«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

مثقفون وأدباء يناقشون مرجعياتها وأهدافها الفكرية والنقدية

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

«مختبرات السَّرد العربية»... هل أصبحت لافتةً أنيقةً دون مضمون؟

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

شهد الحراك الثقافي العربي في السنوات الأخيرة عدداً من الظواهر التي عدّها مراقبون علامةً أدبيةً مهمةً تحرك المياه الراكدة، تأتي «مختبرات السرد» على رأس هذه الظواهر. اللافت أنه قبل 20 عاماً كان المصطلح نفسه غريباً يثير التساؤل، وربما السخرية، بسبب غرابته وإحالاته العلمية والطبية، لكنه الآن بات من المفردات البديهية للنشاط الأدبي والثقافي هنا وهناك، ولا يكاد يخلو بلد عربي منه، بل إن بعض البلاد مثل مصر والمغرب أصبح لديها أكثر من مختبر سردي.

في هذا السياق، إلى أي حد تبدو تلك المختبرات ضرورية، وما هي الأهداف التي حققتها خصوصاً بعد نضوج التجربة وانتشارها؟... في هذا التحقيق يجيب مديرو ومؤسسو تلك المختبرات، بالإضافة لأدباء ومثقفين، عن هذه الأسئلة وغيرها.

عبد الرحمن غانمي

كانت شرارة البداية انطلقت من المغرب، حيث شهدت الساحة الثقافية هناك الإرهاصات الأولى لتلك التجربة، وكان للمثقفين المغاربة فضل كبير في صك المصطلح وتقديمه للساحة العربية لاحقاً. اللافت أن «مختبر السرد» بكلية الآداب، جامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال، يمتد نشاطه ليشمل «الأشكال الثقافية: الأدب واللغة والمجتمع»، فهل ثمة دلالة ما؟ طرحنا السؤال على مدير المختبر د. عبد الرحمن غانمي فأجاب قائلاً: «في الواقع لم تنشأ الفكرة من فراغ، فهي حصيلة تراكمات أكاديمية أملت علينا في آخر المطاف تأسيس المختبر بأفق ورؤية مغايرة، ليست غايتنا تكرار التجارب، أو أن نكون مجرد رقم إضافي، ولا (مزاحمة) أيِّ من كان، وإنما فقط من أجل ترجمة المشروع الذي نؤمن به على أرض الواقع، ولذلك لم نقدم على هذه الخطوة إلا بعد مخاض مهم ونقاش مع مكونات المختبر ومرجعياته الفكرية في بدايات العقد الأول من هذا القرن».

سمير الفيل

وحول أبرز الأهداف الخاصة بالمختبر، أوضح أنها تتمثل في الاشتغال على قضايا وموضوعات ما زالت في حاجة إلى التناول، أو تلك التي لم تنل حظها من العناية والاحتضان، تبعاً لتصورات فيها قسط محترم من الاجتهاد والمثابرة، وعقد مؤتمرات وندوات وطنية ودولية ولقاءات منتظمة. والاهتمام كذلك بالتأطير الأكاديمي للطلبة في تكوين أطروحات الدراسات الأدبية واللسانية والثقافية.

لكن مع «تكاثر» مختبرات السرد من المحيط إلى الخليج، يرى البعض أنها تحولت إلى نشاط روتيني ولافتة أنيقة دون مضمون حقيقي، يجيب د. غانمي: «هناك عدد من مختبرات السرديات العربية تؤدي خدمة ثقافية لافتة، في سياقات أدبية ونقدية وفكرية بدلاً من أن يظل ذلك حكراً على بعض المؤسسات، ومن الأكيد أن التجارب تتنوع ولا تشتغل بالضرورة بإيقاع واحد، وتقوى في حين، وقد يخفت صوتها في لحظات أخرى، وقد تتحول بعض الأنشطة في بعض الأحايين إلى إعادة إنتاج الموجود».

سهير المصادفة

الرهان على الغرابة

في أواخر ديسمبر (كانون الثاني) 2009، تم الإعلان عن انطلاق «مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية». ورغم غرابة الاسم وقتها، إلا أن مؤسس ومدير المختبر الكاتب منير عتيبة راهن على أن هذه الغرابة ستكون نقطة تميز تلفت الأنظار إلى ما يقوم به المختبر، حتى لو واجه الاسم في البداية بعض التندر.

ويشير عتيبة إلى تبني المختبر فكرة «زمن السرد» مقابل «زمن الرواية»، وهو المصطلح الذي أطلقه الناقد المصري د. جابر عصفور، وذلك حتى لا يظن البعض أن الرواية قتلت بقية الأشكال السردية. وتم التوسع في مفهوم السرد بالمختبر، فلم يعد يقتصر على «السرد الكتابي» من قصة قصيرة ورواية، بل أضيف إليه «السرد المسموع» ممثلاً في الدراما الإذاعية، و«السرد المرئي» ممثلاً في الدراما التليفزيونية والسينمائية، إضافة إلى المسرح الذي يعد أب الفنون، باعتبار أن كل هذه الفنون «تسرد» فكرة في إطار فني باستخدام أدوات مختلفة من النص المكتوب إلى جسد الممثل وصوته إلى الحركة المسرحية والمؤثرات الصوتية والموسيقى والديكور والإضاءة. ويتم تنظيم لقاء شهري بـ«بيت السناري» التابع لمكتبة الإسكندرية بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة لمناقشة عمل سردي أو مناقشة مجمل أعمال سارد. كما يتم تنظيم لقاء شهري آخر بالمكان نفسه تحت عنوان «مختبر السرديات للفتية ببيت السناري»، وهو ورشة عمل دائمة لتدريب الشباب تحت سن العشرين ومناقشة أعمالهم بالتواصل مع كبار المبدعات والمبدعين.

جعفرالعقيلي

ويوضح منير عتيبة أن مختبر السرديات بالإسكندرية حقق الكثير من أهدافه، مثل دعم جسور التعاون بين الجهات الثقافية في البلاد العربية المختلفة، وهو ما تجلى في العديد من المؤتمرات التي نظمها المختبر مثل مؤتمر «البحر والصحراء: قصة مدينتين (الإسكندرية والرياض)» الذي جاء ثمرة تعاون بين مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية وبين «وحدة السرد» بكلية الآداب بجامعة الملك سعود.

رد الاعتبار للمنجز السردي

وحسب البيان التأسيسي لمختبر السرديات بالأردن، فإن الهدف من ذلك الكيان يتمثل في «الانفتاح على جميع أشكال السرد ومنتجيه دون أي مرجعية سوى جِدّة النص وسعيه الحثيث للمقاربات الحقيقية بغرض رد الاعتبار إلى المنجز السردي باعتباره منصة للانفتاح الإنساني».

منير عتيبة

وينفي الكاتب والناشر الأردني جعفر العقيلي، نائب رئيس المختبر، فكرة أن ظاهرة مختبرات السرد تحمل شيئاً من الرفاهية أو الرغبة في التقليد، مؤكداً أن تأسيس المختبر الأردني جاء انطلاقاً من الوعي بأهمية السرد وضرورة معاينته عبر الرواية والقصة والمسرحية والنصوص، بعين واعية وناقدة، والإسهام في خلق بيئة مبدعة حرة خلاقة، من خلال المراجعات والقراءات، واستنطاق النص الحاضر، واستحضار النماذج المبدعة، وفتح الأبواب للمغامرات السردية الجديدة، كي تعزز الحضور الإبداعي المهم فيما يخص الأجيال المبدعة في مجال السرد في الأردن، ليكون تلمّسه بتجلياته وأبعاده الإنسانية ومساحاته الإبداعية.

يضيف العقيلي: «نقوم في المختبر بتنظيم أنشطة غير نمطية كانت بمثابة سبل مدروسة تلقي الضوء على السرد المكرس وتأخذ بيد التجارب السردية الجديدة وفق رؤى وأدوات لا تتحقق إلا بثالوث الروائي والناقد والقارئ». ويؤمن مؤسسو المختبر، الذي يرأسه الكاتب مفلح العدوان، أن من أبرز معالم التنوير الثقافي في البلاد العربية ازدهار حالة النقد الذي يترافق مع وجود حركة تأليف مميزة وذات فعالية.

وعلى الدرب نفسه وفي ديسمبر 2019، أطلق مثقفون من مدينة دمياط الساحلية، شمال مصر «مختبر السرد بدمياط». ومن بين هؤلاء المؤسسين الشاعر والقاص سمير الفيل الذي يشير إلى أن أنشطة المختبر تتم في مقر حزب «التجمع» بالمدينة رغبة في الاستقلال عن الهيئات الرسمية. ويضيف الفيل: «نجح المختبر في تقديم جيل جديد من النقاد إلى الساحة الثقافية المصرية منهم محمد طاهر عشعش، دعاء البطراوي، هبة عادل السويسي، إضافة إلى النقاد أصحاب الخبرة مثل د. حمدي سليمان، د. عيد صالح، د. رشا الفوال، ود. إبراهيم منصور».

ويقول الفيل إن الهدف الأهم للمختبر، الذي بدأ في التبلور والتحقق، يتمثل في مد الحركة الثقافية بنشاط نوعي حقيقي، والتعرف على أقلام لا تحظى بدرجة كبيرة من الشيوع والانتشار لكنها تملك الموهبة ولديها هاجس التجاوز والتجريب. وينفي الفيل تحول المختبر إلى مجرد نشاط روتيني، نظراً لحرص الإدارة على اختيار أعمال مرموقة وذات مصداقية، ولإسناد مهمة النقد لأقلام عُرف عنها التجرد والنزاهة.

تفاؤل وتحذير

من جهتها، تشير الكاتبة الروائية سهير المصادفة إلى أنها شاركت في معظم فعاليات مختبرات السرديات، سواء في مصر أو في العالم العربي. لعل أشهرها وأكثرها تأثيراً مختبر السرديات بالمغرب، وكذلك ملتقى السرد الذي تقيمه الشارقة، وهو في أحد وجوهه مختبر للسرد أيضاً. وحول رؤيتها لتلك التجربة بعين المبدع تقول المصادفة: «فعاليات هذه المختبرات مهمة بالتأكيد للبحث الأكاديمي والنقد الأدبي والأدب المقارن، وبالتالي هي مهمة لمسيرة السرد. ولكن لا يساهم في الارتقاء بمستوى السرد إلا السرد نفسه، أي الروائي أو الروائية، فنحن هنا نتحدث عن تناول ما بعد العملية السردية، أي تحليل العمل الأدبي المكتمل بالفعل، من خلال محاور تفتح الآفاق أمام الباحثين، وتشير إلى الطفرات الكبرى في مسيرة السرد، وقد تكتشف من خلاله مدارس أو تيارات أدبية جديدة».

ويقول الشاعر والروائي السوري المقيم ببلجيكا هوشنك أوسي: «إن مختبرات السرد ظاهرة تنعكس إيجابياً على ضفتي الإبداع والنقد معاً، لكنها يُفترض أن تكون مرتبطة إمّا بالمكتبات الوطنيّة الكبرى، أو بأقسام وكُليّات الآداب في الجامعات، أو بوزارة الثّقافة، بحيث تكون مدعومة ومموّلة، وتحظى بشخصيّة أكاديميّة اعتباريّة. لكن مع ذلك، ففي ظنّي وتقديري أن التفاؤل الموجود حيال مختبرات السّرد، يفترض أن يكون مصحوباً بالتحذير مما يمكن وصفه بـانقلاب السحر على الساحر، بحيث كنا في أمس الحاجة لمختبرات السرد، كي تنقذ السّاحة الأدبية والنقدية من مظاهر الإسفاف والتهافت في الكتابة الأدبية والنقدية، لكن الخوف أن نصبح فجأة في أمس الحاجة إلى من ينقذنا من (مختبرات السّرد) العشوائيّة والارتجاليّة، أو الخاضعة لسطوة وسلطان هذا الكاتب أو الناقد أو المموّل».


مقالات ذات صلة

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون هوشنك أوسي

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية.

رشا أحمد (القاهرة)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.