ماذا تبقى من سير الشعراء؟

في ذكرى السياب والصائغ ثمة ما يُقال وثمة ما يخضع للمساءلة

يوسف الصائغ
يوسف الصائغ
TT

ماذا تبقى من سير الشعراء؟

يوسف الصائغ
يوسف الصائغ

ما الذي تبقى من الشاعر بدر شاكر السياب ونحن نتذكرّه في سنةِ رحيله التاسعة والخمسين؟ وهل يمكن لهذه الذكرى أن تُعيد صياغة جديدة لأسئلة عن المشروع الشعري، في حداثته، أو في تحولاته؟ وهل ثمة استعادة لصورة السياب الكائن، والسياب المستُلب، وربما السياب المتمرد والصاخب والخائن؟

هذه الأسئلة قد تبدو مثيرة، ومفتوحة على أسئلة أخرى، لكنها مقموعة، لا سيما في التعاطي مع موضوع «خيانة الشاعر» المشروعة شعرياً للتاريخ، أو للآيدولوجيا وانتصاره لذاته القلقة، اللجوجة، فأحسب أن هذا الموضوع ظلّ مُخاتلاً، ومخفياً، وبعيداً، فلم يُقرأ جيداً على مستوى مقاربة مفهوم إشكالي كالالتزام، أو على مستوى تصديق الشاعر بمركزية هذا الالتزام وبيافطات الآيديولوجيا غير الشعرية!

لقد أصيب عدد من الشعراء بورطة هذه الظاهرة، لكن أبرزهم السياب ويوسف الصائغ، إذ مارس كلا الشاعرين لعبة «الخيانة» للآيديولوجيا ولنمط المركزية «الحزبية» فنفرا كثيراً، ومارسا نزقاً شعرياً على حساب الآيديولوجيا، وذهاباً إلى الاعتراف و«التفريغ» وحتى الشتم، وكأنهما مارسا نوعاً من «التصديق الأنوي» والخلاص البلاغي، الذي كشف في استعاراته الفاضحة عن محنة الشاعر الشخصية، وربما عن رهابات «وعيه الشقي».

صورة الشاعر يوسف الصائغ المتوفى في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2005 ليست بعيدة عن الصورة المُستعادة للسياب المتوفي في 24 ديسمبر 1964، فكلاهما مات من البرد الوجودي في الطبيعة، ومن البرد في الآيديولوجيا، لكنهما تشاطرا سخونة الاحتجاج، رغم أن السياب كان ساخطاً وفاضحاً، والصائغ كان موارباً، خجولاً، لم يشأ سوى أن يمنح اعترافه/ احتجاجه استغراقاً شعرياً غامراً باستعارات ومجازات تلعن الجسد عتبةً للعنة الآخرين الذين اتهمهم بخيانته أيضاً حين تركوه وحيداً في العدم السياسي، كما تُرك مالك بن الريب وحيداً في صحراء الموت.

في ذكرى رحيل بدر شاكر السياب ثمة ما يُقال، وثمة ما يخضع للمساءلة، فالرجل كان محتدماً دائماً، وقلقاً دائماً، وهو بذلك الأقرب الى صورة الشاعر المرآوي، أكثر مما قريب من صورة السياسي وحتى الثوري بالمعنى الغرامشوي، إذ كان مسكوناً بهواجس الفقد، والخوف، والبحث عن التطهير والتعالي، وأحسب أن زمن الأربعينات العراقي لا يملك سوى الترياق الآيديولوجي ليهب صاحبه هذه «الأحاسيس» الإيهامية التي تأخذه إلى الانتشاء وليس إلى شيء آخر، وأي خللٍ يحدثُ في فكرة الانتشاء ستقوده إلى التمرد، والسخط، وهو ما فعله السياب غير المطمئن للحلول الآيديولوجية، حيث مارس تمرده القاسي، في لحظات عارمة وحادة أكثر تواطؤاً مع إغواءات التطهير، فشتم كلّ شيء، بدءاً من جسده، والنساء اللائي يخذلنه بالصدود، وانتهاء بالآيديولوجيا التي كشف سرها الذي سبق وقال عنه كارل ماركس إنها تمثيلٌ لوعي مزيف.

بدر شاكر السياب

لقد جذبت الآيديولوجيا السياب مبكراً، مثلما جذبت يوسف الصائغ وجيل من الشعراء إلى شهوة يوتوبياها المفرطة، وإلى حلمها الشهي، لكنها في ظل الخيبات النفسية، وعند توحش الانقلابات العراقية، وفي سياق لعبة الرعب التي صنعها «أبطال» هذه الانقلابات تحولت إلى خطيئة، وإلى لعبة موجعة وطاردة، أو ربما إلى خيارٍ موجعٍ، فرجل الانقلاب، جنرالاً كان أم رجلاً يومياً أم «أحد الشقاوات» لا يثق كثيراً بالشعراء، وربما يسخر منهم، ليس لأنه لا يعرفهم، بل لأنه يتعالى على أنْ يجعلهم داخل معياره السياسي، حيث يجعل من العداوة موقفاً آيديولوجياً مضاداً للشاعر أو لغيره، والضدية في عالم الانقلابات العراقية تعني الموت.

كتب الصائغ كثيراً، ورسم كثيراً، وكرّس نفسه شاعراً رائداً في مرحلة تاريخية مفصلية، فكانت قصيدته مسكونة بالغناء، وبشغف الشاعر القلِق إزاء صلادة الآيديولوجيا، والذاهب إلى اللغة بوصفها مكوثاً رسولياً، مثلما كان مسكوناً بهواجس الشاعر الباحث عن التغيير، وعن تقويض مركزية السياب الشعرية، فبقدر ما كان السياب مجدداً في لحظته التاريخية، فإنه نازعٌ أيضاً إلى التمرد على التاريخ وعلى أساطيره، فقام بخلط هذا النزوع بيومياته المضطربة نفسياً ووجودياً، وهذه واحدة من تعثرات السياب المُتهم بالخيانة الآيديولوجية وليس الشعرية.

ما بين ذكرى رحيل الصائغ وذكرى رحيل السياب يبدو حديث الآيديولوجيا قاسياً على الشاعرين، إذ هما خرجا من المعطف ذاته، فإنهما تمردا عليه، وعبر طقوسٍ اعترافية، فالأول أخذ قناع مالك بن الريب الشاعر الوحيد، والقتيل الوحيد، ليتمثله هادئاً في اعتراف يستبطن وجعاً فاضحاً، والثاني أخذ أقنعة «أيوب» و«عوليس»، لكنه جعلهما في سياقٍ تصريحٍ صاخب، كان أكثر تمثيلاً لتشوهه النفسي والآيديولوجي، ولاضطرابه الداخلي، فكتب في سنواته الأخيرة مقالات «كنت شيوعياً» ليعيش معها إرهاصات الشاعر العاطل عن الآيديولوجيا والمندفع إلى كتابة النص/ الخطاب الفضائحي، ولحسابات الآيديولوجيا المضادة.

عقدة الشاعر «الخائن»، كما سمتها فاطمة المحسن، أخضعت الشاعر يوسف الصائغ إلى توصيفٍ مشوّه، وجعلت من النقاد والقراء الآيديولوجيين يقرأون نصوصه وكأنها جزء من اعترافٍ علني بالخيانة، بدءاً من كتابته لـ«اعترافات مالك بن الريب» إلى «الاعترافات»، وليس انتهاءً بمسرحيتي «اللعبة» و«ديزدمونة» وروايتي «المسافة» و«اللعنة»، وهي عقدة يشاطر فيها السياب الذي كتب «المومس العمياء»، فكانت تحمل معها إشارات ساخطة على الآيديولوجيا، لكن المقالات التي نشرها في جريدة «الحرية» ذات المزاج القومي، والتي جُمعت في كتابٍ نشرته «دار الجمل» كانت إشهاراً لتمثيل موقفه الواضح عن موت الشاعر الآيديولوجي، وإحياء للشاعر الأنوي المتمرد والمعلول بشعريةٍ وجدت في تمردها الشكلي نوعاً من التمرد على التاريخ وعلى الجسد، وربما تصفية حساب مع الجسد المخذول، وهو ما حرّض يوسف الصائغ في زمنٍ آخر إلى وضع الشاعر القلِق الذي يسكنه أمام لعبة شعرية وطهرانية مفتوحة تقوم على استعارة الطقوس المسيحية، حيث التخلّص من فكرة الإثم عبر الاعتراف، فكتب نصوصه بوصفها جزءاً من ذلك البوح الاعترافي، وبما يجعل من الشاعر البدوي مالك بن الريب قناعه أو قرينه الذي استدعاه ليشاطره وحدة العذاب التراجيدي والموت. صورة الصائغ المتوفى في ديسمبر 2005 ليست بعيدةً عن الصورة المُستعادة للسياب المتوفى في ديسمبر 1964



مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي
TT

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرحي المحلي والعربي والعالمي.

في «مدخل» مواكبة لحفل تكريم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في إطار الدورة السابعة من مهرجان «المهن التمثيلية للمسرح المصري»، تثميناً لإسهاماته ومجهوداته في دعم ورعاية المسرح والفن في الوطن العربي؛ إذ تسلَّم عبد الله بن محمد العويس، رئيس دائرة الثقافة، ممثلاً عن حاكم الشارقة، درع التكريم، خلال افتتاح المهرجان في العاصمة المصرية القاهرة مساء التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 2024.

وبمناسبة انعقاد مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في دورته الثامنة من 13 إلى 17 ديسمبر (كانون الأول) 2024، تضمَّن العدد استطلاعاً ضمَّ آراء مجموعة من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة المهرجان ودوره في فتح آفاق جديدة للممارسة المسرحية المحلية والعربية، كما ضمَّ باب «رؤى» مقالتين حول التحديات والحلول الإخراجية والتمثيلية التي يقترحها المهرجان الذي ينظم في فضاء مفتوح بمنطقة «الكهيف» على العروض المشاركة فيه. في باب «قراءات» نطالع مجموعة مراجعات حول أبرز العروض التي شهدتها المسارح العربية في الفترة الأخيرة، حيث كتبت آنا عكاش عن عرض «ساعة واحدة فقط» للمخرج السوري منتجب صقر، وكتبت إكرام الزقلي عن مسرحية «بلا عنوان» أحدث أعمال المخرجة التونسية مروى المناعي، وتناول شريف الشافعي مونودراما «ودارت الأيام» للمخرج المصري فادي فوكيه، وتناول سامر محمد إسماعيل «تبادل إطلاق نار» للمخرجة السورية هيا حسني، وكتب إبراهيم الحسيني عن مسرحية «وحدي في الفراغ» للمخرج المصري رأفت البيومي.

في باب «حوار» مقابلة أجراها إبراهيم حاج عبدي مع الكاتب السوري أحمد إسماعيل إسماعيل الذي حاز عدداً من الجوائز في مجال الكتابة المسرحية للأطفال، وتحدث في الحوار عن بداياته، وأبرز المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي شكَّلت شخصيته، وإشكاليات التأليف المسرحي للصغار.

وفي «أسفار» كتب الحسام محيي الدين عن رحلته إلى المملكة المغربية، حيث تعرف إلى جوانب من مشهدها المسرحي، انطلاقاً من متابعته للدورة السادسة والعشرين من المهرجان الدولي للمسرح الجامعي الذي نظمته جامعة الحسن الثاني.

وفي «أفق» مقابلة أجراها محمود سعيد مع الناقدة والباحثة والمترجمة المسرحية المصرية مروة مهدي التي أنجزت رسالتها للدكتوراه حول المتفرِّج المفترض في مسرح برتولد برشت، وأسهمت أخيراً في نقل أربعة من أبرز المؤلفات النظرية المعاصرة في مجال المسرح من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية.

في باب «متابعات» مقالة عن تجربة المسرحي الفلسطيني جورج إبراهيم في تأسيس وإدارة مسرح «القصبة» الفلسطيني، وحوار مع الممثلة المغربية هند بلعولة، وآخر مع المخرجة التونسية وفاء الطبوبي. وكتب صبري حافظ في «رسائل» عن تجربة الفنان المصري خالد عبد الله الذي نجح في فرض نفسه على المسرح الإنجليزي في السنوات الأخيرة، وفي الباب ذاته نقرأ تغطيات للدورة الحادية عشرة من مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة، والدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي، والدورة الثامنة لمهرجان المسرح العماني، إضافة إلى تقرير عن انطلاق الموسم المسرحي في الجزائر.