تؤكد الباحثة سمية عبد الحليم عويس في كتابها «هوامش الحضارة»، الصادر عن دار «الكنزي» بالقاهرة، أن ما يُعرف بـ«العصر الجاهلي» لم يكن جاهلياً تماماً، بل كان يحتوي على كثير من مظاهر التحضر والثقافة، حيث عرف سكان بعض مناطق الجزيرة العربية نمط الخط النبطي وتطوروا به إلى الخط العربي، وقد انعكس ذلك على شعرائهم، فيشيع تشبيه الأطلال ورسوم الديار بالكتابة ونقوشها، كما في قول المرقش الأكبر:
الدار قفرٌ والرسوم كما
رقّش في ظهر الأديم قلم
ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي:
فلابنة حطانَ بن عوفٍ منازلُ
كما رقّش العنوان في الرِّق كاتبُ
وتوضح الباحثة أن هذا التشبيه يدور كثيراً في أشعارهم مما قد يدل على أن كثيرين منهم كانوا يعرفون الكتابة، بل إن فريقاً منهم كما يقول الرواة كان يعرف الكتابة الفارسية على نحو ما حدثونا عن لقيط بن يعمر الإيادي وعدي بن زيد العبادي، ومما لا شك أن الكتابة كانت شائعة في الحواضر، خصوصاً في مكة التاجرة. ورغم أنه ليس بأيدينا ما يدل على أن الجاهليين اتخذوا الكتابة وسيلة حاسمة ونهائية لحفظ أشعارهم، لكن من المؤكد أنهم كتبوا بعض الأشعار على الحجارة والجلود والعظام وسعف النخيل، وإن ظلت رواية الشعر شفاهةً هي الأداة الطيعة لنشره وذيوعه.
وتستشهد الباحثة بما كان للشعر من منزلة رفيعة عند العرب وحكم نافذ وسلطان غالب، إذ كانت ألسنتهم الناطقة بمكارمهم ومفاخرهم هي أسلحتهم التي يذودون بها عن حياض شرفهم، وبها كانوا يماجدون وينافرون ويفاخرون، وما كانوا يسرون بشيء أعظم من سرورهم بشاعر ينبغ فيهم. قال ابن رشيق في كتابه «العمدة»: «وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة وأتت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم وذب عن حياضهم وتخليد لمفاخرهم وإشادة بذكرهم وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج».
وعن مكانة الخطابة في ذلك العصر، ترى الباحثة أنها كالشعر لحمتها الخيال وسداها البلاغة وهي مظهر من مظاهر الحرية والفروسية وسبيل من سبل التأثير والإقناع تحتاج إلى ذلاقة اللسان ونصاعة البيان وأناقة اللهجة وطلاقة البديهة.
وتذكر أنه في النثر العربي المأثور نجد كذلك تراثاً قيماً يشير إلى البلاغة العربية القديمة والمنتشرة على شكل وصايا بين عامة البدو ومن ذلك: وصية زهير بن جناب الكلبي لبنيه إذ يقول: «يا بني قد كبرت سني وبلغت حرصاً على دهري فأحكمتني التجارب والأمور تجربةً واختياراً فاحفظوا عني ما أقول وعوه: إياكم والحور عند المصائب والتواكل عند النوائب فإن ذلك داعية للغم وشماتة للعدو وسوء ظن بالرب وإياكم أن تكونوا بالأحداث مغتربين ولها آمنين ومنها ساخرين فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا ولكن توقعوها فإن الإنسان في الدنيا غرض تعاوره الرماة فمقصر دونه ومجاوز لموضعه وواقع من يمينه وشماله، ثم لابد أن يصيبه».
وتشير الباحثة في هذا السياق إلى فكرة القبيلة، لافتة إلى أنها كانت وحدة سياسية مستقلة تخضع لسلطة أدبية ممثلة في زعماء العشائر ورؤوس الأسر؛ وهؤلاء يقدمون واحداً منهم يعدونه شيخ القبيلة تتوفر فيه أكثر من غيره صفات الزعامة والرياسة التي يتطلبها المجتمع القبلي من الشجاعة والكرم والحلم وكثرة الأنصار والثروة ورجاحة العقل والإخلاص والوفاء وغيرها من الصفات التي يشيدون بها في قصائدهم وبطولاتهم ومآثرهم.
ولم يكن العرب يعيشون في الجاهلية معيشة واحدة، بل عُرفت الزراعة مثلاً في الجنوب والشرق وواحات الحجاز مثل يثرب وخيبر وفي الطائف ووادي القرى. وحيثما توفرت المياه ازدهرت الزراعة، وكانت الطائف من أشهر المدن الزراعية في الحجاز.
كان العرب في العصر الجاهلي يقيمون أسواقاً عامة للتجارة منها ما كان ثابتاً ومنها ما كان موسمياً، وقد أثرت هذه الأسواق تأثيراً بعيداً في جميع الميادين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، واهتم بها الرواة والإخباريون فأوردوا الكثير من الأخبار والخطب التي ألقيت في هذه الأسواق. ومن أهم تلك الأسواق سوق «عكاظ»، وكانت أكبر أسواقهم، وكانوا يقيمونها في نجد بالقرب من عرفات من منتصف ذي القعدة إلى نهايته. ولم تكن سوق تجارة فحسب بل كانت سوقاً للخطابة والشعر أيضاً.
ومن أسواق قريش أيضاً «ذو المجاز» بالقرب من عكاز، وبجانب هاتين السوقيين الكبيرتين كانت للعرب أسواق أخرى كثيرة يتاجرون فيها كما يريدون ويشترون ويبيعون، من أهمها «دومة الجندل» في شمال نجد، و«الحيرة» و«الحجر» باليمامة، و«حضر موت» و«عدن»، وكانت لكل سوق من هذه الأسواق وقت معلوم تُعقد فيه.