لماذا يتساقط الشعراء؟

الإنسان الحديث إنسان مُزَعْزَع لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء

عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
TT

لماذا يتساقط الشعراء؟

عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي

بما أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة، وبما أن العالم الجديد لا يمكن أن يولد دفعة واحدة، فإن الجيل الذي يعيش بينهما يشهد عادة كثيراً من التمزقات النفسية والانهيارات الداخلية. إنه جيل الاحتراق والعبور. عنيت جيلنا الحالي، أو جيل الكتاب الفرنسيين قبل 200 سنة. وهذه التمزقات والانهيارات النفسية هي التي عبّر عنها شاتوبريان بكل وضوح عندما قال: «لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين. وقد غطست في المياه المضطربة مبتعداً بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدت، وسابحاً نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة والذي لن أراه بأم عيني».

جمال الدين الأفغاني

هذا تصوير من أنجح ما يكون لعملية النقلة أو القطيعة التي تُمزقنا نحن الآن... ينبغي العلم بأن شاتوبريان ولد وعاش نصف عمره تقريباً في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة الفرنسية، ثم عاش نصف عمره الآخر في القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة 1768 - 1848 (80 سنة). وبالتالي فقد شهد كلا العالمين، القديم والجديد. ولم يكن من السهل عليه أن يحدث القطيعة مع العالم القديم الذي ولد فيه وترعرع في أحضانه. من يستطيع أن ينسى طفولته وشبابه الأول؟ وهو عالم مسيحي، كاثوليكي، زراعي، ريفي، في معظمه. هذا في حين أن العالم الجديد ابتدأ يصبح علمانياً، صناعياً، فلسفياً، مضاداً للدين عموماً أو قل للأصولية الدينية لكي نكون أكثر دقة. فالحداثة التنويرية لم تكن ضد الدين في المطلق، وإنما ضد التصور الانغلاقي القديم للدين. الحداثة ولّدت تأويلاً جديداً للدين المسيحي هو التأويل الليبرالي اللاطائفي الذي شاع وانتصر لاحقاً في كل البلدان الأوروبية المتقدمة. ولكن ذلك لم يتم دون مخاض عسير وصراعات هائجة. وهذا المخاض هو الذي ابتدأنا نعيشه نحن الآن في العالم العربي والإسلامي. وبالتالي فالمسافة الفكرية التي تفصل بيننا وبين الأوروبيين هي 200 سنة على الأقل فيما يخص المسألة الدينية. ما عاشوه وعانوه قبل 200 سنة من حزازات وطوائف ومذاهب وصراعات وحروب أهلية وتمزقات، نعيشه نحن ونعانيه الآن. لذلك قلت وأقول إن الزمن العربي الإسلامي غير الزمن الأوروبي، بمعنى أننا متعاصرون زمنياً، ولكننا لسنا متعاصرين معرفياً ولا فلسفياً ولا سيكولوجياً. بيننا وبينهم يوجد تفاوت تاريخي كبير. وينبغي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار لكي نفهم ما يحصل حالياً ولكي نستطيع أن نقيم علاقة صحيحة مع الفكر الأوروبي ومع أنفسنا أيضاً... ما أجمل أن تغطس مع شاتوبريان في كتابه الخالد «مذكرات ما وراء القبر»، هناك حيث يرتفع بالنثر الأدبي الفرنسي إلى أعلى عليين أو ينخفض به إلى أسفل سافلين! ليس في كل يوم يظهر كاتب كبير...

مهما يكن من أمر، فإن الإنسان الكلاسيكي كان قد انتهى في عصر الرومنطيقية وشاتوبريان. ونقصد به الإنسان الكامل، الخالد، الثابت، الذي لا يتغير ولا يتبدل. إنه إنسان القناعات المؤكدة واليقينيات الراسخة. إنه إنسان القيم الواثقة ذات الطمأنينة الكاملة التي لا تشوبها شائبة. وأما الإنسان الحديث فهو إنسان مُزَعْزَع، مترجرج، قلق، لم يعد يستطيع أن يستعصم بأي شيء. فالعالم القديم انهار أو كاد، واليقينيات الكبرى التي كان يركن إليها الإنسان القديم انهارت معه. لهذا السبب راح الشاعر الرومنطيقي يشعر بالهلع والجزع أمام العالم الجديد الذي ينفتح أمامه. لهذا السبب راح يلجأ إلى البكاء والنحيب والعويل. وهكذا امتلأ شعره بتلك البحة الغنائية الحزينة، أو النزعة العاطفيّة الفياضة والمؤثرة. لنستمع إلى أحد كبار الشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين ألفريد دوموسيه يتحدث عن تلك الفترة:

«وا أسفاه! لقد انتهى الدين. انتهى كل شيء. وغيوم السماء تتساقط مطراً. ولم يعد لنا أي أمل. لم نعد ننتظر أي شيء من الغيب، ولا قطعتين من الخشب تشكلان صليب الأمان بالنسبة لنا. وأما نجم المستقبل فلما يكد يبزغ بعد. إنه لا يستطيع الخروج من رحم الأفق. وإنما يظل مغلّفاً بالغيوم. وكالشمس الشتائية يتبدَّى لنا أحمر كالدم المراق عام 1793 (إشارة إلى الثورة الفرنسية). لم يعد هناك حب، ولا مجد. يا له من ظلام سميك، سميك، يطبق على وجه الأرض! وعندما يطلع الفجر الجديد للعالم سوف نكون قد متنا...».

فولتير

بمعنى آخر؛ نحن جيل القطيعة، نحن جيل الاحتراق والعبور. نحن جيل الموت والولادة في آن معا. نحن جيل التمزق بين جيلين. سوف نشهد موت العالم القديم حتى النخاع دون أن يتاح لنا أن نكحل أعيننا بولادة العالم الجديد... هذا هو قدرنا ومصيرنا... نحن جيل التضحية والفداء. والعالم الجديد لن ينبثق إلا على أنقاضنا. لا أعرف لماذا أتذكر الآن تلك الأبيات الجميلة لخليل حاوي...

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديد

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

هل تنبأ خليل حاوي بتلك القطيعة الإجبارية التي ستفرض نفسها علينا إذا ما أردنا الانتقال من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار، أو من عصر العبودية إلى عصر الحرية؟ على الأقل فإنه أحس بخطورة المسألة ورعبها، وربما لهذا السبب انتحر... فما بالك لو أنه عاش وشهد ما يحصل في غزة حالياً؟ كان قد انتحر 10 مرات... ولكنه - وهنا تكمن شهامته - قبل بأن يكون الضحية وخشبة الخلاص للأجيال القادمة. قال ما معناه؛ ليمشوا على أضلعي، ليدوسوا على جسدي، ليتخذوه جسراً تحت أقدامهم ونعالهم، إذا كان ذلك سيساعدهم على العبور إلى الضفة الأخرى؛ ضفة الإنقاذ والخلاص. ولكن ما كان ينبغي عليه أن ينتحر لأنه فقد بذلك إمكانية التحول إلى قدوة عليا، إلى منارة، للأجيال القادمة. الانتحار ليس حلاً. الانتحار هزيمة غير مقبولة أياً تكن خشونة الواقع. الانتحار خور، جبن. الانتحار عيب بل عار. الانتحار لا يليق بالرجال. المتنبي لم ينتحر وإنما سقط مضرجاً بدمائه! هذه ميتة حقيقية، ميتة عزّ وشرف لا تليق إلا بأعظم شاعر عربي. ولكنه ليس الوحيد. معظم العباقرة الكبار سقطوا بطريقة أو بأخرى تحت ضربات القدر. سقراط، ديكارت، سبينوزا، جان جاك روسو، جمال الدين الأفغاني، عبد الرحمن الكواكبي. نعم. نعم. لقد قتلت الأخيرين السلطنة العثمانية البائدة بالسم الزعاف (العملية سهلة وبسيطة جداً، فنجان قهوة فقط!). هذه السلطنة التي يحن إليها البعض حالياً ويريد إعادتها مجدداً. ولكن الشعب التركي الكبير والمستنير لن يقبل بالعودة إلى الوراء. يقول لنا الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل سير؛ لقد درست حياة مثقفي فرنسا على مدار 400 سنة فوجدت أنهم كانوا جميعاً مهددين. ولا واحد منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا ملاحقين من قبل الأصولية والأصوليين، الظلامية والظلاميين. لماذا؟ لأنهم خرجوا على كهنة الماضي الذين تقدسهم الجماهير وفتحوا ثغرة في جدار التاريخ المسدود. لأنهم حاولوا - ونجحوا! - في فك الاستعصاء التاريخي. لأنهم دشنوا القارات البكر للفكر، هذه القارات التي لا تخطر على البال. فكان جزاؤهم الاغتيالات والملاحقات. ولكن نيتشه نبهنا منذ زمن طويل إلى هذه الحقيقة؛ كل فكر لا يقف على حافة الخطر لا يساوي قشرة بصلة. الفكر والخطر صنوان! وفولتير، أستاذ نيتشه، نبهنا إلى حقيقة أخرى؛ وهي أن الذين يزرعون بذور التنوير غير الذين يحصدون. قال؛ لن أرى بأم عيني نتائج فكري ومؤلفاتي، وهذا لا يزعجني أبداً أبداً. على العكس، أشعر بالسعادة القصوى لأن الأجيال القادمة هي التي ستقطف الثمار. وقد قطفتها. فلولا جهوده وجهود سواه من فلاسفة الأنوار لما تحررت فرنسا من تلك العصبيات الطائفية الكاثوليكية - البروتستانتية التي مزقتها طويلاً ودمرت وحدتها الوطنية.

خليل حاوي

ولكن بعد أن تحررت الأجيال الفرنسية من الأصولية والطائفية ما عاد مفهوماً استمرار معاداة الدين والقيم الروحية كما يفعل ميشيل أونفري بكل حماقة وتهور في فرنسا حالياً. لماذا يثقب هذا الشخص أبواباً مفتوحة؟ لطالما طرحت على نفسي هذا السؤال وأنا أقرأ كتبه الشيقة والمبدعة في قسم منها. هل فعلاً أن الأصولية المسيحية هي التي تهدد فرنسا حالياً أم الإباحية الجنسية المنفلتة كلياً من عقالها؟ ولذلك أقول؛ لا مصلحة للمثقفين العرب في تقليد التيار الإلحادي المادي الشذوذي المطلق السائد في الغرب حالياً. بل نحذر منه كل التحذير. فنحن ليست مشكلتنا مع الدين وسموه وتعاليه وإنما مع الظلامية الدينية. نحن مشكلتنا مع الطائفية التي تمزقنا وتمنع تشكيل الوحدة الوطنية العزيزة الغالية فيما بيننا. أقول ذلك وأنا أتذكر عبارة جبران خليل جبران الرائعة؛ ويلٌ لأمة كثرت فيها الطوائف وقل فيها الدين!



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟