«ميدوزا الحِجْر» مخلوقة مرعبة خصلاتُ شعرها من الأفاعي دائمة الفحيح

تحدق في عيني الناظر إليها وتلعن مَن ينتهك حرمة الموقع الذي تحرسه

«وجه ميدوزا» الزاجر كما يظهر على 4 واجهات في الحِجْر
«وجه ميدوزا» الزاجر كما يظهر على 4 واجهات في الحِجْر
TT

«ميدوزا الحِجْر» مخلوقة مرعبة خصلاتُ شعرها من الأفاعي دائمة الفحيح

«وجه ميدوزا» الزاجر كما يظهر على 4 واجهات في الحِجْر
«وجه ميدوزا» الزاجر كما يظهر على 4 واجهات في الحِجْر

يحوي موقع الحِجْر في محافظة العُلا سلسلة من الحجرات الجنائزية المنحوتة في الصخور، تعود إلى مملكة الأنباط التي قامت قديماً في شمال الجزيرة العربية. تضم مجموعة من 36 مقبرة تتميز بحلل زخرفية منقوشة، تعتمد على مجموعة من العناصر الفنية تشكل أساساً لجماليّتها، منها وجه آدمي على شكل قناع، يُشابه في تأليفه ما يُعرَف بـ«وجه ميدوزا» في قاموس علم الآثار.

يظهر هذا القناع في صيغة مفردة على واجهات أربع من الحجرات الجنائزية المنحوتة في الجبال المحيطة بسهل الحِجْر. نراه بشكل مجرّد على قبر متواضع يحتلّ موقعه بين سلسلة من القبور تجاور جبل الخريمات، جنوب غربي الحِجْر. يزيّن واجهة هذا القبر شريطان أفقيان تعلو كل منهما سلسلة من المثلثات الهرمية المتساوية، وبين هذين الشريطين، يمتدّ شريط ثالث يظهر في وسطه القناع بين قرصين ورديين يحوي كل منهما ستّ بتلات، وتبدو سماته أشبه بسمات المسخ. الوجه أفطح، مقطّب الحاجبين... الجبين عريض، العينان غائرتان، الأذنان حلزونيتان، والذقن ممحو... الأنف أفطس، الشفتان غليظتان، وهما مفتوحتان، وتكشفان عن أسنان نابية.

يتكرّر هذا القناع الوحشي بشكل شبه مطابق على واجهة قبر يقع إلى الشرق من منطقة الخريمات، على مقربة من قبر كبير يُعدّ المعلم الأشهر في الحِجْر، ويُعرف بـ«قصر البنت». يحتل القناع وسط القوصرة التقليدية المثلثة التي تعلو باب القبر، ويظهر هنا تحت نسر جامع يقف على منصة شُيّدت فوق قمة هذه القوصرة المثلثة. يحدّق المسخ بعينيه الفارغتين في الناظر إليه، ويزيد من طابعه الوحشي حضور ثعبانين ملتويين متواجهين يحيطان به من الجهتين، كأنّهما جزء لا يتجزّأ منه. تغيب أذنا الوجه الوحشي، ويحلّ مكانهما رأسا الثعبانين الممتدين بشكل متوازن في زاويتي القوصرة المثلثة، كأنهما صورة واحدة تنعكس بشكل مزدوج. يتحول وجه المسخ المتجهّم إلى وجه آدمي ذي شعر أفعواني، ويتكرّر حضور هذا الوجه مع اختلاف في التفاصيل على واجهتين من واجهات القبور المنحوتة التي تقع كذلك ضمن سلسلة القبور المحيطة بـ«قصر البنت».

يظهر هذا الوجه لثالث مرة على واجهة قبر يشابه في عناصره المعمارية الحجرات الكبرى التي تقع ضمن هذا الموقع من الحِجْر. ويحمل هذا القبر نقشاً يشير إلى أن بناءه يعود إلى عيد بن عبيد الذي شيده له ولبنيه وذريته. يستقر القناع وسط مثلث القوصرة، تحت نسر ينتصب فوق هذا المثلث، وهو هنا على شكل وجه دائري تعلوه قلنسوة هلالية. الحاجبان مقطّبان، العينان قرصان فارغان، والفم شفتان ملتويتان نحو الأسفل. من موقع الأذنين، ينطلق ثعبانان متواجهان يحتلاّن مساحة زاويتي الثلث.

يظهر القناع لرابع مرة وسط القوصرة المثلثة التي تعلو باب واجهة قبر متواضع يعود إلى سيدتين، كما تؤكد الكتابة المحفورة الخاصة به. ملامح الوجه ممحوة، غير أن سماته تبدو أنثوية، كما توحي تسريحة الشعر الذي يكلّل الرأس الدائري. يعلو هذا الشعر ثعبانان متقابلان متّحدان يشكّلان ضفيرتين متوازيتين، تنسدلان على شكل منديل يحتل كل طرف من طرفيه زاوية من زاويتي المثلث.

تعود هذه الوجوه الزاجرة والرادعة إلى القرن الميلادي الأول، وتبدو وظيفتها واحدة، وهي الوظيفة التي تتضح عبر الكتابات المنقوشة بعناية على واجهات عدد كبير من قاعات الحِجْر الجنائزية. تدعو هذه الكتابات إلى عدم المس بهذه القبور، وتؤكّد أنها تعود حصرياً إلى أصحابها، وأن ملكيّتها ثابتة، وأنه لا يجوز أن تُنقل «عن طريق الإهداء الاختياري، أو عن طريق الإهداء الاضطراري». كما أنها تصبّ اللعنات على كل من ينتهك هذه الدعوات المثبّتة في إطارات تذكارية كأنّها صكوك قانونية.

على الصعيد الفني، تشابه هذه الأقنعة الزاجرة الوجه الذي يُعرَف باسم «ميدوزا»، و«ميدوزا» في الروايات اليونانية القديمة مخلوقة فظيعة مرعبة، خصلات شعرها من الأفاعي دائمة الفحيح، لها نظرات تحوّل كل من ينظر إليها إلى حجر. وحده البطل الإغريقي بيرسيوس نجح في مواجهتها والفتك بها؛ إذ نظر إلى صورتها المنعكسة على درعه المصقولة، ولم يحدّق فيها مباشرة، فنجا من نظرتها القاتلة، ثم قطع رأسها بضربة من منجله، ووضعه في مخلاة، وطار به، واستخدمه في صد أعدائه والتغلب عليهم، ثم أهداه إلى المعبودة أثينا، فثبّتته على درعها، وعُرف هذا السلاح بـ«الدرع الرهيب الذي يرفرف عليه الرعب مثل الإكليل»؛ حامل الرأس «العملاق المتجهم، المتشكّل من الخوف والذعر»، كما كتب هوميروس في الكتاب الخامس من «الإلياذة».

دخل «وجه ميدوزا» بشعره الأفعواني الرهيب ونظرته الزاجرة عالم الفن الإغريقي منذ القرن السادس قبل الميلاد... وتعدّدت صوره على مر العصور

دخل «وجه ميدوزا» بشعره الأفعواني الرهيب ونظرته الزاجرة، عالم الفن الإغريقي منذ القرن السادس قبل الميلاد، وتعدّدت صوره على مر العصور، وأضحت مرادفة للوجه الرادع الحامي، وهو المعنى الذي يشير إليه بشكل مباشر اسمها اليوناني، بمعنى «الحارسة» و«الحامية». ورث الرومان هذا الوجه، وتبناه عن طريقهم الأنباط، كما يشهد كثير من آثارهم الفنية. في البتراء، عاصمة مملكة الأنباط، يظهر «وجه ميدوزا» على طرفي الإفريز، يعلو ما يُعرَف بـ«ديوان الأسد»، كما يظهر في عدد من القطع المتفرقة. على بعد 100 كيلومتر شمال البتراء، في موقع خربة الذريح الذي يقع بمدينة الطفيلة، عُثر على وجهين يمثّلان «ميدوزا». كما عُثر على وجهين مشابهين في موقع خربة التنور، في الجهة الشمالية من محافظة الطفيلة.

تتبع هذه الوجوه الأردنية بشكل عام النموذج الروماني التقليدي، ويتجلّى هذا النموذج عبر تموج خصلات الشعر الكثيف الذي عُرفت به «ميدوزا»، وجعل منها هذا «الوحش الأفعواني الشعر» كما وصفها الشاعر أوفيد في الكتاب الرابع من ديوان «التحولات». في المقابل، تخرج وجوه الحِجْر عن هذا السياق، وتتميّز بتأليفها غير المعهود، ويتمثّل هذا التأليف في حضور الثعبانين الملتويين اللذين يحيطان بالوجه من الجهتين، وفقاً لنسق نادر قلّما نجد ما يُشبهه في القطع الفنية الكثيرة التي مثّلت «ميدوزا» بين القرنين السادس قبل الميلاد والأول الميلادي.


مقالات ذات صلة

سردية ما بعد الثورات

كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون 3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

3 قطع برونزية من موقع مليحة في الشارقة

أسفرت عمليات التنقيب المتواصلة في موقع مليحة الأثري التابع لإمارة الشارقة عن العثور على مجموعات كبيرة من اللقى المتعدّدة الأشكال والأساليب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون «الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

«الشارقة الثقافية»: سيرة التجاني يوسف بشير

صدر أخيراً العدد الـ«99»؛ يناير (كانون الثاني) 2025، من مجلة «الشارقة الثقافية»، وقد تضمن مجموعة من الموضوعات والمقالات والحوارات، في الأدب والفن والفكر

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
ثقافة وفنون باقر جاسم محمد

نقد النقد بصفته خطاباً فلسفياً

شهدت مرحلة ما بعد الحداثة صعودَ الكثير من المفاهيم والمصطلحات النقدية والثقافية والسوسيولوجية، ومنها مفهوم «نقد النقد»

فاضل ثامر
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة
TT

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة

كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول: «أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة»، كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على رؤية ما لا يُرى.

أمثلةٌ كثيرة تصلحُ استشهاداتٍ للضدّ النوعي للشاعر «المصنوع من مادّة اللغة». أظنُّ أنّ بورخيس يتقدّمها باستحقاق كامل حتى صارت الإشارة إلى نمط «الكتابة البورخيسية» توصيفاً للكتابة المتقشّفة لغوياً، التي تقود عقل القارئ نحو الأفكار التي يسعى الكاتب أو الشاعر لتمريرها. لن تتفق الكتابة القائمة على الملاعبات اللغوية أو المصارعة المؤسّسة على تشكيل تراكيب لغوية معقّدة في أن تكون بديلاً عن جماليات الأفكار الرفيعة. ربّما - وأقول ربّما - كانت هذه الإغواءات اللغوية لدى الكاتب مقاربة تعويضية عن فقر الأفكار. الأمثلة في هذا الشأن كثيرة، ولكلٍّ منّا أمثلته وتجاربه ورؤاه.

كلّنا كائنات لغوية، وكلّنا مصنوعون من مادة اللغة. هذه حقيقة نعيشها كلّ يوم وليست إعلاناً يتسربل ببلاغة مقنّعة تسعى لتمرير رسالة مضمرة بالفائقية الإبداعية. يمكن محاججةُ بطلان هذه المقولة من أوجه كثيرة أوّلها المحاججة الفلسفية - الوجودية. اللغة منتَجٌ ينشأ عن علاقات تفاعلية دماغية عنوانها الأكبر: الوعي Consciousness. الوعي يتقدّم على اللغة، وبمعنى آخر: الأفكار تتقدّم على اللغة. الوعي وقدرته المتفرّدة في تخليق الأفكار خصيصة عالمية وليست محلية أو جماعاتية مثل اللغة. صانعُ الأفكار يتقدّمُ على الكائن المتلاعب باللغة، ومن يرى الشاعر محض كائن يجيد التلاعب الحرّ والمتدفّق والمدهش بعُدّته اللغوية يبخسُ وظيفة الشاعر إلى حدود معتلّة. الشاعر يستخدم اللغة وسيلة لتخليق أفكار ورؤى يرادُ منها كسرُ قشرة الواقع الصلب والإطلالة على عوالم ميتافيزيقية غير مختبرة لإضفاء الدهشة والفتنة على عالمٍ يقتله الملل وضيق حدود التجربة الحسية. الغريب أنّ هناك من يسعى لجمع الفيلسوف مع الشاعر في أنّ كليهما كائنان مصنوعان من مادة اللغة؛ لكنّ تلك حكايةٌ أخرى.

ما هو أكثر أهمية بكثير من المحاججة الفلسفية - الوجودية هي المحاججة الوظيفية: ما هي وظيفة اللغة؟ وكيف نتعامل معها؟ أهي أداة تواصلية أم غاية جمالية ونفسية تُطلَبُ لذاتها؟ في هذا السياق سأورد المثال التصويري التالي: لنتصوّرْ أنّ مواريثنا اللغوية في كلّ الفعاليات المعرفية المعروفة هي ميراث مادي محسوب بكمّ من المال. يبدو لي الكائن اللغوي (الذي يتباهى بأنّه مصنوع من مادة اللغة) وكأنّه سيأخذ نصيبه من المال ليبتاع نظيره سيارة «رولز رويس» عظيمة الفخامة. أما الكائن غير الشعري فسيوزّع ميراثه في أشكال عدّة: سيشتري عقاراً، وربّما قطعة أرض، ولا بأس من سيارة أيضاً. ما بها سيارة «تسلا» مثلاً؟ سيارة ممتازة بمواصفات رائعة وبسعر أقلّ من عُشْر سعر الرولز رويس.

هل تتخيّلون المشهد؟ مُقتني الرولز رويس سيتحوّلُ خادماً لها بدلاً من أن تخدمه هي لأنّه وضع كلّ ماله فيها. سيقلق عليها كثيراً، وسيلمّعها كل يوم، وسيخشى الخروج بها خوفاً من أن ينالها خدشٌ صغير. لن يخرج بها إلا لمشوار قصير يؤكّدُ فيه سطوته وأرستقراطيته الموهومة التي ربما تجعل منه كائناً متغطرساً. لن يجرّب قيادة سيارة أخرى طيلة حياته لأنّه منذور لوهْمٍ امتلك عقله في أنّ سيارته هي الأغلى والأجمل والأكمل والأفخم. الغريب أنّ هذه السيارة لن تأتي له بعائد مالي لأنّه يرى امتلاكها بديلاً عن كلّ عائد مهما كان عظيماً. سيظلّ كلّ حياته موهوماً بكلاسيكيتها الفائقة، ولن يفكّر بما يمكن أن يطرأ على تصميمها من تغيّرات بفعل نتائج امتحان السيارة في أنفاق الهواء Wind Tunnels وما يترتّب عليها من ضرورات تغيير التصميم بغية تقليل استهلاك الوقود ونفث أكاسيد الكربون والنيتروجين الملوّثة للبيئة.

مُقتني (تسلا) من جانب آخر يعيش تجربة مختلفة تماماً عن مقتني الرولز رويس. يتنقّلُ في سيارة عملية ممتازة لا تسمعُ ضوضاء فيها. السيارة تخدمه ولا يخدمها. صيانتها معقولة ميسّرة وبكلفة ممكنة، والسيارة بذاتها مصدرٌ لمداخيل مالية ونزهات ترفيهية لأنّ مقتنيها يستخدمها في متابعة شؤونه المالية والحياتية اليومية. لا غطرسة في الأمر بل حياة طبيعية معقولة، ومتى ما أراد صاحبها استبدالها كلّ ثلاث سنوات مثلاً فيمكن له ذلك لقاء بدلٍ مالي بسيط. تسلا ليست مثل الرولز رويس. بطارية الليثيوم المولّدة للكهرباء فيها تشهدُ تغيّرات ثورية لتحسينها وتعظيم كفاءتها كل سنة، ويمكن استبدالُ البطارية القديمة بواحدة جديدة مُطوّرة بكلفة يسيرة لا ترهق الجيب. تطوّرات الذكاء الاصطناعي وإمكانية القيادة الذاتية تشهد تجاربها الريادية الأولى عادة مع سيارة «تسلا». هل يمكن أن يحصل هذا مع رولز رويس؟

هكذا هو حال كلّ كائن لغوي، مصنوع من مادة اللغة، شاعراً كان أم كاتبا. اللغة لديه ليست سوى «رولز رويس» هي كلّ ميراثه، وقد استطاب الجلوس داخلها وخدمتها كلّ حياته. ليست كلّ ميراثه فحسب؛ هي كلّ بضاعته أيضاً. كيف تعرف هذا الكائن اللغوي؟ من نصوصه. تقرأها فتشعرُ وكأنّ كاتبها خاض نزالاً عنيفاً بالمصارعة للوزن الثقيل مع الكلمات. هو ليس كائناً مسترخياً عندما يواجه الكلمات، وحالُهُ في هذا حالُ مخرج أفلام سينمائية منحتَهُ مائة مليون دولار ونصّاً لسيناريو. ماذا سيفعل؟ سينسى السيناريو ويجعل كلّ همّه أن يقنعنا بأنّ فيلمه الذي نراه قد أنفق عليه مائة مليون من الدولارات. الإبهار والبهرجة المشهدية ستتقدّمُ بالضرورة على الأفكار في مثل هذه الأفلام. وهو ما ينفّرني من مشاهدة الأفلام ذات الميزانية الضخمة، وأفضّلُ عليها الأفلام متواضعة الميزانيات التي تتوفر على مستوى فني رفيع وأفكار غير مسبوقة.

يقترن هذا الموضوع اقتراناً عضوياً بموضوع البلاغة Rhetoric. البلاغة معضلة كبيرة وبخاصة مع العربية؛ إذ ما أسهل أن ينزلق المرء في لجّة الألعاب اللغوية الخالصة التي وسمت الكثير من تراثياتنا الأدبية. ليس الوقوع في فخّ البلاغة وقفاً على العربية. لنقارن مثلاً بين إنجليزية العصر الفكتوري وإنجليزية العصر الحالي، سنجد فروقاً هائلة بينهما. البلاغة اليوم هي بلاغة الأفكار وليست بلاغة الألعاب اللغوية، واللغة اليوم هي وسيط لتمرير الأفكار وعرضها برشاقة ووضوح من غير التباسات مؤذية. وظيفة اللغة أهمّ من الألعاب اللغوية مهما بدت جميلة مغوية، أمّا الغطرسة اللغوية فتلك قمّة جبل المأساة. الشاعر أو الكائن اللغوي، وكأي كائن اختصر كلّ قيمته الوجودية في حكاية ملحمية واحدة، سيكون من البدهي أن يرى بضاعته اللغوية أعلى مقاماً من سائر البضائع. الأخطر عندما تنقلب الغطرسة اللغوية شوفينية لغوية.

اللغة ليست لعبة ميكانو يجاهد الشاعر (أو الكائن اللغوي) في ابتداع أعداد متزايدة من الأشكال المعقّدة فيها. بساطة التراكيب اللغوية هي الأجمل من العبارات اللغوية الملتفّة الملتوية.

هل يرى البعض امتيازه الأكبر في أنّه مصنوعٌ من مادة اللغة؟ لا بأس في هذا. فليبقَ مأسوراً داخل «رولز رويس» التي يملك، وسيكون شاهداً على تقادمها حتى الاندثار. ليته يجرّب أن يطلّ برأسه خارج سيارته المتقادمة؛ فلربما سيرى سيارات «تسلا» تحلّقُ فوقه بمحرّكات تعمل بالهيدروجين أو بالكهرباء بعد سنوات قليلة قادمة.

كلنا نحب اللغة ونعشق منتجاتها الرفيعة، لكن لا معنى ولا فائدة من قضاء حياتنا ونحن ندور حول عرش اللغة الذي نحسبه مقدّساً.

اللغة بضاعة غاطسة في المعضلات الدنيوية، وجمالُها وفائدتها نتاجان مباشران لدنيويتها وكونها بضاعة يومية. اللغة المقدّسة المترفّعة عن لغات العالم لا تصلح لمعايشة البشر، ومكانها الطبيعي موضعٌ صغير يتوارى خلف واجهة زجاجية في متحف للآثار القديمة.