«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين

عودة الحياة إلى «عميد المعارض العربية»


نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة
TT

«معرض بيروت للكتاب»... زوّاره يبحثون عن فلسطين


نشاط في أحد الأجنحة
نشاط في أحد الأجنحة

في ظل أجواء الحرب على غزة، انطلقت أعمال «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي ينظمه «النادي الثقافي العربي» منذ 65 عاماً. وإذ جاءت الهدنة وتوقف القتال، ليعطي دفعة غير منتظرة للمعرض، فإن الأيام الأولى تشي بحماسة وإقبال غير متوقعين، أسرّتا قلوب الناشرين.

«منذ يوم الافتتاح الخميس الماضي، بدا واضحاً أن الجمهور آتٍ ليشتري، هذا لاحظناه على رواد جناحنا»، تقول لنا رنا إدريس مديرة «دار الآداب». عطلة نهاية الأسبوع بحيويتها كانت مفرحة للناشرين، والإقبال على الأنشطة، زاد المنظمين إحساساً بالرضا.

ومن حسن الحظ أنه بالتزامن مع هدنة غزة، هدأت جبهة الجنوب اللبناني أيضاً، وكأنما شيء من الارتياح خيّم على البلاد.

ما يحدث خالف كل التوقعات. فمع أحزان الحرب، وتعلق الناس بشاشاتهم، أكثر من انشغالهم بحاجاتهم الثقافية، وبسبب أن «نقابة الناشرين اللبنانيين» كانت قد نظّمت «معرض لبنان الدولي للكتاب» قبل شهر فقط، وحشدت له حملة إعلامية كبيرة، وأقامته في «فوروم دو بيروت» حيث المساحة فسيحة والتقسيمات أنيقة؛ بدا أن هذا المعرض التقليدي الذي صار عمره أكثر من ستة عقود، قد ضُرب في مقتل، لكن المفاجأة السعيدة، أن الرواد بدوا مخلصين لمعرضهم المعتاد، أكثر مما تصوره البعض. مساحة المعرض الحالي صغيرة، في «سي سايد أرينا» الواجهة البحرية، المكان الذي نال منه انفجار المرفأ عام 2020، ولا يزال استرجاع المساحة السابقة مستعصياً، لكنها ليست مشكلة على ما يبدو. «نحن معتادون على هذا المعرض، وله تاريخ وعراقة، وصغر حجمه لا يعيبه، بل يبدو لنا دافئاً وحنوناً. المعرض السابق كان تنظيمه أفضل، لكننا شعرنا فيه بشيء من الغربة»، تشرح رنا إدريس.

رغم الوقت الضيق بين المعرضين، حرصت «دار الآداب» على الإتيان بكتب جديدة، لعل أقربها إلى قلب صاحبة الدار هو كتاب شريكها وشقيقها الأديب الراحل سماح إدريس. وهو رواية «قمر» التي كتبها قبل وفاته، ولم تبصر النور قبل اليوم. وأطلق الكتاب بحفل يشبه صاحبه الذي كان شغوفاً بفلسطين. ومن إصدارات الدار الجديدة لمواكبة المعرض: «عام واحد من العزلة» لإيمان اليوسف، و«الكلمة الأجمل» لأودور آفا أولافسدوثير، و«النكبة المستمرة» لإلياس خوري.

بالمناسبة توضح إدريس، أن إقبالاً لافتاً جداً تلاقيه كل إصدارات الدار عن فلسطين، وكأنما الناس تعود من جديد لتقرأ عن القضية التي نسيتها لفترة طويلة. هناك طلب كبير على كتب إدوارد سعيد، وإلياس خوري خاصة كتابه الجديد عن فلسطين «النكبة المستمرة»، و«حكاية جدار» للأسير الفلسطيني ناصر أبو سرور، وكذلك مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا خاصة كتابه «البئر الأولى» الذي يروي فيه سيرة حياته وطفولته في القدس، و«صناعة الهولوكوست» لنورمان غاري فنكلشتاين، وبالطبع رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي» بعد حرمانها من جائزة معرض فرانكفورت للكتاب. وهناك إقبال أيضاً على رواية «قناع بلون السماء» لباسم خندقجي، أسير في السجون الإسرائيلية، صدرت حديثاً.

«دار الآداب» ليست استثناء، فقد عملت غالبية الدور على إبراز كتبها عن فلسطين في أجنحتها، وعن الشخصيات الفلسطينية المعروفة، بسبب الطلب عليها، منها كتاب «استشهاد شيرين أبو عاقلة» الذي كانت قد أصدرته «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» العام الماضي. أما الكتاب الأكثر مبيعاً في المؤسسة فهو «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه. هكذا ربما يأتي المعرض في وقت يحتاج فيه القراء للعثور على إجابات لأسئلة عادت لتطفو على السطح من جديد، بعد صدمة الحرب على غزة ومجازرها الصادمة.

يحتفي مدير المعرض عدنان حمود، بعودة الحياة إلى هذا الحدث السنوي، فدورة العام الماضي كانت ظروفها الاقتصادية أشد وطأة. «الآن البلد أموره تسير، ونحن حالنا كما الآخرين. نعم شعرنا بوطأة الحرب ونحن ننظم المعرض، وبالطبع هناك صعوبات، لكننا تعودنا. وقد عاش هذا المعرض طوال الحرب الأهلية، ولم ينقطع، وخلال الاجتياح الإسرائيلي ولم يحتجب»، يشرح لنا حمود أنه منذ بدء التنظيم تصرف وكأن الوضع عادي، وقرر أن المعرض سيقام بمن حضر. «نعم ثمة من قرر تصغير مساحة جناحه للتوفير، وهذا يفهم، وبعض الدور قررت ألا تشارك، ولكنها ليست كثيرة»، يعد حمود أن العوائق لم تعد لبنانية فحسب، «بمقدوركم سؤال الناشرين وسيخبرونكم أن كل المعارض العربية تغيرت أحوالها، وخفتت مبيعاتها. لم تعد القراءة كما كانت، ولا الإقبال كالسابق. هذا الأمر ليس حكراً علينا»، ويروي حمود أن هذا المعرض الذي هو الأقدم في المنطقة، مديرو المعارض العربية هم الذين أطلقوا عليه عام 1992 اسم «عميد المعارض العربية» وليس نحن؛ لمكانته وأهميته، عادّاً أن الناشر اللبناني لا يزال متميزاً؛ «لأنه هو الذي يقرأ المخطوطة، ويطبع ويشرف على النشر، وهو الذي يحمل كتابه بنفسه ويسوقه في كل مكان، ولا يعهد به لأي أحد آخر». ورأت سلوى بعاصيري رئيسة «النادي الثقافي العربي» أن «إقامة المعرض في هذا الظرف العصيب ليست مغامرة في غير أوانها ولا تغريدة خارج هموم الناس وأولوياتهم، بل هو نوع من أنواع النضال».

ثمة ارتياح عام لدى الناشرين أن يروا «معرض بيروت للكتاب» كما عرفوه يعود إليه الزخم بعد فترة انقطاع بسبب وباء «كورونا» من جهة، والأزمة الاقتصادية من جهة أخرى، ومن ثم عودته المتعثرة قبل أن ينتعش هذه المرة. «الكلمات هي ذاتها يكررها الناشرون الذين سألناهم: (هو معرضنا الذي تعودنا عليه)»، هذا ما تقوله نسرين كريدية، المديرة التنفيذية لـ«دار النهضة العربية»، متأسفة لغياب دور نشر وازنة مثل «الرافدين» و«الراتب» و«نوفل»، و«التنوير»، بسبب الانقسام بين منظمي المعرضين المتتاليين زمنياً، لكنْ هناك سبب آخر لغياب بعض الدور اللبنانية، بحسب ما يشرح لنا مدير المعرض حمود، هو أن «اتحاد الناشرين العرب» برمج «معرض كتاب الكويت» في نفس الوقت؛ لأنه تعامل مع المعرض الذي عُقد الشهر الماضي على أنه الأساسي، ويضيف حمود: «رغم أن تعاوننا مع (اتحاد الناشرين) يمتد إلى عشرات السنين، فكيف يشطبون موعدنا بهذه الطريقة؟!».

هذه الخلافات لا تنغص فرحة الناشر سليمان بختي صاحب «دار نلسن» الذي يعد أن عودة الرواد إلى هذا المعرض تؤكد أن «من يصنع معرض الكتاب هم الناس، وليست نقابة (اتحاد الناشرين)، ولا (النادي الثقافي)، ولا التمويلات السخية. الكتاب ليس حكراً على أحد. هو نتاج المجتمع والناس، وهو لهم ومن أجلهم. والنشاطات الثقافية الغنية المصاحبة، بتنوعها، وبنوعية الحضور وطبيعة الحوارات، تظهر بوضوح دور بيروت، وكيف أنها صدى لكل ما يحدث في العالم العربي». ويعد بختي أن «بيروت أكبر من هذا الكباش الذي يدور بين الطرفين، ولا يليق تصغيرها على هذا النحو. وسأبقى - مع محبتي للجميع - مع معرض موحد فعّال، يحفظ لبيروت دورها». هذا المطلب تصرّ عليه رنا إدريس أيضاً التي تطالب بأن «تمارس دور النشر ضغطاً، باتجاه العودة إلى معرض واحد. ما حصل بشع ومزعج، وهو ليس لمصلحة الناشر ولا القراء». لنسرين كريدية الرأي عينه، عادة «أننا مع بعض الدور الأخرى على علاقة جيدة بالطرفين، وسنلعب دور حمامة السلام. فمن جهة هناك نقابتنا، ومن جهة أخرى النادي الذي لنا علاقة تاريخية معه، وعلينا أن نسعى معهما لتوحيد المعرض، فليس منطقياً ما يحدث».

البداية الطيبة للمعرض الحالي، شجعت على إعلاء الصوت لإنهاء الانقسام، وإن كان الناشرون يعدون أن الصيغة الحالية لمعرض بيروت بحاجة إلى تطوير مستمر.

ويتميز المعرض في دورته الحالية، بكثافة الأنشطة. فقد خُصص العديد من الندوات لمناقشة الكتب الجديدة. وثمة جلسة للاحتفال بمئوية كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وأخرى لقراءات في شعر نزار قباني بمناسبة مرور مائة عام على ولادته. كذلك هناك «احتفالية بيروت عاصمة الإعلام العربي»، وندوة حول «المفاعيل القانونية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي»، ويتحدث عبيدو باشا عن كتابه الجديد «مئوية ولادة عاصي الرحباني»، وندوة حول «الخيار الاقتصادي البديل». ثمة يومياً ستة أنشطة في قاعتي المحاضرات وحدهما، فضلاً عن التواقيع والبرامج التي تنظمها الدور في أجنحتها.

وبما أن فلسطين هي موضوع الساعة، فقد نُظمت أمسية شعرية بعنوان «فلننصر غزة بالشعر والموقف»، شارك فيها الشعراء: جهاد الحنفي، وجمانة نجار، ووجدي عبد الصمد، وعماد الدين طه، وميراي شحادة، ومردوك الشامي، وعصمت حسان. وقد ألقيت مجموعة من القصائد التي تُحاكي فلسطين وجراحها ومعاناتها وبطولات مقاوميها والجرائم التي ارتكبها الاحتلال بحق أبناء غزة.

وضمن الأنشطة أربعة معارض، بينها معرض لأغلفة كتب تخص أنيس منصور ونجيب محفوظ وخيري شلبي، رسمها الفنان المصري التشكيلي حلمي التوني، وجمعها اللبناني عبودي أبو جودة، ومعرض آخر للفنان معتزّ الصواف، وثالث لطلاب الجامعات الذين فازوا بمسابقة لرسم أجمل لوحة تجسد علاقتهم بالكتاب، ورابع للفنان كميل حوّا.

يستمر المعرض حتى الثالث من الشهر المقبل، وحركة الزوار مرهونة بهدوء الحال.



هل الشعر والفن قابلان للتوريث؟

إبراهيم اليازجي
إبراهيم اليازجي
TT

هل الشعر والفن قابلان للتوريث؟

إبراهيم اليازجي
إبراهيم اليازجي

لم تأنس أمة من الأمم بالشعر وتطرب له وتقدِّمه على ما سواه من الفنون كما هو حال العرب الأقدمين الذين احتفوا بولادات الشعراء وحوَّلوها إلى أعراس للبهجة والانتشاء باللغة والشعور بالظفر. وقد أكد أبو عثمان الجاحظ في كتابيه «البيان والتبيين» و«الحيوان» أن العرب يتميزون عن سائر الأمم بكونهم مفطورين على الشعر، وبأنه «مقصور عليهم بالبديهة والسليقة». ولعل أكثر ما يؤكد التصاق العرب بهذا الفن منذ القدم، هو اهتمام غالبيتهم العظمى، ليس فقط بقراءة الشعر وسماعه وحفظه، بل بنظمه وتأليفه، وصولاً إلى حمل لقبه الأسمى بأي طريقة أو ثمن.

وإذا كان هاجس الانتساب إلى أندية الشعر المأهولة بكل صنوف «الشياطين»، ما انفك يتحكم بكل عربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذا، فإن هذا الهاجس يرتفع منسوبه إلى الحدود القصوى لدى أبناء الشعراء، وبخاصة الكبار منهم، حيث يرى هؤلاء أنهم الطرف الأولى بالجلوس على كرسي الكتابة الشاغر ومتابعة المسيرة السلالية المباركة.

على أن ما تقدم لا يعني بأي حال إنكاراً مطلقاً لمبدأ الوراثة الشعرية، والفنية على نحو عام، خصوصاً أن الباحثين والمتخصصين في علوم الجينات، يؤكدون أن ما يرثه الأبناء عن الآباء والأمهات والأسلاف، لا يقتصر على ملامح الوجوه وبنية الأجساد وطبيعة الأمراض، بل تتسع دائرته لتشمل الطبائع والميول الفطرية والمواهب العلمية والأدبية. لكنَّ غالبية الأبناء يغضُّون النظر عن كون الحقيقة نسبيةً وحمَّالةَ أوجه، فيعمدون إلى إسباغ لقب «الشاعر» على أنفسهم، بمجرد إهالة التراب على ضريح الأب الراحل، ليس لأنهم كانوا عاجزين عن فعل ذلك في ظل حضوره الطاغي فحسب، بل خوفاً من أن يسبقهم إلى إعلان التنصيب أخٌ أو أخت «مُضاربان»، أو منافسٌ آخر متنطح للوراثة.

ومع ذلك فإن من الظلم بمكان الإنكار على الأبناء الموهوبين، حقهم الطبيعي في تحقيق ذواتهم وإنجاز مشروعهم الإبداعي الخاص، لمجرد أنهم وُلدوا لآباء شعراء أو أمهات شاعرات، رغم أن وقائع التاريخ تؤكد ندرة الحالات التي كانت فيها المواهب موزَّعة بالتساوي بين الآباء والأبناء. فحيث تمتع الآباء بموهبة متَّقدة النيران بدا أبناؤهم كأنهم يتغذّون من فتات الجمر السُّلاليّ قبل تحوله إلى رماد. وقد يكون العكس في المقابل هو الصحيح، بحيث لم يكتفِ بعض الأبناء بتلقف جينات آبائهم، بل إنهم أمعنوا في تجاوزهم إلى الحد الذي جعل من قامة المورِّث الإبداعية، شديدة القِصر إزاء قامة الوريث.

واللافت أن النقد العربي القديم لم يُغفل ظاهرة انتقال الشعر بالوراثة من الأب إلى الابن أو الحفيد، لا بل إن ابن سلام الجمحي يتحدث عن بعض الأبناء الذين كانوا ينظمون أشعاراً وينسبونها إلى آبائهم بعد رحيلهم، كما فعل ابن متمم بن نويرة. كما اشتكى الأصمعي من الأمر نفسه حين اعترف بأنه وجد صعوبة بالغة في جمع أشعار الأغلب العجلي، لأن أبناءه ظلوا «يزيدون في شعره حتى أفسدوه». كما تحدث ابن رشيق عن الأسر التي توارثت الشعر أباً عن جد على امتداد أجيال ستة.

والواقع أن الحالة الأكثر رسوخاً في ذاكرة العرب الجمعية هي حالة زهير بن أبي سلمى وابنه كعب، ليس فقط من زاوية الموهبة الشعرية التي ورثها الثاني عن الأول، بل لأن كلاً من الأب والابن استطاع أن يخلد اسمه وشعره عبر الزمن، ودون أن يكون كعب نسخةً مطابقةً من أبيه. صحيح أن بعض النقاد الأقدمين وضعوا زهير في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وأشاد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) وبعض الصحابة بمعلّقته الميمية، لما تتضمنه من نبرة حكمية ونزوع أخلاقي، فيما ذهب آخرون إلى تصنيف الابن على أنه واحد من شعراء الطبقة الثانية. لكن الفارق بين الشاعرين لم يكن واسعاً بأي حال. ومع أن كعباً لم يكن نسخة مطابقة من أبيه، بل نحا باتجاه قصيدة أكثر ليونة، وأقل احتفاءً بالمهارة البلاغية والصنيع اللفظي، إلا أن تشبيهه بأبيه من البعض، كان بالنسبة إليه أمراً باعثاً على الاعتزاز. وقد قال في ذلك:

أقول شبيهات بما قال عالماً

بهنَّ ومن يشبهْ أباه فما ظَلَمْ

ورغم أن كعباً لم يكن الوريث الوحيد لموهبة أبيه، بل شاركه في ذلك أخوه بُجير وابنه عقبة وحفيده العوّام، فإن نصيبه من الموهبة كان أكبر بكثير من نصيب الآخرين، الذين لم تغادر قصائدهم خانة النظم الباهت والخيال الشحيح. وما يجدر التوقف عنده أيضاً هو أن زهير الذي اكتشف باكراً موهبة ابنه، حاول أن يُثنيَه عن نظْم الشعر، لا غيرةٍ منه أو الخوف من تجاوزه إياه، بل مخافة أن «يتسفَّل ويأتي بالضعيف الذي يشوّه مجد الأسرة». إلا أنه إزاء إصرار ابنه على النظم لم يجد بُداً من تثقيفه وتهذيب لسانه وتزويد شاعريته بما يلزمها من أسباب الرعاية والنصح والاهتمام، كما كان يخرج به إلى الصحراء فيُسمعه بيتاً أو شطراً من بيت ويطلب إليه أن يكمله، إلى أن نضج واشتد عوده. وهو ما يقودنا إلى الاستنتاج أن الموهبة الموروثة لا تكفي وحدها للبلوغ بصاحبها إلى شاطئ التفرد الإبداعي، بل يجب أن تظل مضفورة بالإرادة والمشقة والكدح المعرفي.

لكنَّ نموذج الشاعر الكبير الذي يلد شاعراً يبزّه في الموهبة والتفرد، كما هو حال زهير وكعب، ظل نادر الحدوث، ولم يكن قابلاً للتعميم، بحيث يكفي أن نلقي نظرة متأنية على تاريخ الشعر العربي كي نتأكد من هذه الفرضية. فالقليلون من المهتمين بالأدب يعرفون أن الابن الأكبر لأبو تمام، كانت لديه مَلَكَة نظم القريض، ولكنه لم يكن يجرؤ في ظل الحضور الطاغي لأبيه على إفشاء الأمر على نحو واسع. حتى إذا رحل الأب انبرى تمّام للحلول مكانه، ممتدحاً والي خراسان عبد الله بن طاهر، الذي اعتاد أبوه مدحه، بقصيدة جاء فيها:

حيّاك رب الناس حيّاكا

إذ بجمال الوجه روّاكا

بغداد من نورك قد أشرقتْ

وأورقَ العود بجدْواكا

ورغم أن ابن طاهر لاحظ ما في شعر تمام من ركاكة، فقد وصله ببعض المال قائلاً له وقد آنس في سلوكه شيئاً من الطرافة: «لئن فاتَكَ شعر أبيك فلم يفُتْك ظُرفه».

وقد تكون تجربتا الشاعرين اللبنانيين ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم في العصور المتأخرة، هي الأقرب إلى تجربة سلفيهما زهير وكعب، حيث لم يكتفِ الابن بوراثة الأب على المستوى الشعري، بل عمل جاهداً على رفد موهبته الفطرية بكل أسباب الثقافة والتحصيل المعرفي وإتقان كثير من اللغات، وهو الذي تمكنت قصيدته الشهيرة «تنبَّهوا واستفيقوا أيها العربُ»، من أن تحرك الوجدان العربي بأسره في مطلع عصر النهضة.

على أن مسألة الوراثة الإبداعية أخذت مع رائدة الحداثة نازك الملائكة منحًى مختلفاً عمَّا سبقها. فنازك التي ورثت موهبة الشعر عن أبيها وأمها، لم تقبل الإقامة في كنف النَّظْم الباهت للطرفين، بل ذهبت بعيداً في المغامرة، لا لتنقلب على الأبوّة الشعرية البيولوجية فحسب، بل على أبوّة العمود الخليلي ذي الطابع الذكوري برمته. وحين عبّرت في قصيدة «الكوليرا»، التي تتكرر فيها مفردة الموت بشكل ملحوظ، عن إصرارها على المضيّ في مغامرة التجديد، لم يُثْنِها عن مغامرتها تلك تعليق أبيها، صادق الملائكة، على القصيدة بقوله ساخراً:

لكل جديد بهجةٌ غير أنني

رأيت جديد (الموت) غير جديدِ

وإذا كان لي أن أخلُص إلى القول بأن العبقرية الشعرية والفنية هي، عدا استثناءات قليلة، عاقرٌ لا تنجب، أو غيرُ قادرة على استيلاد عبقرية مماثلة، فليس ذلك افتئاتاً على الحقيقة، بل هو استنتاج تؤيّده عشرات الأدلة والشواهد. ولعل أفضل تأكيد لصحته، هو ما جاء على لسان عبد الله الخوري في رثاء والده الأخطل الصغير، حين خاطب أباه الراحل في حفل تكريمه بالقول:

لم يخلّف شاعرٌ في الأرض شاعرْ

عاقراتٌ في رُبى البحر المنائرْ