تأملات حول مستقبل العالم العربي

تراثنا الإسلامي على عكس المسيحي لم يحظَ بالدراسات العلمية والتاريخية والفلسفية المضيئة

تمثال أبو العلاء المعري
تمثال أبو العلاء المعري
TT

تأملات حول مستقبل العالم العربي

تمثال أبو العلاء المعري
تمثال أبو العلاء المعري

أهلاً وسهلاً بالعام الجديد. ولا حزناً ولا أسفاً على العام القديم الذي شهد كارثة الكوارث وكابوس الكوابيس. كل ما نرجوه ونتمناه أن تنتهي هذه المجزرة التي روَّعت غزة العزيزة، غزة الشهيدة، بأسرع وقت ممكن. وبعدئذٍ لكل حادث حديث. ما مشاريعي في هذا العام؟ إنها شاسعة واسعة بحمد الله. الهمة لا تزال قوية وعالية رغم كل المصاعب والعرقلات، والمخاطر والمطبات. والشهية للعمل مفتوحة على مدار الساعة. ولا أريد أن أفتخر وأتبجح أكثر من ذلك. قليلاً من التواضع أيها الإنسان المتغطرس!

كان المعري في أول شبابه يقول هذا البيت مفتخراً ومتحدياً:

وإني وإن كنتُ الأخير زمانه

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

طه حسين

وقد أتى بالفعل. وقد استطاع. هذا البيت وارد في إحدى قصائد ديوانه الأول: «سقط الزند». لاحظوا الاسم الناري. إنه يعني حرفياً القصائد المتفجرة كالشرر المتطاير. كان المعري يدرك أنه تختلج في أحشائه قوى هائلة رهيبة لا يعرف سرها ولا كنهها؛ إنها قوى وطاقات إبداعية خارقة تكاد تتفجر في صدره أو تخرجه عن طوره. وهذا ما يحصل لكل المبدعين الكبار في التاريخ. هذا ما شعر به المتنبي قبله ونيتشه بعده. بعدئذ جاءت «اللزوميات» و«رسالة الغفران» وأخذ المعري كل أبعاده في الإبداع والابتكار وتوسيع الخيال العربي والعبقرية العربية إلى أقصى حد ممكن. رسالة الغفران لا مثيل لها في الآداب العربية ولا الأجنبية، ما عدا «الكوميديا الإلهية» لدانتي التي يقال إنها مستوحاة منها. لقد خلق عالماً كاملاً فيما وراء الموت، ووزَّع الشعراء والكتاب على الجنة والنار كما يشاء ويشتهي. كم أمتعنا بتلك الصور الخارقة، أكاد أقول: البورتريهات، التي قدمها لنا عن زهير بن أبي سلمى، والأعشى، والنابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، وحتى الحطيئة، وعشرات غيرهم. لقد وسَّع الآفاق الدينية والأدبية والفلسفية للعرب بشكل غير مسبوق. «رسالة الغفران» لا قبلها ولا بعدها في كل تراثنا الفكري والأدبي. ما أجمل أن تتجول معه في رحاب الجنة، في عالم الأبدية والخلود.

فماذا فعلنا نحن؟ هل أبدعنا شيئاً خارقاً جديداً كما فعل هو؟ هل فتحنا ثغرة في جدار التاريخ المسدود؟ هل فككنا الاستعصاءات التاريخية للعرب في هذا القرن الحادي والعشرين كما فعل هو في القرن العاشر أو الحادي عشر؛ أي قبل عشرة قرون؟ أليس هو أكثر حداثة منا؟ هذا هو السؤال. وعلى أساسه سوف نُحاسب ونُحاكم من قبل الأجيال التالية. إذا لم نعزل التراكمات التراثية كما عزلها هو فلن ترحمنا الأجيال العربية الآتية، وهذا يعني أن مسألة التعزيل هي أهم مسألة مطروحة على الفكر العربي المعاصر. ينبغي أن يعزل نفسه من نفسه، من تراثياته وتراكماته. ينبغي أن يهوي نفسه من الداخل، ينبغي أن يتخفف من أثقاله وغلاظاته.

محمد أركون

نقول ذلك ونحن نعلم أن إمكاناتنا المعرفية في هذا العصر أكبر بكثير مما كان متوافراً في عصر المعري. صحيح أنه تجاوز عصره أو اخترق عصره ككل العباقرة الكبار الذين يرون أبعد من أنفهم. ولكنه ظل رغم كل شيء محكوماً بما يمكن التفكير فيه في عصره. هناك الممكن التفكير فيه، والمستحيل التفكير فيه، في كل عصر. وفي عصرنا الحالي تقلَّص نطاق المستحيل التفكير فيه إلى أقصى حد ممكن، وتوسع نطاق الممكن التفكير فيه إلى أقصى حد ممكن أيضاً. لنضرب على ذلك مثلاً: الدراسات العلمية المتركزة على التراث العربي الإسلامي، أقصد دراسات محمد أركون وسواه من كبار المتبحرين في العلم. إن الإضاءات التي قدموها لنا عن القرآن الكريم أكبر بكثير وأشد سطوعاً مما كان سائداً في عصر المعري. صحيح أنه أرهص بها بسبب عبقريته الفكرية الخارقة، ولكنه ما كان قادراً على البرهنة عليها كما فعل العلماء الكبار في عصرنا الراهن. إنه محكوم بسقف عصره، رغم أنه اخترقه وتجاوزه. الدراسات التي صدرت مؤخراً في المكتبة الفرنسية والإنجليزية والألمانية عن التراث العربي الإسلامي لو اطلع عليها المعري لصفَّق لها بكلتا يديه ولاعتبرها فتح الفتوح، ولكنها غير معروفة في اللغة العربية. بل إن معرفتها ممنوعة، لأنها تدخل في نطاق اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة لنا، على الأقل حتى الآن. لا يفهمن أحد مِن هذا الكلام أن هذه الدراسات تشكل تعدياً على التراث. ولو كانت كذلك لما أشدتُ بها. وذلك لأنني أعدّ تراثنا العربي الإسلامي من أعظم التراثات الدينية للبشرية، إن لم يكن أعظمها. وأنا نتاجه المباشر وبه فخور. ولا يوازيه من حيث الضخامة والأهمية إلا التراث المسيحي. وعلى أي حال، كلاهما يشمل ملياري شخص، أي نصف البشرية. النصف الآخر متوزع على التراثات الهندوسية والبوذية واليهودية والشنتو اليابانية والصين الكونفشيوسية... إلخ.

الدراسات التي صدرت بالفرنسية والإنجليزية والألمانية عن التراث العربي الإسلامي لو اطلع عليها لاعتبرها فتح الفتوح

ولكن تراثنا الإسلامي، على عكس التراث المسيحي، لم يحظ بالدراسات العلمية والتاريخية والفلسفية المضيئة والمنعشة. في أوروبا هناك مئات أو آلاف الكتب التي درست التراث المسيحي من وجهة نظر فلسفية تمحيصية حديثة. ولكن تراثنا محروم منها على الأقل في اللغة العربية وبقية اللغات الإسلامية الكبرى كالتركية والفارسية. ولكن هذه الدراسات الحداثية عن تراثنا موجودة في اللغات الأجنبية الكبرى، كالفرنسية والإنجليزية والألمانية. فقط يكفي أن ننقلها إلى اللغة العربية بشكل صحيح وموثوق. للأسف، حتى هذا ممنوع، وذلك لأن النظرة الفلسفية للدين أو النظرة التاريخية غير النظرة التبجيلية والتقليدية السائدة في الأزهر والزيتونة والقرويين وكليات الشريعة... إلخ. هذا شيء واضح وضوح الشمس. مفهوم الدين في العصور الحديثة غير مفهوم الدين في العصور القديمة. التحرير العربي سوف يبدأ من هنا إذا ما بدأ يوماً ما. ولأنه لم يبدأ من هنا، فقد فشلت كل محاولات النهوض العربي حتى الآن؛ من قومية وبعثية وناصرية وماركسية شيوعية بل وحتى ليبرالية. حتى طه حسين اضطر إلى التراجع عن أنواره الأولى تحت ضغط الشارع والمد الأصولي. هناك حل واحد أمام المثقفين العرب، إذا ما أرادوا إنجاح النهضة التنويرية العربية يوماً ما: نقل كل المؤلفات والأبحاث الاستشراقية إلى اللغة العربية. تحرير التراث من النظرة الانغلاقية التراثية جاهز متوافر، ولكن في اللغات الأجنبية فقط. يكفي أن ننقله إلى اللغة العربية لكي نحل مشكلتنا. لا داعي لأن يعذب المثقفون العرب أنفسهم، ويحرروا التراث عن طريق تطبيق المنهجية التاريخية - النقدية الحديثة عليه؛ لماذا؟ لأن هذا الشيء موجود في اللغات الأجنبية المذكورة آنفاً؛ فلماذا يضيعون وقتهم في إعادة إنجاز ما هو منجَز ومتحقِّق سابقاً؟ قد يقول قائل: ولكن المستشرقين أعداء لنا ولتراثنا. إنهم يدمرون التراث عن طريق تطبيق مناهجهم ومفاهيمهم عليه. الرد على هذه التهمة سهل جداً. هل نعلم أن المنهجية التاريخية النقدية الحديثة كانت قد طُبِّقت على التراث المسيحي قبل أن تُطبَّق على تراثنا الإسلامي؟ وهل نعلم أن المحافظين المسيحيين رفضوها بشدة، مثلما يرفضها المحافظون الإسلاميون عندنا حالياً. العقلية الأصولية واحدة في نهاية المطاف. وبالتالي فلو كان علماء الاستشراق يريدون تدمير التراث المسيحي لما طبقوها عليه، لأن معظمهم مسيحيون. هل يريد أحد تدمير ذاته؟ الفلسفة الحديثة لا تريد تدمير التراث، وإنما فقط تفكيك الأصولية الانغلاقية التراثية، وشتان ما بينهما. إنها لا تريد تدمير القيم الروحية والأخلاقية العليا للتراث الإسلامي. معاذ الله! إنها كنز الكنوز. ولكنها تريد حتما تفكيك الانغلاقات التعصبية والتكفيرية الطائفية لجميع الأديان؛ فهل هذا ممنوع أيضاً؟


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».