ماذا لو كانت الأمنيات خيولاً؟

العشرينات من القرن الـ20 في رواية مصرية

ماذا لو كانت الأمنيات خيولاً؟
TT

ماذا لو كانت الأمنيات خيولاً؟

ماذا لو كانت الأمنيات خيولاً؟

تُشكل الأمنيات المعلقة ما بين الحلم والرجاء سؤالاً مؤرقاً في رواية «مُقامرة على شرف الليدي ميتسي» للروائي المصري أحمد المرسي، التي يطرح فيها مُعارضة مُبكرة مع مقولة للمُعلم الروحي الهندي برمهنسا يوغانندا: «إن الأمنيات التي لم تتحقق هي أصل عبودية كل إنسان»، وهي مقولة يُصدّر بها روايته.

الرواية صادرة عن دار «دوّن» للنشر بالقاهرة، وتقع في 350 صفحة، وفيها تتقاطع مصائر أربعة أبطال من أصول وخلفيات متباعدة، إلا أنهم يُراهنون على «الأمل»، فقد أخذ كل منهم في حياته حصته من الخسارات، وجمع بينهم القدر في لحظة مصيرية. تُغويهم المغامرة بتعويض الفقد، باحثين عن تعريف جديد للحياة، يدفعهم حول مضامير رهانات الخيول. وهنا، يخلق الكاتب عالماً موازياً مصغراً للعالم، بمختلف الأجناس من عبيد وأسياد، أفندية وفلاحين، أخلاط من البشر واللهجات، حيث: «الجري سِر، والخيل تجلب لصاحبها الفخار، عندما تفوز الفرس يحصد فارسها المجد، حتى لو كان فقيراً مُعدماً، الفائز يقوم له الشيوخ الكبار في المجالس إذا دخل ويباركونه».

ليالي البرد

زمن الرواية هو فترة العشرينات من القرن الماضي، بما يسودها من عواصف سياسية، وتقلبات اجتماعية وطبقية جامحة، طالت بطلها «سليم حقي» الذي يقترن ظهوره في السرد بمشهد هبوط العتّالين في بيته بجهاز «الجرامافون» المُطعّم بالنحاس المُذهب، وذلك تمهيداً لرهنه، وسط شفقة أهالي الزُقاق الذين صاروا يشاهدون قطع أثاث بيته وهي تهبط قطعة قطعة تجرها الحمير للسوق، وكان يؤجل رهن «الجرامافون» أملاً في معجزة تنتشله من حالته المالية العصيبة، فهو الشيء الوحيد الذي كانت تستأنس بصوته زوجته المريضة «عايدة» في ليالي البرد والمرض.

يبدو «سليم حقي» ضئيلاً مهزوماً أمام تبدّل الحال، نفدت حيله في تحصيل ثمن الدواء لأكثر من أحب «عايدة»، فصار عبداً لقروش «البيع» و«الرهن»، فنراه يهرع إلى «قهوة الديوك»، التي ترسم لها الرواية مسرحاً يعج بالزحام والتحلّق حول ديكين يتنافسان «وسط النقنقة والريش المتناثر حتى الموت، والمال يدور فوق جثث الخاسرين».

ويبدو هذا الجنون جزءا لا يتجزأ من الدراما التي صار جزءاً من دوامتها، وهو من كان ذات يوم برتبة «صاغ» في السواري، فتحوّل إلى واحد من «أبناء الشوارع»، الذين كان مُكلفاً بضبطهم والسيطرة على شغبهم، وهو يُطل بينهم بزيه «الميري» الأسود وأزرار نحاسية لامعة، إلا أنه يُعزل من الجيش بسبب تضامنه وهتافه لسعد باشا زغلول ضد الإنجليز، ووقوفه في صف المتظاهرين ضدهم.

يدفعه مرض زوجته العضال إلى التخبط بين نوادي الرهانات، حتى يتعرف على بطل الرواية الثاني «مرعي المصري» سمسار الخيول، الذي يبتكر له الكاتب لغة خاصة تميّزه به عن باقي شخصيات الرواية، فهو قادر على التلوّن من «الفهلوة» الدارجة الساخرة، إلى «الإنجليزية المُتكسرة» وهو يتواصل مع الأجانب «الخواجات» من زبائن نوادي رهان الفروسية حيث «الأغنياء يرمون أموالهم تحت حوافر الخيل»، إلا أن وجه «مرعي المصري» البارع في الخداع يُطمر خلفه عاطفة مشوبة، هو ما يجعله يتعاطف مع «سليم» في كربه المالي وأمنيته أن تنجو زوجته عايدة من الموت، فيقنعه بخوض لعبة الرهانات على الخيول، أملاً في أن ينتشل الفوز أحلام كل منهما من الغرق.

يقودهما هذا الهدف المشترك للارتحال إلى «جزيرة الخيول» التي تسكنها قبائل مُتفرقة، لكن يسودهم «عرب الطحاوية»، الذين يملكون ناصية سوق الخيول باختلاف أنسابها، والتي تُعدد الرواية أوصافها «السجلاوية، ودهمان، وهدبان» وغيرها، ويبدو الاستعمار الإنجليزي في الرواية، وكأنه أعاد ترسيم خريطة الخيل كذلك «الخيل الإفرنجي غرّق السوق أيام الحرب، والعسكر الإنجليز والأستراليون باعوا خيلهم للبدو، واختلط الحابل بالنابل، العربي بالإفرنجي»، فيما احتفظ عرب الطحاوية بنقاء عِرق خيولهم العربية، فصاروا مقصداً لمن يريد الخيل الأصيل.

أجنحة السِّباق

يحصل البطلان «مرعي» و«سليم» بعد مفاوضات عاصفة على فرس بمواصفات تليق بالمُقامرة، ويصطحبون معهم فوزان «الطحاوي» الصبي الذي يحمل مرارة موت الأب على يد عمه، وإرثاً من الإهانة على يد هذا العم مُفرط القسوة: «كم يكره عمه، يكره تفاصيله، ملامح وجهه العابس المغبر، الشارب الكث الضخم، السنة الفضية بين أسنانه، وشم السمكة الخضراء على ظاهر كفه، يكره كل تفصيلة من تفاصيله، يكره قسوته عليه، وعلى نسائه، فهو متزوج من أربع نساء يضربهن بالسوط كما تُضرب البهائم، إنه لا يشبه أباه أبداً».

رغم هذه الخلفية الفظّة، فإن فوزان الطحاوي شبّ على الرقة، يقتفي النجوم في السماء، ويُلاطف الفرس، ولا يحلم سوى بالدفاع عن أمه من بطش عمه الذي يُعد من أبرز مشايخ «جزيرة الخيول». تتصارع طبيعته الحالمة مع الرغبة في الانتقام، وسرعان ما تتفتح أمامه آفاق مُبهرة عندما يصل مع «مرعي» و«سليم» إلى مضمار الخيول في «هليوبوليس»، ويلتقي الثلاثة بالسيدة «ميتسي» التي تحمل الرواية اسمها، وهي السيدة الإنجليزية التي أتت إلى مصر لتعيش مفارقات يائسة، ولم تستطع تجاوز خسارة ابنها الذي مات طفلاً، وتجد نفسها أسيرة لعالم الرهانات، وتصبح من خلال الفرس الذي تُقامر به طوق نجاة «مرعي» و«سليم» و«فوزان» في أحلام الفوز وتقاسم الرهان، لتعويض ما يمكن تعويضه من خسائرهم المادية والوجدانية، فهم جميعاً لم يسبق لهم الفوز في شيء. إلا أن مُفارقات الرواية الجامحة، تُحجّم من فُرص فوز الفرس، وبعد إحباطات طويلة يكون فوزها حلقة في خسائر إنسانية أخرى، وكأن للأحلام طريقا مرسوما لا يمكن مُراوغته بمقامرات.

ورغم الوشائج الإنسانية التي تكشف عن سرائر أبطال الرواية الأربعة، وخبايا انكسارات حياتهم التي قرّبت بينهم، فإن مصيرهم كان الفراق: «لقد كانوا الأربعة مثل كرات البلياردو، تلاقوا في لحظة خاطفة من الزمن، تصادموا، تقاطعت حيواتهم، ثم ارتدَّ كل منهم في اتجاه. ولم يلتقوا ثانية أبداً».

اللافت أن الرواية تقارب بين الخيول التي لم تُخلق في الأصل من أجل السباق، بقدر ما خُلقت من أجل الحُرية والجمال، وبين الأمنيات التي تقترب كلما تخفّف التشبث بها، كما تقول الليدي ميتسي في نهاية الرواية: «أحياناً علينا أن نتخلى عن الأمنيات التي ترفض أن تكتمل»، وهي عبارة يسبقها مشهد الفرس التي ربحت السباق بعدما قام خيّالها بتخفيف قبضته عليها، فأزال عنها توتر السباق، وهي مُقاربات وجدت لها طريقاً متأنياً في السرد: فماذا لو كانت الأمنيات خيولاً؟ سؤال يطرحه الكاتب، ويُطلق سراحه في الرواية.



محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.