الإنسانيات في أزمة

سياسات تربط الناتج التعليمي الجامعي بسوق العمل أو الاحتياج الاقتصادي

عبد الله العروي
عبد الله العروي
TT

الإنسانيات في أزمة

عبد الله العروي
عبد الله العروي

نعم، الإنسانيات في أزمة. يدرك ذلك وبصورة حادة من يعمل في الكليات والأقسام التي تدرّس العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات، مثلما يدركه الباحثون في مراكز الدراسات. قد يدركه الباحثون بصورة أقل ربما، لا أدري، لكنها ظاهرة واضحة، بل هي ظاهرة عالمية قد تتفاوت من بلد إلى آخر أو حقل إلى آخر أو مؤسسة إلى أخرى، لكن الحديث عنها منتشر والشعور بها حاد. كما أنها ليست بالظاهرة الجديدة على المستوى التاريخي، عرفها من قبلنا ونعرفها اليوم. وفضلاً عن ذلك لها شواهد شخصية قد يرويها بعضنا، وأنا منهم. على المستوى الشخصي أذكر أنني حين التحقت بما كان يعرف بالقسم الأدبي من الدراسة الثانوية في أواخر الستينات كان عليّ أن أبرر لبعض المحيطين بي أسباب اختياري الأدبي بدلاً من العلمي الواعد بمستقبل أفضل. لم يشر أحد إلى مسألة الذكاء والمستوى الأعلى من الجد والاجتهاد الذي يتطلبه القسم العلمي، ربما احتراماً لمشاعري، لكن الحقيقة هي أن المجتمع كان أكثر تقديراً للطلاب الذين يسلكون مسلك العلوم الطبيعية بدلاً من الآداب، ولكثيرين غيري تجارب شبيهة بما أشرت إليه. لقد كان عليّ أن أبرر باستمرار سبب اختياري للنهج غير العلمي كما يسمى، وكأن العلوم الإنسانية ليست علوماً - وأظن أن اسم «آداب» جنى على كلية تسمى في أماكن أخرى «العلوم الإنسانية»، وهو بالمناسبة ما آلت إليه الكلية الآن، فهي لم تعد كلية الآداب وإنما كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية. حين سجلت في كلية الآداب بجامعة الرياض، كما كانت الجامعة تسمى آنذاك، كان علي أن أبرر اختياري، ولم ينقذني من المزيد من اللوم سوى ذهابي إلى قسم اللغة الإنجليزية وآدابها نظراً للصعوبة والمهابة النسبية التي كان يتمتع بها. أما بقية الأقسام (اللغة العربية، التاريخ، الجغرافيا) فكانت تتمتع بنظرة دونية، مع أنها الأقسام التي تألفت منهما إحدى الكليتين اللتين تأسست عليهما الجامعة عام 1957 (الكلية الأخرى هي العلوم التي تعني تلقائياً العلوم الطبيعية).

لكن المؤكد أن كليات العلوم الإنسانية بأقسامها وعلومها، على قدمها ودورها التأسيسي، كانت تعاني. وفي أيامنا هذه ازدادت تلك المعاناة مع تضاؤل أعداد الطلاب وازدياد ضعفهم وتضاؤل الدعم من قبل المؤسسات التعليمية ومخططي سياسات التعليم في المراحل المختلفة. تخصصات تحجب، وأقسام تختفي وكليات تدمج ودعم يتضاءل، مع استمرار النظرة الدونية لتخصصات التاريخ والفلسفة والجغرافيا والأدب والعلوم السياسية والدراسات الاجتماعية وما إليها، ومطالبتها باستمرار بأن تبرر أسباب بقائها. إنها في واقع الأمر أزمة وجود.

تشومسكي

أما فيما يتعلق بمراكز الدراسات المتصلة بالإنسانيات، فالقصة، كما تبدو لي، شبيهة بتلك المتعلقة بالجامعات.

زرت مؤخراً أحد مراكز البحث في الرياض، وهو مركز معني بالترجمة والدراسات المتعلقة بالتاريخ والعلاقات الثقافية، وذلك بدعوة من رئيس المركز، وكنت أظن الدعوة لمناقشة سبل التعاون، لا سيما وأن المركز ترجم بعض كتبي إلى لغات أخرى، لكني فوجئت بالشكوى عالية من تضاؤل الدعم وسوء الفهم الذي آل إليه النشاط الذي يقوم به المركز، مع أنه بين أكثر المراكز نشاطاً. ولا أشك في أن مراكز بحث أخرى كثيرة تواجه المشكلة نفسها. قد تتفاوت الأزمة من مركز إلى آخر في حدتها وطبيعتها، مثلما تتفاوت من بلد إلى آخر. لكن ذلك لا يقلل من حجم المشكلة أو حدتها. هي في بريطانيا، كما هي في الولايات المتحدة، حيث تغلق تخصصات وتدمج أقسام، فيحتد تبعاً لذلك الشعور بالأزمة وإن اختلفت طبيعة المشكلة أحياناً وتباينت زوايا النظر إليها. تقول الباحثة البريطانية، الهندية الأصل، برايامفادا غوبال Gopal، أستاذة اللغة الإنجليزية في جامعة كيمبرج، في مقالة نشرتها مؤخراً في مجلة «بروسبكت» (Prospect) البريطانية بعنوان «أنقذوا الإنسانيات» إن المشكلة تعود في جذورها إلى «كراهية عميقة للمصلحة العامة بوصفها قيمة، إيثاراً للدعوة التي لا تهدأ إلى الإثراء الشخصي». تلك الكراهية، كما تقول، هي التي تكمن وراء الهجوم على الإنسانيات والجامعات العامة أو المدعومة حكومياً في مقابل الجامعات الخاصة.

ماكس فيبر

قد لا تكون السياسات الحكومية التي تبلورت في السنوات الأخيرة في بعض دول منطقتنا غارقة في الرأسمالية المتوحشة بالقدر نفسه الذي تشير إليه غوبال، بل إن الرغبة الصادقة موجودة في دعم هذه المراكز واستمرارها.



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.