قصيدة تبحث عن عنوان

قصيدة تبحث عن عنوان
TT

قصيدة تبحث عن عنوان

قصيدة تبحث عن عنوان

رسّخ وصول هذه القصيدة الفجائي إلى عنواني الإلكتروني تلك القناعة التي يتفق الجميع حولها: العالم تحول قرية صغيرة، إذ حالما ينطلق صوت أي صرخة من مكان ما فيها، فإنه ينتشر بسرعة البرق بين بيوتها.

بل لعل العالم أصبح أصغر من ذلك. فكوننا نستطيع مشاهدة وسماع ما يحدث لدى جيراننا يجعله قرية ذات جدران زجاجية مزودة بمكبرات صوت خفية عن الأعين.

غير أن هذه القرية لم تستطع تغيير ما كان سائدا حين كنا متباعدين تماما عن بعضنا البعض، حيث أخبار الحروب وفظاعاتها تحتاج إلى أيام أو أسابيع حتى تصلنا، وشعورنا بأننا نسكن قارات متباعدة، يجعلنا في مأمن على مشاعرنا من الخدش أو تسلل الكوابيس إلى أحلامنا، أو تعميق شعورين متعارضين تماماً: الأول شعور بالمسؤولية بفعل شيء لإيقاف الأذى الذي يلحقه أحد جيراننا بجار آخر، والثاني شعور بالعجز عن فعل أي شيء، فحقائق الجغرافيا توقظنا فجأة من وهم كوننا نسكن في قرية صغيرة واحدة اسمها العالم، وأن هذا العالم محكوم بمبدأ أساسي اسمه: الكيل بمكيالين.

في بحث دؤوب عن كاتب هذه القصيدة القصيرة الخالية من أي عنوان، اكتشفت أنه أستاذ جامعي متخصص في حقل العلوم السياسية، ويعمل محاضرا وباحثا في كلية بابسون بمدينة نيويورك.

أستطيع تقدير عمر البروفسور كريستوفر جَي بترسين - أوفرتون في منتصف ثلاثينياته، إذ حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة نيويورك عام 2017. ومن قراءة ما أنجزه كان النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني أحد الحقول الأكاديمية الأساسية التي ظلت تشغله في دراساته الأكاديمية.

هل هناك أثر له بصفته شاعرا؟ لا شيء.

هل هي أول قصيدة له كتبها بدافع الشعور العميق بالجزع الذي يشملنا جميعا اليوم ونحن نتابع حربا تقترب من أن تكون في طياتها إبادة شبه جماعية للمدنيين العزل؟

كأن البروفسور أوفرتون بقصيدته التي فرضت نفسها، يمد يده عبر آلاف الأميال الفاصلة بيننا ليمسك بأيدينا ويقول من دون كلمات: نحن نشاهد الكوابيس نفسها، ونحن نتقاسم نغزات الضمير نفسها من عجزنا على فعل شيء، يوقف هذا الجنون والغلواء وأساطير الماضي التي سكنت كالجن في رؤوس بعضنا.

معلومة صغيرة أخرى أعثر عليها: ناظم هذه القصيدة التي تشبه جرحاً غائراً في وجدان البشرية مهتم في دراساته بقضية الظلم التاريخي الذي لحق بشعوب عديدة. أعثر له على ورقة بحثية يبدأها بسؤال يصلح لأن يكون ملهما لقصيدة أخرى: هل لدينا نحن الذين نعيش في الوقت الحاضر واجب لتصحيح الظلم الذي ارتكبه آخرون في الماضي البعيد؟

أعود إلى قصيدتك يا أخي في الإنسانية لأخبرك حتى من دون أن تسمعني: لقد اختصرت أبياتها القليلة كل ما قرأناه وما شاهدناه خلال الأسابيع الثلاثة في غزة. لذلك فطالما أنها ما زالت تتجول بين حواسيب وهواتف أعداد كبيرة من البشر الذين لا يعرف أحدهم الآخر فإنها ستظل أشبه بالشعلة التي تتناقلها الأيدي من قارة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر حتى يبدأ أولمبياد جديد يجمع الشعوب من جديد على عقد سلام جديد.

قصيدة تبحث عن عنوان

كريستوفر جَي بترسين - أوفرتون

يا أطفال غزة المشاغبين

أنتم الذين دائماً تكدرون حياتي

بصرخاتكم تحت نافذتي

أنتم الذين تملأون كل صباح

صخباً وفوضى

أنتم الذين كسرتم مزهريتي

وسرقتم الزهرة الوحيدة من على شرفتي.

عودوا،

واصرخوا كما تشاؤون

واكسروا كل المزهريات

اسرقوا كل الأزهار.

عودوا.

عودوا فقط.


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.