نار الحب الموزعة بين العذوبة والعذاب

طبيعته المتناقضة جعلته يختزل في داخله عناصر الوجود الأربعة

صادق جلال العظم
صادق جلال العظم
TT

نار الحب الموزعة بين العذوبة والعذاب

صادق جلال العظم
صادق جلال العظم

لطالما وجد الفلاسفة والدارسون والباحثون في شؤون الحب أنفسهم عاجزين تماماً عن تقديم تعريف حاسم ونهائي لهذا النزوع الإنساني الذي ندر أن أفلت أحد من شِباكه وأفخاخه. ليس فقط لأن مفهوم الحب وطبيعته ظلا على امتداد العصور عرضة للتبدل والاختلاف، وفقاً لتبدل المجتمعات وتطور بُناها المادية والثقافية ومفاهيمها الأخلاقية، بل لأن جزءاً غير قليل من هذا النزوع ظل فردياً بامتياز، وقادراً على الإفلات من المشترك السلوكي الجمعي، ليتخذ أشكالاً تتعدد بتعدد المحبين أنفسهم، وبتجاربهم العاطفية التي تمتلك كل منها بصمتها الخاصة ومسارها المختلف.

الواقع أن الطبيعة المحيرة للحب لا تنحصر في التجارب المتباينة للعشاق والمحبين، بل هي في إطارها الفلسفي والنظري تتخذ أبعاداً أكثر اكتظاظاً بالمفارقات، حيث يتخذ الحب صفة الشيء ونقيضه، وحيث تتقاطع داخل هذا الدافع الإنساني الملغز عناصر الوجود الأربعة، النار والماء والتراب والهواء، كما يندر أن تتقاطع في أي أقنوم آخر. وليس على الدارس المتقصي سوى أن يتوقف ملياً عند ما أنتجه البشر عبر تاريخهم الطويل من أساطير وملاحم وفنون وسرديات شعرية ونثرية، لكي يعثر على الأدلة والشواهد التي تضعه وجهاً لوجه أمام وجوهٍ وصورٍ للحب متغايرة إلى حد التناقض.

وإذا كان الفلاسفة والكتاب والفنانون قد ذهبوا منذ القدم إلى إقامة نوع من النسب الرمزي بين النار والحب، فلأنهم رأوا في هذا الأخير ما يؤجج داخل القلب الإنساني مشاعر شبيهة بالحرائق، يتعذر في مراحلها المتقدمة إخمادها والخروج منها. وقد حرص جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» على تعقب الدلالات المختلفة للنار، سواء في بعدها الديني والماورائي، أو في أبعادها الأخرى المرتبطة بالحب وطقوس الجنس المقدس عند الشعوب القديمة. فقد كان الأقدمون، وفق فريزر، يعدّون النار مطهراً قوياً يستطيع أن يقضي على كل ما هو فانٍ في الإنسان، لكي لا تبقى منه في نهاية المطاف إلا روحه الخالدة. وقد يكون الارتماء في أحضان النار نوعاً من الاحتجاج على هجر الشخص المعشوق وصدوده، أو تخلصاً من لجاجة شخص مكروه، كما فعلت أليسار مؤسسة قرطاجة، بعد أن ضاقت بها السبل. كما أن الالتحاق بالحبيب الميت والانصهار برفاته هو الدافع الأهم الذي يملي على النساء المتزوجات أن يقذفن بأنفسهن بعد رحيل أزواجهن في أتون النيران، في بعض مناطق الكوكب ونواحيه.

على أن أي مقاربة عميقة للعلاقة التي تربط النار بالحب، لا يمكن أن تتم دون التوقف ملياً عند كتاب «النار والتحليل النفسي» للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، الذي استطاع أن يتعقب تلك العلاقة من منظور الفلسفة والأسطورة والشعر، دون أن يغفل الموروثات والمعتقدات الشعبية المتصلة بهذا الشأن. فالنار كما يذهب صاحب «جماليات المكان»، لم تتولد من احتكاك حجرين أو قطعتي خشب، بل من احتكاك جسدين عاشقين، بما يجعلها ابنة الإنسان أكثر من كونها ابنة الأخشاب والأحجار. كما أن غزو النار هو ما فصل الإنسان عن الحيوان، حيث اللهب ينبثق من قلب الإنسان عاشقاً ومبدعاً في آن واحد. ولأن للنار هذه المكانة المؤسسة للحياة والفن، نستطيع وفق باشلار، أن نعدَّ بروميثيوس عاشقاً وشاعراً أكثر منه فيلسوفاً، ونستطيع أن نتيقن من أن الغيرة مما يمكن أن يصبح عليه البشر المتسلحون بالنار هي ما أوغر صدر الآلهة للانتقام من الإنسان، ودفعها لأن تنزل به عقابها الأبدي.

لويس أراغون

ولعل مقولة صادق جلال العظم المعروفة حول نسبية الزمن، وضرورة التمييز بين زمن الكثافة السريع الذي يمثله الحب، وزمن الامتداد البطيء الذي يمثله الزواج، هي تأكيد إضافي لما ذهب إليه باشلار، من أن «كل ما يتغير بطيئاً تفسره الحياة، وكل ما يتغير سريعاً تفسره النار». على أن الفيلسوف الفرنسي وهو يمعن في مواءمته بين أقنومي النار والحب، حرص في الوقت ذاته على التمييز بين النار الملتهبة التي تحرق كل شيء، كما هي حال نار الجحيم، وبين نار المواقد المنزلية الشتوية التي يكفينا أن نضع جمرة مقابل الأخرى، حتى تُشيع في دواخلنا نوعاً من الدفء الفردوسي الموزع بين العذوبة والعذاب، حيث الافتتان «يتم بصوت خافت تحت رماد الشتاء، فيما القلب، شبه نار مغطاة يستهلك نفسه ويغني».

وسواء اتخذ الحب مع بلوغه حالة الوجد والهيام صورة النار المتأججة، أو بدا على صورة نار خفيفة وملطفة، فهو قادر على رفد الأدب والفن ببعض أفضل تجلياته وأكثرها صلة بشغاف القلب وحرقة الكائن الإنساني. وقد تكون الشاعرة اليونانية سافو المولودة في القرن السابع قبل الميلاد، التي قضت انتحاراً بسبب قصة حب فاشلة، إحدى أكثر شاعرات العصور القديمة جرأةً وتعبيراً عن ضراوة الحب وفتنته، الأمر الذي حدا بفريدريك هيغل لأن يصف المرأة التي أحرقت الكنيسة القسم الأكبر من قصائدها بالقول «إن شعرها يُظهر لهيب الدماء المضني، أكثر من الشعور العميق للمزاج الذاتي». وقد استمر اللهيب إياه بتغذية الشعر الغربي في العصور الوسطى، بخاصة مع الشعراء الفرسان الذين عرفوا بالتروبادور، وصولاً إلى عصرنا الراهن، حيث يعلن أراغون في ديوانه «مجنون إلسا»:

الحب والموت لهما البريق إياه

أريد أن أرى طرَف ذاتي

أوقِدوا النار

فها إنني أُحب

ورغم أن الشعراء العرب الأقدمين لم يكن يعوزهم المزيد من النيران، وهم الذين عاشوا في حمأة الصحراء ولفحها الشمسي، فقد عبّرت قصائد عشقهم عما كابدوه من جمر المكابدات ولهب الشوق، الذي لا تكاد اللقاءات العابرة تخفف من وطأته، حتى يتسبب الفراق في تأجيجه مرة أخرى. وفي «مصارع العشاق» يروي أحمد بن الحسين السراج أن مُساور الوراق تلا على مسامع أحد مجانين بني عذرة، ممن اختلطت عقولهم بفعل الحب، بيتاً من الشعر يقول فيه:

وما الحب إلا شعلةٌ قدحتْ بها

عيونُ المها باللحظ بين الجوانحِ

وحين طلب الوراق من صاحبه المجنون أن يُجيزه، أجابه الأخير دون إبطاء:

ونار الهوى تخفى وفي القلب فعْلها

كفعل الذي جادتْ به كفُّ قادحِ

ومع أن بعض من وقعوا في شرك الحب، قد حاولوا الالتفاف على دوامته المحيرة، مبتكرين لأنفسهم مخارج عدة، بينها البحث عن حب بديل أو مشاغلة أنفسهم بالتهالك على الملذات والمتع الدنيوية الصرف، إلا أن محاولاتهم تلك قد باءت بالفشل، ولم تكن «الرشى» المتنوعة التي قدموها لإرضاء الجسد الشهواني، قادرة على إطفاء ما تعاظم في داخلهم من ظمأ القلب وحرائق الروح. وفي ذلك يقول محمد بن النضر الفهري:

زعموا أن من تشاغل باللذات عمّن يحبه يتسلّى

كذبوا والذي تساق له البُدْنُ ومن عاذ بالطواف وصلّى

إن نار الهوى أحرُّ من الجمر على قلب عاشقٍ يتقلّى

إلا أن الجانب الناري من الحب هو الذي يفسر بالمقابل عدم قدرته على الصمود طويلاً في وجه الزمن، حيث في حياة قصيرة وزائلة، ليس الثبات ولا الديمومة صفتين من صفات البشر، بل التحول والذبول والزوال، وحيث كل ما يشتعل بوتيرة شديدة وسريعة، لا بد له أن ينطفئ بالوتيرة نفسها. وإذ عدَّ بعض الدارسين أن القوة الافتراضية للعصف العاطفي الذي يثيره الحب في قلوب البشر لا تتجاوز على المستوى الزمني السنوات الثلاث، فإن البعض يرى أن النار قد تصاب بالعقم عندما تبلغ سناً بعينها، مثلها في ذلك مثل أي قوة منجبة. وإذا تُركت النار تعيش حياتها الطبيعية، هرمت وماتت كما يهرم ويموت الحيوان والنبات، حتى لو قمنا بتغذيتها.

مدركين هذه الحقيقة، عمل الشعراء والمبدعون، والعذريون منهم على خطين اثنين، يتعلق أولهما بجعل الغياب الطرف الثالث الذي لا بد من وجوده لمنع العلاقة بين الحبيبين من الترهل والانحسار، وإبقائها في حال التوهج المستمر. ويتعلق ثانيهما بالاستثمار الإبداعي النرجسي لحالة الفقدان، بحيث يُعاد تأليف المرأة المعشوقة من هذيانات التخيل الشعري وحمّى الرغبات المكبوتة، لا من التشكلات الزائلة للّحم والدم. ولم يكن قول جميل بن معمر «يموت الهوى مني إذا ما لقيتها، ويحيا إذا فارقتها فيعودُ»، سوى ترجمة صادقة لرغبته في استيلاد بثينة من رحم الحرمان وهواماته المتخيلة. ومع أن محيي الدين بن عربي قد ذهب لاحقاً إلى القول بأن «كل حب يسكن باللقاء لا يعوّل عليه»، فإن صاحب «الإشارات الإلهية» لم يكن على الأرجح يحمّل اللقاء المقصود، المعنى الذي يحمله الزواج، حيث في أغلب الحالات لا يتبقى من الحب سوى ما يتبقى من الجمر بعد تحوله إلى رماد. وهو عين ما قصده إريك فروم في كتابه «فن الحب»، حين قال «إن الإنسان يتوق إلى الحب الضائع، ويشغف به أشد الشغف. إذ ما الذي كان سيحدث لو أن جولييت بقيت مع روميو وتزوجت منه؟».



محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي
TT

محمد طرزي: استلهمت واقع المهمشين في وطني من مقولة لنجيب محفوظ

Ca-culture1-22Dec-photo1  الكاتب محمد طرزي
Ca-culture1-22Dec-photo1 الكاتب محمد طرزي

لفت الكاتب اللبناني محمد طرزي الأنظار إليه بقوة مؤخراً؛ حيث فازت روايته «ميكروفون كاتم صوت» بجائزتي «كتارا» القطرية و«نجيب محفوظ للرواية العربية» التي تمنحها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك في مدة وجيزة لا تتجاوز 3 أشهر قبل نهاية العام الحالي. ما يضفي على هذه الرواية دلالة خاصة في مسيرته، وطموحه لكتابة نص له طابع اجتماعي ينهل من الواقع الاجتماعي في لبنان، ويرصد المتغيرات المجتمعية من منظور إنساني.

أقام طرزي بعدد من دول شرق أفريقيا، وأعاد اكتشافها روائياً، مستلهماً التاريخ العربي في تلك الأماكن، في ثلاثية بعنوان «الحلم الأفريقي»، ومنها «عروس القمر» و«جزر القرنفل» التي تتناول تاريخ زنجبار خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان.

هنا... حوار معه حول روايته الفائزة وهموم الكتابة.

* تبدو المتناقضات كما لو كانت تشكل جوهر روايتك الأخيرة «ميكروفون كاتم صوت»، بداية من العنوان حتى النهاية. إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- هي رواية المتناقضات بالفعل. العنوان نفسه يجسد التضاد والمفارقات التي لا تلبث أن تظهر مع الصفحات الأولى للكتاب؛ حيث يبرز شاب اسمه «سلطان»، يقيم في بيت متواضع مُطل على المقبرة، يسترزق من زوار القبور، ويطمح أن يصير أديباً. صديقه «حسن» ليس بعيداً عن تلك المفارقات، فهو يهرِّب المسروقات، يتورَّط في قضايا أخلاقية ملتبسة، وفي لحظات أخرى نجده نبيلاً عبثيّاً. أما «عفاف»، فتمتلك ملهى ليليّاً، تستقبل فيه بائعات الهوى، هي أيضاً فنانة تشكيلية، حتى وإن بدت لوحاتها تافهة.

* استلهمت الرواية من مقولة لنجيب محفوظ، كيف ذلك؟

- قرأتُ مقالة في إحدى الصحف، يتحدَّث فيها الكاتب عن الوطن، واستوقفني اقتباس لنجيب محفوظ: «وطن المرء ليس مكان ولادته؛ لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب». ظل هذا الاقتباس يلاحقني حتى سمعتُ –مصادفة- شابّاً عشرينيّاً، يردِّد، في أحد المقاهي، عبر هاتفه، أنَّ كلَّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل. في اليوم التالي أنهى الشابُّ حياته لأسباب لم يتبيَّنها أحد. ربطتُ الاقتباس بالعبارة التي قالها الشابُّ بصوت متهدِّج، فإذ بفكرة الرواية تتشكَّل في مخيلتي.

* ما علاقتك بأدب نجيب محفوظ عموماً؟

- قرأتُ «محفوظ» في عمر مبكر. اهتممتُ بعدها بالرواية التاريخية، فاطلعتُ على أبرز ما كُتب وتُرجم في التخييل التاريخي، حتى وجدتني أتبنى ذلك النمط الأدبي كاتباً. بعد الانهيار الشامل الذي ألمَّ بلبنان، قررتُ كتابة رواية اجتماعية تتلمَّس حياة اللبنانيين وتقارب بصورة وجدانية ما آلت إليه أمورهم. توجَّستُ من الخطوة؛ لأنني كنت أهم بدخول نمط أدبيٍّ لم أختبره من قبل؛ لكنني ما إن شرعتُ بالكتابة، حتى وجدتني أكتب بأريحية، بتأثير ربما بما قرأته من روايات اجتماعية عظيمة لمحفوظ. فكَّرتُ وقتها أن تلك هي قوة الأدب، تنمو في داخل المرء دون أن يشعر بذلك.

* إلى أي حد يحق للأجيال الجديدة أن تتمرد على محفوظ وتسعى لتجاوزه؟

- لكل جيل اهتماماته وتطلعاته، والأجيال الجديدة لن تصغي لأحد، وستقرر بنفسها من أي معين تنهل، ومن أي نهر تروي عطشها الأدبي والإنساني. أنا شخصيّاً من جيل أولئك الذين تظل مدرسة محفوظ حاضرة في أعمالهم، لما تمثله من نموذج فني فذٍّ، يوغل عميقاً في النفس البشرية برغم الإطار المحلي لرواياته.

* تشكل المقابر -كفضاء درامي- مقبض فكرة أساسية في «ميكروفون كاتم صوت»، ألم تخش هذه الأجواء التي قد ينفر منها بعض القراء؟

- لم أفكر في هواجس القراء من هذه الناحية، فالظروف المحيطة بالرواية هي التي اختارت المقبرة فضاء دراميّاً. وحين قصدتُ أهلَ الشابِّ الذي أنهى حياته، بعد ترديده في المقهى، عبارة أنَّ «كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل»، وجدتُ منزله مطلّاً على المقبرة، في زمن يعيش فيه شعبي على حافة الموت، فلم أجد حيّزاً مكانيّاً أفضل، أعبِّر من خلاله عمَّا حل بأولئك الذين لا ينشدون سوى الهروب من وطن غدا أشبه بالمقبرة.

* يرى البعض أن الرواية تقدم وجهاً صادماً غير متوقع للبنان... هل تعمدت ذلك؟

- هي رواية عن المهمَّشين الذين يعانون من النظام اللبناني القائم على تبادل الخدمات، بين الزعيم الطائفي والنخب الاقتصادية التي تدور في فلكه. نسجت تلك النخب علاقات مالية مشبوهة مع زعماء الطوائف، ما فتئت تتسبب في هدر المال العام، وإعاقة تشريع قوانين عصرية. بالرغم من كل ما يحصل، وجه لبنان المشرق موجود؛ لكن تجاهل إرادة الشعب في ظل الزبائنية الحزبية والطائفية، يشوِّه وجه وطني المشرق ويهدِّده بالتلاشي.

* فازت الرواية بجائزة «كتارا» قبل فوزها بجائزة «نجيب محفوظ» بفترة متقاربة للغاية؛ كيف استقبلت الجدل والانتقادات التي أثارها البعض حول تلك الجزئية؟

- شرَّفتني «كتارا» بضمِّي إلى لائحة الفائزين بها، وكذلك فعلت جائزة «نجيب محفوظ» للأدب. لعلَّ ذلك يحصل للمرة الأولى، ما لفت الانتباه وأثار التساؤلات، ولكنْ حقيقة أن ذلك يمثِّل سابقة، لا يعني أن لا حقَّ للرواية في نيل جائزتين، ما دامت تلك إرادة أعضاء لجنتي التحكيم، وفي سياق عدم مخالفة شروط الترشُّح؛ لأن رواية نجيب محفوظ لا تشترط عدم فوز العمل المقدم إليها بجائزة أخرى. الأهمُّ بالنسبة إليَّ، وسط هذا الجدل، أن الجائزتين العريقتين ساهمتا في منح الرواية صوتاً قويّاً، يتردَّد صداه حالياً لدى كثير من القرّاء.

* كيف ترى جدل الجوائز الأدبية في الثقافة العربية عموماً؟

- أُدرجتْ أعمالي على قوائم الجوائز المختلفة، وفازت بأربعٍ منها، ما ساهم في إيصالها إلى نقَّاد وقرَّاء جدد، بعضهم أصبحوا أصدقاء. بهذا المعنى، خدمت الجوائزُ مشروعي، وأرى أنها تخدم غيري من الكُتَّاب، وتساهم في تعزيز المشهد الثقافي العربي. الجدل وسط الكُتَّاب حول الجوائز مردُّه اعتقاد طبيعي لدى الكاتب أن كتابه جدير بالفوز. أتفهَّم هذا الشعور، فالكتابة عمل معقَّد، تستنزف طاقة الكاتب، ما يشعره أو يوهمه بأنه بصدد نصٍّ استثنائي، ليجيء تقييم اللجان مغايراً لرغبته. في نهاية المطاف، تقييم الأعمال الأدبية يعتمد على ذائقة لجان التحكيم، ما يعقِّد النقاش حول أحقية فوز هذه الرواية أو تلك.

* هل استطاع الأدب اللبناني التعبير عما تعيشه البلاد من تحولات عنيفة اقتصادياً واجتماعياً؛ فضلاً عن اشتعال المواجهة مع إسرائيل؟

- لم يعبِّر الأدب اللبناني بما يكفي عما تعيشه البلاد من تحوُّلات، ربما لأن الحدث لا يزال قائماً. ما يحملني على الظنِّ بأن ثمة أعمالاً في طور الكتابة أو النشر. لاحظتُ أن الأدب اللبناني يدور اليوم في فلك «الديستوبيا»، أو يتمحور حول القيم العالمية المتمثلة بالنسوية. بعض الأعمال أشارت إلى انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020. بالنسبة إلى المواجهة مع إسرائيل، فإن الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع القائم منذ أكثر من 75 عاماً، قليلة جدّاً، إذا ما قورنت بروايات الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو أمر مستغرب.

* هل يمكن أن تشهد الثقافة اللبنانية ازدهاراً لما يسمى «أدب الحرب»؟

- ازدهر أدب الحرب الأهلية اللبنانية وسط الأدباء، كما لم يزدهر أي نمط أدبي آخر. استوقفني إصرارهم على التركيز على تلك المرحلة من تاريخنا، برغم كل الحروب والأزمات التي مررنا بها. حرب يوليو (تموز) 2006 -على سبيل المثال- لم تترك بصمة قوية في الأدب اللبناني. لذلك، من الصعوبة التكهُّن حول دور الحرب الأخيرة في المشهد الأدبي.

* ما السر وراء أعمالك المتوالية عن شرق أفريقيا؟ وهل استطعت اقتناص جوهر القارة السمراء من الداخل؟

- لم أعرف شيئاً عن تاريخ العرب في شرق أفريقيا، قبل سفري إليها منذ أقل من عقدين. شكَّل اكتشافي الإرث العربي هناك صدمة ثقافية. فعمدتُ إلى التنقُّل بين دول المنطقة التي مثَّلت إمارات عربية لقرون من الزمن. ثم مع انكبابي على قراءة الكتب والدراسات التاريخية ذات الصلة، لاحظتُ أن لا وجود لروايات عربية حول تلك الحقبة، بخلاف الاهتمام الذي أولاه الأدباء العرب للأندلس. عددتُ شرق أفريقيا أندلساً منسيّاً. كان ذلك عام 2012، حين شرعتُ بكتابة «جزر القرنفل»، وهي رواية عن زنجبار، خلال فترة حكم السلطان العماني سعيد بن سلطان، أعقبتُها بثلاث روايات عن أماكن أفريقية أخرى، نالت نصيبها من الحضور العربي. بهذا المعنى، ليست الغاية من الكتابة عن أفريقيا اقتناص جوهر القارة السمراء، بقدر ما هي مسح الغبار عن الزمن العربي المنسي هناك.

* ألم تخشَ عند كتابتك عن أفريقيا أنك لست مواطناً أفريقياً لا تعرف المجتمعات المحلية جيداً، وبالتالي يمكن أن يفتقد النص العمق المطلوب؟

- بعد عشرين عاماً من الإقامة في أفريقيا، أشعر أنني أفريقي بقدر ما أنا لبناني عربي، ومع ذلك فإنني لم أكتب عن المجتمعات المحلية؛ بل كتبتُ عن تاريخ العرب في تلك المنطقة. بمعنى آخر: لم أبتعد كثيراً عن المجتمعات العربية، وإن كان الإطار المكاني للروايات أفريقيا السمراء.

* هل لديك فلسفة معينة في اختيار عناوين رواياتك؟

- بديهياً يجب أن يعبِّر العنوان عن كُنه الرواية، ولا ألجأ لعنوان لافت لجذب اهتمام القارئ، إلا إذا وجدته يعبِّر أكثر عن روح النصِّ وجوهره. مع الشروع بكتابة أي رواية أضع عنواناً مؤقتاً، على الأقل لحفظ الملف في الكومبيوتر، ولكنْ مع مواصلة السرد، تختار الرواية عنوانها بنفسها، وتفرضه عليَّ. في رواية «ميكروفون كاتم صوت»، لم أختر العنوان حتى الصفحات الأخيرة، حين وجدتْ «عفاف» نفسها محاصرة بالظلام، تخنقها روائح النفايات، بينما المكبرات تزعق بقوة حولها، مانعة إياها من التفكير أو الصراخ. في تلك اللحظة الدرامية، اكتشفنا سرَّ الميكروفونات معاً، وانفعل كلانا لاكتشافنا المتأخر.

* كيف ترى الانتقادات التي يوجهها البعض إلى الرواية التاريخية، من أنها تعكس نوعاً من الاستسهال لدى المؤلف؛ حيث إن معظم عناصر العمل متوفرة، وبالتالي تعد «خياراً آمناً»؟

- لعلَّ العكس هو الأصحُّ. كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة الرواية الاجتماعية المستقاة من أحداث معاصرة، بحيث تكون شخصياتها تجسيداً لشخصيات حقيقية ومرئية. كما أن الرواية التاريخية تعود إلى حقبة زمنية أخرى، ما يحتِّم على الكاتب البحث عنها والتمحيص فيها، فضلاً عن تكبيله بحقائق تاريخية لا يمكن التملُّص منها. وقد تغدو المهمة أكثر تعقيداً في الرواية التي تتناول شخصيات تاريخية؛ لأن حرية الكاتب تصبح محدودة للغاية في رسم تلك الشخصيات، وتحديد مساراتها.

* كيف ترى علاقتك بالأجيال السابقة في الأدب اللبناني؟ وهل ترفع شعار: أنا أديب بلا أساتذة؟

- قدَّم لبنان أديبات وأدباء كباراً، عرفتُ بعضهم شخصيّاً، ورحل بعضهم قبل أن أحظى بهذه الفرصة. من الأعمال الأدبية البارزة التي تأثرتُ بها روايات جبور الدويهي، وأمين معلوف، وحنان الشيخ... للحق، إن كان لا بدَّ من شعار أرفعه، فإنني أرفع شعاراً معاكساً لما ذكرتِه في سؤالك.