سيرة ذاتية افتراضية لغائب طعمة فرمان

خضير فليح الزيدي أخرج الشخصيات الروائية نهائياً من العالم الواقعي

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان
TT

سيرة ذاتية افتراضية لغائب طعمة فرمان

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان

رواية «بنات غائب طعمة فرمان» للروائي خضير فليح الزيدي، الصادرة هذا العام، تقوم على افتراضات تخييلية متطرفة، ينهض فيها الموتى من قبورهم، في مقدمتهم الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، الذي يستحضره المؤلف ليلتقي بأبطال رواياته الذين طلبوا منه الحضور لتصحيح أوضاعهم الحياتية، بعد أن خرجوا من عالم الورق الافتراضي إلى العالم الواقعي، وهو مشهد يذكرنا بمسرحية الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو الموسومة بـ«ست شخصيات تبحث عن مؤلف»، إذْ وجدنا شخصيات رواياته يطالبونه بتصحيح أوضاعهم، منهم كريم الذي خاطب غائب بغضب: «لقد أجرمت بحقي أيها المؤلف حين تركتني في صفائح بغداد دائخاً ومرعوباً وهربت... وجعلت آمنة تفر من شباكي وتتركني وحيداً وتائهاً هنا» (ص 29).

لكن المؤلف يعيد ثانية شخصيات «غائب» من العالم الواقعي، الأرضي الذي تسللت إليه، إلى الفضاء السردي الورقي بتعبير رولان بارت عندما يعلن «هاني بارت» للمحقق أنه كاتب، وأن «كل هؤلاء شخصيات في روايتي الجديدة بما فيهم أنت، والعون الذي سيطرق الباب بعد لحظات، رفقة محامٍ يحمل لك وثيقة عن حقيقة هويتي» (199).

وبذا فقد أعاد المؤلف الشخصيات الروائية إلى سياقها الفانتازي، وأخرجها نهائياً من العالم الواقعي. فكل شيء، وكل الشخصيات، هي مجرد كائنات ورقية كما يقول الناقد الفرنسي رولان بارت. وبذا أكدت الرواية كونها فانتازيا تخييلية تتوسل بلعبة التغريب في المسرح الملحمي البريختي لكسر حالة الإيهام والتماهي مع الفعل الدرامي، وإشعار المتلقي أن ما يتلقاه مجرد تمثيل ليس إلا، وتحريضه على التفكير المتسائل حول ما تلقاه من مشاهد وأفعال.

ويستهل الروائي روايته بإعلان علق على حائط المسجد بلافتة سوداء عن إقامة مجلس فاتحة على روح المرحوم غائب طعمة فرمان، لكن الروائي سرعان ما يتدخل، مستدركاً: «والحق أنه لا يوجد فقيد، ولا وفاة مسجلة رسمياً، ولا هم يحزنون. فقد أشبع المؤلف موتاً» (ص 9).

وبذا يختلط الواقع بالتخييلي، منذ البداية، خصوصاً عندما يحضر الفقيد بشخصه ليتلقى كلمات العزاء من المعزين، كما حضر جميع أبطال رواياته، في مقدمتهم سليمة الخبازة ومصطفى الدلال وأسومة العرجة وحمادي العربنجي وخاجيك ودبش والسيد معروف وغيرهم، فضلاً عن ذلك فقد انتشرت إشاعات عن حضور كبير تجار الشورجة السيد المرحوم عبد الرزاق البيرقدار، والد دلال، إلى مجلس العزاء.

ويمهد الروائي تدريجياً لظهور شخصيات الرواية الرئيسية عندما ينقل محامي عائلة البيرقدار السيد جبر الشوك مضمون هذه الإشاعات إلى «دلال» الابنة الصغرى للمرحوم عبد الرزاق البيرقدار، لتشهد بنفسها عودة الغائب إلى بغداد (ص 12). ويعترف غائب للسائق الذي أقله من المطار إلى فندق بغداد بأن سليمة الخبازة ضحيته، وأنه جاء لتغيير مصيرها (ص 38).

هذه المقدمات التي قدمها المؤلف كانت هي المدخل لحبكة الرواية المركزية والمتمثلة في العلاقة الثنائية بين «دلال» ابنة البيرقدار الصغرى، وكاتب شاب يدعى «هاني بارت»، وهو أحد الأدباء المنضمين إلى جمعية أدبية هدفها تفجير اللغة وتحديثها. وتهدف هذه العلاقة إلى البحث عن الروائي الراحل غائب طعمة فرمان، الذي دارت الإشاعات حول وجوده حياً في بغداد، ورغبة دلال في أن تسلمه أمانة، هي عبارة عن مخطوطة سبق للروائي الراحل أن كتبها لكنه لم ينجزها وتركها في مكتبه في معمل القطن الذي يملكه والدها المرحوم عبد الرزاق البيرقدار.

وبعد جولات ماراثونية في شوارع بغداد ومحلاتها الشعبية، في مقدمتها محلة المربعة في شارع الرشيد، التي كان يقيم الأديب الراحل فيها أثناء إقامته في العراق، تقتنع «دلال» بلا جدوى البحث عن غائب طعمة فرمان، جسداً، وتوافق على تسليم المخطوطة للأديب الشاب «هاني بارت» ليقوم بتحريرها لغرض نشرها باسم الروائي الراحل وفاءً لذكرى الأديب الراحل الذي تعدّه «دلال» بمثابة عمها. ونكتشف بعد إنجاز مهمة التحرير وإعادة الكتابة، أن المخطوطة هي رواية «بنات غائب طعمة فرمان» بالذات، وأن المحرر (هاني بارت) هو القناع الذي ارتداه المؤلف خضير الزيدي.

ومما يربك القارئ معرفة أن «دلال» الفتاة الجميلة (قمر الرصافة) كانت تخطط للتخلص من شقيقتها الكبرى تماضر: «.. أما هي، فكان كل همّها ألا تفشل الخطة التي وضعتها لتوريط أختها في جريمة القتل والاستحواذ على إرث البيرقدار» (ص 194).

ففي هذا الاتهام تنهار صورة البراءة والجمال والنبل التي رسمها المؤلف لبطلة الرواية (دلال) لأنها تفتقد إلى التبرير، كما تفتقد إلى مقدمات سردية تدعم هذا التخطيط الشيطاني. ومن اللافت للنظر أن محرر الرواية (هاني بارت) وجه مثل هذا الاتهام إلى «دلال» أثناء التحقيق:

«– دلال فاتنة استخدمتني لتورط أختها.

- فيم تورطها؟

- في قتل زوجها ابن الأغا.. لتستأثر بالإرث لنفسها» (ص 198).

وكان من الأفضل حذف هذا الاتهام غير المدروس لإبقاء صورة «دلال» على ما هي عليه.

ويبلغ المنحى الميتا سردي ذروته في نهاية الرواية، عندما يعلن المحرر (هاني بارت) أنه كاتب، وأن جميع هذه الشخصيات موجودة في روايته الجديدة، وبذا أعاد الروائي شخصيات الرواية من العالم الواقعي الذي انسلت إليه إلى العالم الورقي للسرد، في تأكيد آخر على أن كل الأحداث تخيلية ولا علاقة لها بالواقع، وهو ما دفع بالمحقق لأن يعدَّ ذلك جنوناً لا معنى له.

رواية «بنات غائب طعمة فرمان» لعبة سردية ماكرة، فيها الكثير من المستويات السردية وتنفتح على تأويلات لا نهائية. فثمة إشارة إلى أن غائب طعمة فرمان أثناء عودته عام 2006 وهو عام الصراع الطائفي، قد حلُمَ بعودته إلى حي المربعة: «ظل الغائب حتى عام 2006 يغط في نومته الطويلة، فطار به الحلم، ونقله أولاً إلى حي المربعة في وسط رصافة بغداد» (ص 67).

وهذا الحلم، يكشف عن فانتازية السرد الروائي، ولا واقعيته.

يختلط الواقع بالتخييلي، منذ البداية، خصوصاً عندما يحضر الفقيد بشخصه ليتلقى كلمات العزاء من المعزين، كما حضرت جميع أبطال رواياته

ومن الجانب الآخر تنطوي الرواية على ملامح سيرة (Biography) كتبها المؤلف خضير فليح الزيدي عن شخصية الروائي الراحل، كما تكشف الرواية عن ملامح سيرة ذاتية (Autobiography) لشخصيته يرويها الروائي غائب عن نفسه، وعن عائلة البيرقدار، وأبطال رواياته، وهي سيرة افتراضية يتداخل فيها الواقعي بالفانتازي. كما يمكن أن نتحدث عن سيرة مكان بغدادي شعبي معروف هو محلة المربعة المطلة على شارع الرشيد ببغداد.

وبذا يحق لنا أن نتحدث عن تشكل هوية سردية (Narrative Identity) بمصطلحات بول ريكور لمحلة المربعة، فضلاً عن تشكل هوية سردية افتراضية للروائي الراحل غائب طعمة فرمان. والرواية تنطوي أيضاً على كتابة سيرة لعائلة التاجر البغدادي الثري عبد الرزاق البيرقدار وبناته الثلاث، واللواتي عدّهن الروائي الراحل غائب طعمة فرمان بمثابة بناته أيضاً. وتنطوي الرواية من جانب آخر على ملامح ميتا سردية تتمثل في وجود المخطوطة الناقصة التي تركها الراحل غائب طعمة فرمان، ومشروع تحرير المخطوطة من قبل الأديب الشاب هاني بارت، فضلاً عن مطالبة شخصيات الروايات المؤلف بتصحيح أوضاعهن.

تضم رواية «بنات غائب طعمة فرمان» 26 فصلاً معنوناً. ومعظم عناوين الفصول مرتبطة بحالة الطقس وتغيراته، وهي بمثابة عتبات نصية يفترض في كونها دالة على الأحداث اللاحقة لكل فصل من فصول الرواية.

إذْ نقرأ بعض هذه العناوين: «رياح نشطة مصحوبة بزوابع نفسية» (ص 13) و«غبار يتصاعد» (ص 27) و«سماء ملبدة بالغبار» (ص 33 ) و«أجواء بغدادية غير مستقرة» (ص41) و«كتلة هوائية معتدلة» (ص 53).

ولم أجد، على مستوى القراءة والتأويل، مبرراً قوياً يدعم هذا الاختيار لعناوين الفصول، كما أن أغلبها لا علاقة له بمجريات أحداث الفصول، لكننا يمكن أن نتقبلها بوصفها لعبة سردية طريفة تسحب السرد الروائي إلى فضاء السرد البيئي. رواية «بنات غائب طعمة فرمان» تمثل نقلة روائية مهمة في تجربة الروائي خضير فليح الزيدي الغزيرة، ربما تفتح الطريق مستقبلاً أمام هذا اللون من الحبكات لإعادة صياغة سيرة حياة شخصيات ثقافية وسياسية ذات طابع تاريخي تركت أثراً واضحاً في تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي.


مقالات ذات صلة

سردية ما بعد الثورات

كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون 3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

صدر أخيراً العدد الـ«99»؛ يناير (كانون الثاني) 2025، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير
TT

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

صدر أخيراً العدد الـ«99»؛ يناير (كانون الثاني) 2025، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر والسينما والتشكيل والمسرح. وقد تناولت افتتاحية العدد «مهرجان الشارقة للشعر العربي وروافده الإبداعية»، وأشارت إلى أن الدورة الحادية والعشرين من المهرجان، التي تنطلق في هذا الشهر، تبرزه بوصفه «قيمة ولغة ورؤية إنسانية متجدّدة، وللمضي في تطوير فعاليات المهرجان لما له من أهمية ومكانة ثقافية وحضارية».

وفي تفاصيل العدد، كتب حسين حمودة عن حافظ إبراهيم (شاعر النيل)، وحاور حمدي المليجي مدير «معهد المخطوطات العربية»، مراد الريفي، الذي قال: «نحن شهود عيان على عبقرية العقل العربي»، فيما توقفت آمال كامل عند بلدة «نيحا الشوف» اللبنانية التي تتغنى بجغرافيتها وآثارها التاريخية، وكتب محمد حسين طلبي عن مدينة «بوسعادة» الجزائرية.

أما في باب «أدب وأدباء»؛ فتابع عبد العليم حريص احتفالية تكريم الفائزين بـ«جائزة الشارقة - اليونيسكو للثقافة العربية (20)» في باريس، وحاور وفيق صفوت مختار الشاعرَ محمد إبراهيم أبو سنة قبل رحيله بمدة قصيرة، فقال: «حياتي منذ الطفولة كانت وعياً بالآخر»، وتناول جمال عبد الحميد مسيرة الروائية السويدية سلمى لاجرلوف، وهي أول امرأة تنال «جائزة نوبل»، وكتب عبد الرحمن الهلوش عن حياة الباحث تركي علي الربيعو، الذي أسس أول مدرسة عربية في علم وثقافة الأسطورة، وتوقف عبد اللطيف محجوب عند تجربة الشاعر محمد سعيد العباسي، بينما التقى خليل الجيزاوي الروائي محمد جبريل.

ومن الموضوعات الأخرى، تناول خلف أبو زيد جهود محمد صبري السوربوني في دراسة الوثائق، وهو الذي جمع «الشوقيات» المجهولة لأمير الشعراء أحمد شوقي، أما الدكتور محمد المهدي بشري فقرأ سيرة التجاني يوسف بشير، الذي يعدّ من أهم رموز التجديد الشعري وعاش في محراب النيل، وحاور محمود شافعي الباحثةَ والناقدة أسماء بسام الفائزة بـ«جائزة مهرجان المسرح العربي للبحث العلمي»، وتناول محمد ياسر أحمد تجربة الأديب طاهر الطناجي.

أما عبد العليم حريص فحاور الشاعرة زينب عامر، وكتب رمضان رسلان عن ريجيس بلاشير؛ أحد أبرز المستشرقين في الغرب الذي اهتم بجماليات اللغة العربية وأتقنها، وتناول غسان كامل نتاج محمد الحاج صالح وتوظيف أدب الخيال العلمي في قصصه، واستعرضت ذكاء ماردلي الواقع والإبداع عند نجيب محفوظ، إلى جانب جغرافية المكان ودلالاته، وقدمت الدكتورة حنان الشرنوبي قراءة في رواية «زعفرانة» للكاتبة هدى النعيمي، حيث التناوب الزمني والمفارقة بين الحدث وزمنه، وتناولت رولا حسن المجموعة القصصية «الفراشات البيضاء» للكاتب باسم سليمان، وأخيراً توقفت عايدة جاويش عند «النباتية»؛ وهي من أهم الروايات في الأدب الكوري، وحققت هان كانغ شهرة واسعة بعد ترجمتها.

ونقرأ في باب «فن... وتر... ريشة»؛ الموضوعات التالية: «التشكيلية هند عدنان... تستعيد الذات في مرآة الرسم» لمحمد العامري، و«مصطفى محرم... علامة فارقة في الدراما العربية» لوليد رمضان، و«صبري منصور سلط الضوء على الإنسان في أعماله» لمحمد فؤاد علي، و«(ياسين وبهية)... ملحمة شعرية حوّلها كرم مطاوع إلى مسرحية» لمحمد حمودة، و«محمد عبد الهادي... مؤسس الفن المسرحي الليبي» لخولة بلحمرة، و«جورج أبيض... قامة مضيئة في تاريخ المسرح العربي» لمحمد خليل، و«اليمن من أهم المراكز الموسيقية الحضارية» لبادية حسن، و«داود عبد السيد... المخرج المؤلف» لعز الدين الأسواني، و«سليمان الحقيوي يرد على الأسئلة المعلقة في السينما» للباحث عبداتي بوشعاب، و«(الغرفة المجاورة)... فيلم يلامس مشاعر إنسانية» لأسامة عسل.

وغير ذلك من الموضوعات.