عبد السلام بنعبد العالي: التعدّد خاصية الهوية... والانفتاح سمة الفكر والوجود

المفكر المغربي ينادي بإخراج السؤال الفلسفي إلى ساحة الانشغال اليومي

عبد السلام بنعبد العالي: التعدّد خاصية الهوية... والانفتاح سمة الفكر والوجود
TT

عبد السلام بنعبد العالي: التعدّد خاصية الهوية... والانفتاح سمة الفكر والوجود

عبد السلام بنعبد العالي: التعدّد خاصية الهوية... والانفتاح سمة الفكر والوجود

يتميز الكاتب والمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي بانشغاله بفكر الاختلاف؛ فعليه تتأسس ممارسته الفلسفية، كما انشغل بسؤال الكتابة، مُعلياً من شأن التأمل والنقد والشك، ما جعله مقروءاً بشكل أوسع. ترجم لعشرات المفكرين والمبدعين والفلاسفة؛ منهم بورديو، وبارت، ودولوز، والعروي، مواصلاً شغفه بالفلسفة وتجريب مفعولها في اللغة. في كل هذا لا ينطلق بنعبد العالي من مسلَّمات، ولا يريد أن ينتهي إلى خلاصات وإجابات، بل غايته طرح الأسئلة. هنا حوار معه حول هموم الفلسفة والكتابة والأوهام المعاصرة التي ينادي بمقاومتها.

* يرى بعض الدارسين أنك أخرجت الفلسفة من خطابها المتعالي المنشغل بالمقولات الكبرى، وأنت تتحدث عن الفلسفة وكرة القدم، والطبخ والنحافة والموضة والموبايل والكذب وغيره... فهل تتفق معهم على ذلك؟

- ربما ينبغي أن ننطلق من ملاحظة أولى؛ وهي أن الفلسفة لم تكن دوماً تحيا «في برج عاجي». لا نحتاج إلى التذكير هنا بشخصية سقراط، الذي كان يجوب أنحاء «المدينة»، ولا يبرح أغوار أثينا كي يحاور الشباب و«يزعجهم»، بل يُحرجهم، وليواجه أفراداً احترفوا «فن الكلام». قد يقال إن هذا لم يكن ممكناً إلا لأن الفلسفة ترعرعت في مخاض «التجربة السياسية» عند الإغريق. صحيح، ولكن ينبغي ألا ننسى أنها لم تكن غائبة، حتى في غمار «التجربة الطبيعية»، والتي فيها نتصور الفيلسوف مشاركاً، معنيّاً بالتحولات الكبرى التي ستُفتَح أمام المعرفة وأشكالها التقنية (ولا أقول تطبيقاتها؛ لأن التقنية ليست مجرد تطبيق لنظرية). فيلسوف مثل ديكارت، لم يكن غائباً عما سيؤسس للحداثة العلمية، ومن ثم للحداثة الفلسفية. قد يردّ علينا بأن الفلسفة سرعان ما انعزلت، فغدا الفيلسوف «أستاذ جامعة». الشيء الذي سيترسخ مع الفلسفة الألمانية، لكن، حتى ها هنا ينبغي ألا نتصور الفلسفة غائبة عن التحولات الكبرى، والطفرات الصناعية والعلمية والسياسية، فهؤلاء الفلاسفة الذين نقول عنهم إنهم كانوا منحصرين داخل أسوار الجامعة، كانوا في علاقة وطيدة وعميقة مع ما يجري، لستُ مضطراً إلى أن أعطي مثال ماركس، بل أكتفي بأن أسوق من نعتوا بـ«المثاليين» كحال كانط وهيجل.

هذا ليس فقط دفاعاً عن الفلسفة، وإنما هو فحص لما انتقل إلى مدارسنا وأصبح يدرَّس كـ«مادة الفلسفة». لا داعي لأن أعدِّد المعوقات التي واجهت هذا الانتقال، فأشير إلى خصوصية الممارسة الفلسفية في العالم العربي، وما تعرفه من صعوبات تتمثل أساساً في غياب الدرس الفلسفي في كثير من معاهدنا التعليمية، وعدم مواكبة برامجنا لمستجدّات ذلك الدرس، فضلاً عن عدم التوفر الكافي لأمهات النصوص بلغة متيسرة، الأمر الذي يضع عراقيل في وجه ممارسة الفلسفة تفكيراً وتدريساً، وربما كتابة وتأليفاً.

هذا ما جعلني أختط مساراً «يقترب من الممارسة الفلسفية بالابتعاد عنها»، لا لإخراجها من الدرس المدرسي والجامعي فحسب، بل لإضفاء نوع من التشويق على لغتها وموضوعاتها، ومحاولة إخراج السؤال الفلسفي إلى الساحة العمومية، والانشغال اليومي.

* هل هي دمقرطة لفعل التفكير...؟

- لنقل دمقرطة السؤال، بينما يبقى الفكر، كما تُعرِّفه الحداثة الفلسفية بأنه «أعدل الأشياء قسمة بين الناس».

* ومع ذلك تقع الفلسفة على جبهة الرفض، باعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة والممانعة «ضد الراهن»، كيف للفكر أن ينفصل عن الراهن الذي تُغرقنا فيه وسائل ووسائط الإعلام مثلاً، بينما يستدرجه الراهن إليه، وإن اقترب منه نقدياً؟

-قال فوكو مرة عن الأيديولوجيا إنها ستدخل من النافذة إن أنت طردتها من الباب، فعندما كنا نقابل بين الفلسفة والأيديولوجيا، كنا نفترض مقدّمات أساسية؛ أولها أنه ليس هناك كوجيتو أيديولوجي. لا تقدّم لك الأيدولوجيا نفسها على أنها كذلك. لا تقول: أنا أيديولوجيا، إنها تتخذ دوماً صيغة اتهام للآخر: أنت أيديولوجيا، لذلك فحتى في حال فضحها كأيديولوجيا، سرعان ما تتقنع وتتخفّى، لذلك فهي محتاجة إلى فضح لا يكلّ، أو، كما تقول، ممانعة غير مهادنة. أما عندما دخلت الوسائط الجديدة على الساحة، ولم يعد الصراع الفكري يقتصر على أوهام الأيديولوجيا، فإن الأمور «تشبكت» مع الشبكة العنكبوتية، التي تجعل من الواقع واقعاً فائقاً، كما بيّن بودريار.

* ألّف جاك دريدا كتاباً بعنوان «أن تفكر هو أن تقول لا». وقد استعرتَ هذا العنوان لتجعله عنواناً لمقالة جديدة لك، لكنك استحضرت هذا المبدأ الفلسفي «التفكيكي» منذ عقود، وأنت تجعل من الفلسفة فكراً للاختلاف والانفصال بدل الاتصال. لكن، كيف يمكن لفكر الاختلاف والانفصال أن يحافظ على استمرارية التراكم الفلسفي والفكري، أم أنك تقول لا للتراكم نفسه، وعلى الفلسفة التي تنادي بها أن تقول لا للفلسفة نفسها؟

- ستسمح لي بأن أطيل في الجواب عن هذه النقطة، وربما على حساب غيرها، وذلك استبعاداً لمفهوم ساذج عن الاختلاف يجعله مجرد تبعثر. أعتقد أن علينا أن نستحضر أولاً وقبل كل شيء، المعاني المتعددة التي كان مفهوم الاختلاف يعنيها عندما غدا «مفهوماً» فلسفياً على يد أبي الجدلية هيغل. لتوضيح مفهومه عن الاختلاف، يبدأ هيغل باستبعاد موقف رائج يدعوه هو «الموقف الساذج عن الاختلاف» أو «الموقف الاختباري». يرى هذا الموقف أن الأشياء المتباينة تختلف عن بعضها اختلافاً بحيث لا يبالي أحدها بالآخر indifférente، ما دام كل منها مطابقاً لذاته مكتفياً بها. ما «يقف» عنده الموقف الاختباري من الاختلاف هو التنوّع. في هذا «الاختلاف الساذج» يغدو الكائن مُجزّأً إلى عناصر متعددة، وأطراف مبعثرة (خارج) بعضها عن بعض. إن هذا الاختلاف لا يرقى، حتى إلى مستوى التعارض، وبالأحرى التناقض. فالتنوع والتبعثر لا ينتعش إلا إذا تلقت الأشياء التي تشكّله السلب أو النفي، الذي هو سرّ الحركة التلقائية عند هيغل. والسلب لا يكون إلا (بجرّ المخالف نحو آخره لا بإبعاده عنه). هذا الجرّ هو ما يميز الاختلاف الأنطولوجي عن مجرد «التباين الساذج».

ينبغي إذن أن نميز بين مجرد «التباين الساذج» وبين «الاختلاف». الاختلاف يضعنا أمام متخالفين مُبعداً أحدهما عن الآخر، (مقرّباً بينهما في الوقت نفسه)، أما «التباين الساذج» فإنه يَعرضهما منفصلين متباينين، بينهما تباين وبَوْن. الاختلاف يقوم «في» الهوية، أما التباين فيحصل بين «هويات» متباعدة وكيانات منفصلة. الاختلاف «مفهوم» أنطولوجي، وليس مجرد مفهوم أنثروبولوجي إناسي، إنه ما بفضله يتحدد الكائن بوصفه زماناً وحركة، وما يصبح به التعدّد خاصية الهوية، والانفتاح سمة الفكر وسمة الوجود.

ما أريد أن أستخلصه من كل هذا هو أن القول بالانفصال لا يعني التبعثر، كما أن التفكيك لا يعني العدمية. أكاد أذهب عكس ذلك وأقول: هناك ضرورة للتفكيك؛ لأن هناك فيضاً من الحقائق، وربما أكثر مما يلزم.

* كتبتَ عن الكتابة، اشتغلتَ على فعلها نفسه، مطوراً ما أسّس له رولان بارت ودريدا وموريس بلانشو وكيليطو، وآخرون في هذا الباب، هل يمكن القول إنها دعوة إلى التفكير في التفكير نفسه، نقداً وتفكيكاً له، بعدما ظل التفكير الفلسفي، ردحاً من الأزمنة واثقاً في خطاباته ومفهوماته ومقولاته، انطلاقاً من اعتقاد مفرط في المقدمات النظرية والصرامة المنهجية.

- ربما لا يسمح المقام ولا المجال لتفصيل هذه النقطة، والحديث عن علاقة الفلسفة بالأدب، أو، كما تقول مع بارت، علاقتها بالكتابة. ما دمت قد تحدثتَ عن التفكيك، فيمكن أن نقول باختصار إن مجال الكتابة يسمح لنا بأن «نمارس الفلسفة» ونفكك كثيراً من الثنائيات الميتافيزيقية، لعل أهمها ثنائيات معنى/مبنى، حقيقة/مجاز، أصل/مشتق. ولا أخفيك هنا أن اهتمامي بقضايا الترجمة ربما مكّنني من الانكباب على بعض تلك الثنائيات، وثنائية أصل/نسخة، على وجه الخصوص، فلست أهتم بالترجمة بحثاً عن «نظرية في الترجمة»، وإنما ممارسة للفلسفة، وتفكيكاً لأزواج الميتافيزيقا.

* عن مستقبل التفكير، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينوب عنا في التفكير. وعموماً، ينسى الذين ينكرون على الذكاء الاصطناعي ذلك أنه مِن صنع الفكر الإنساني نفسه، وهو مبرمج من لدن هذا الإنسان، وكأنه يدعوه إلى التفكير بدلاً منه ونيابة عنه؟

- إن كان لا مفر من أن يقارن الإنسان نفسه بمنتوجاته، فأنا أشعر بأنني متفوق على هذا الذكاء (الذي أستفيد منه وأستخدمه)، لا لأنني أكثر ذكاء منه ولا أغزر منه معرفة، وإنما فقط لأنني أتميّز عنه بقدرتي على النسيان.

* الفلسفة عندك فن، فن للعيش، كما ناديت بذلك. دعْني أطرح السؤال مقلوباً: كيف يمكن أن نعيش هذا الفن، أن نحيا فلسفياً على الأرض؟

- كي لا أتجاوز المساحة التي حددتها لي للإجابة عن أسئلتك، أقول باختصار شديد: أن نعيش بصحبة الشك.

* من كونديرا، استعرتَ مفهوماً آخر هو «البلاهة» لتوصيف ما يطبع عالم اليوم وخطاباته. هل مردُّ ذلك إلى تكرار الخطابات الجاهزة والمسكوكة فقط، أم لأنه يردد اليقينيات والمسلَّمات والمصادرات... بينما الفكر عندك خطاب غير جاهز وغير نهائي، منطلق وغير مطلق، منسرح ومتوثب؟

- تحدثنا عن علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا. الفلسفة اليوم لم تعد تكتفي بمقاومة الأوهام ومكرها، وإنما تنصبّ على ما يدعوه دولوز الترهات والحماقات وأشكال البلاهة La bêtise، مقاومة أشكال البلاهة ربما لا تكفيهما رصانة العقل الديكارتي، ولا حتى صرامة النقد الأيديولوجي وشراسته، وإنما تحتاج، ولنقل فضلاً عن ذلك، لعقلانية ساخرة تقف عند ومضات الحياة المعاصرة، لا لتترصد أخطاء المعارف، ولا لتكتفي بفضح أوهام الأيديولوجيات، وإنما لترصد «منطق الخلل» الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها، ولتفضح اللافكر الذي يتخفى من ورائها.

* أخيراً، ماذا عن مفكر اسمه عبد السلام بنعبد العالي؟

- لنقل إنني لا أنفكُّ أبتعد عنه، ربما اقتراباً منه.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.