوميات الشرق بدء فعاليات ماراثون «أقرأ» بمكتبة الإسكندرية (مكتبة الإسكندرية)

«ماراثون القراءة» يجذب الشباب في السعودية ومصر والمغرب

يسعى «ماراثون أقرأ» الذي أطلقه مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في ثلاث مدن عربية إلى توسيع دائرة القراءة لتكون مصدراً للإلهام لدى الشباب العربي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
ثقافة وفنون خلال افتتاح «المهرجان اللبناني للكتاب» سنة 2020 بحضور وزير التربية اللبناني آنذاك طارق مجذوب (في الوسط إلى اليمين)... في بلدة أنطلياس بلبنان (الحركة الثقافية - أنطلياس)

«المهرجان اللبناني للكتاب» ينطلق الخميس متحدياً الأزمة المالية ومخاطر تمدّد الحرب

ينطلق «المهرجان اللبناني للكتاب»، في دورته اﻟ41، الخميس المقبل، 29 فبراير (شباط) 2024، في بلدة أنطلياس اللبنانية، متحدياً الأزمة المالية ومخاطر تمدّد الحرب.

شادي عبد الساتر (بيروت)

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.