مرآة برونزية من الفاو تمثل تقليداً موغلاً في القدم

تتميّز بمنحوتتها الأنثوية الفريدة التي تزيّن مقبضها

مرآة برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار بجامعة الملك سعود بالرياض.
مرآة برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار بجامعة الملك سعود بالرياض.
TT

مرآة برونزية من الفاو تمثل تقليداً موغلاً في القدم

مرآة برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار بجامعة الملك سعود بالرياض.
مرآة برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار بجامعة الملك سعود بالرياض.

يحتفظ متحف قسم الآثار التابع لجامعة الملك سعود بمرآة برونزية أثرية، مصدرها قرية الفاو المشرفة على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي في محافظة السليل. تعود هذه المرآة إلى القرن الميلادي الأول حسب أهل الاختصاص، وتمثّل تقليداً موغلاً في القدم ظهر منذ آلاف السنين في نواح عدة من الشرق، ثم برز في أقاليم العالم الغربي، حيث تعدّدت أشكاله خلال القرون الستة قبل الميلاد.

تتكون مرآة الفاو من قرص قطره 16.5 سنتمتر له مقبض قصير يزيّنه تمثال آدمي نصفي. صُنع هذا القرص من البرونز، وهو على شكل صحن دائري مصقول يحدّه إطار بارز. زُيّن وسط هذا الصحن بسلسلة من الحلقات المتحدة المركز أنجزت بتقنية الحفر الغائر، وجرى صقل مساحته في الأصل لإظهار انعكاسية معدنه، غير أن هذا المعدن تعرّض للتآكل مع مرور الزمن، وفقد الكثير من هذه الانعكاسية. يظهر مقبض هذه المرآة في وسن جانبها الأسفل، وهو مبتور كما يبدو، مما يجعله يبدو قصيراً للغاية.

يعلو هذا المقبض مجسّم نصفي يمثّل امرأة في وضعية المواجهة، ترفع يديها في اتجاه صدرها. الوجه دائري، العينان لوزيتان ومجردتان من أي ملامح للبؤبؤ، أما الأنف والثغر فيبدوان شبه ممحوين. يعلو الرأس حجاب يلتف حول العنق ويخفي الشعر بشكل كامل، ويعلو الصدر وشاح ينعقد حول الكتفين على شكل مثلث، منسدلاً عند طرف الذراع اليمنى. يتميّز هذا التمثال المنمنم بأسلوبه المتقن والمرهف الذي يعكس أثراً يونانياً خفياً يتجلى في متانة التجسيم، غير أن الطابع المحلي يبقى غالباً، كما في العديد من القطع النحتية التي ظهرت في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأولى للميلاد.

تنتمي هذه المرآة البرونزية إلى تقليد موغل في القدم يعرف باسم «المرايا المعدنية»، وهي المرايا التي صُنعت في العصور القديمة من المعادن الصلبة، وكانت عرضة للتآكل بفعل الصدأ. يعود أقدم ما وصلنا من هذه المرايا إلى الألفية السادسة قبل الميلاد، وهو من النوع البدائي، ومصدره موقع «جاتال هويوك»، أي «التل الكبير»، جنوب غرب الأناضول في تركيا. عُثر على هذه المرايا إلى جانب مجموعة من الحلي النسائية في مقابر فردية خاصة، وهي من الحجم الصغير، وقطرها لا يتجاوز 9 سنتمترات، وبعضها مصنوع من مادة السّبج المصقول والمطلي بالكلس.

ظهر هذا النوع من المرايا كذلك في بلاد ما بين النهرين، في الألفية الرابعة، كما تظهر اللقى المكتشفة في مدينة أوروك شرق الفرات، في قضاء الوركاء التابع لمحافظة المثنى. وعُثر على أسطوانات برونزية تعود إلى 3200 قبل الميلاد في مقابر أنثوية تمّ الكشف عنها في مدينة كرسو السومرية التي تُعرف اليوم باسم تل تلو، وتقع شمال شرق مدينة لكش، في محافظة ذي قار. كما عُثر على مرايا مشابهة في مواقع أثرية أخرى، أبرزها مدينة كيش التي تُعرف اليوم بتل الأحيمر، وتقع شرق مدينة بابل، ومدينة أور المجاورة للناصرية في جنوب العراق.

يلقي الضوء على «المرآة» باعتبارها واحدة من الكنوز الأثرية الفريدة ذات الطابع الأنثوي ويتتبع رحلتها من خلال نموذج منها محفوظ بمتحف قسم الآثار التابع لجامعة الملك سعود بالرياض.

تطوّرت هذه الصناعة بشكل كبير في الألفية الثانية قبل الميلاد، كما تشهد المرايا التي اكتشفت في مقابر نسائية في مدينة ماري السومرية، على الضفة الغربية لنهر الفرات، شمال غرب مدينة البوكمال في سوريا، وتلك التي اكتشفت في قبور ملكات مدينة كالح الأشورية التي تُعرف اليوم بالنمرود، شمال الموصل. تميّز هذا النتاج الأخير بأسلوبه المتقن والمرهف، واعتمد في صناعته على مادتي البرونز والكهرمان المعدني المعروف بـ«الألكتروم». استمرّت هذه الصناعة وازدهرت في الألفية الأولى قبل الميلاد، وأشهر صورها الفنية نقش ناتئ على قطعة من البرونز، محفوظ بمتحف اللوفر في باريس، تظهر فيه نقيعة، والدة أسرحدون ملك آشور، وهي تمسك بيدها اليسرى مرآة، إلى نقش مشابه محفوظ في متحف الشرق الأدنى في برلين، تظهر فيه ليبالي شرات، زوجة الملك آشور بانيبال، في وضعية مماثلة.

عرفت المرايا انتشاراً موازياً في مصر، وجمعت صناعتها بين مواد مختلفة، منها البرونز والخشب والحجر، وتميّزت مقابضها بأشكالها التصويرية المجسّمة، وحمل بعضها طابعاً ملكياً مصرياً خالصاً. واستمر هذا النتاج في الحقبة التي تلت زمن الفراعنة الطويل، كما يشهد العدد الهائل من المرايا التي تعود لحقبة الهلنستية في العالم اليوناني، كما خرجت مرايا معدنية تعود للعصر البرونزي من مواقع عدة، أشهرها تلك التي تعود لقوم السلت في بريطانيا، وإلى الإرتوريين في إيطاليا القديمة.

وصل هذا التقليد إلى الخليج العربي، كما يشهد مقبض مرآة من البرونز عُثر عليه في معبد باربار في البحرين، على شكل مجسّم يمثل رجلاً يقف منتصباً على قدميه، ومصدره بَلُوشِستان أو أوزبكستان كما يرجّح علماء الآثار. وفي جنوب الجزيرة العربية عُثر على مجموعة متواضعة من المرايا المعدنية، في مواقع عدة، يغلب عليها الطابع المتقشّف والبسيط. وفي شرق هذه الجزيرة، عُثر على قطع تتبع هذا النسق في عين جاوان بالمنطقة الشرقية من السعودية، كما في الدُّوْر، في أم القيوين، في الإمارات العربية المتحدة.

في المقابل، تحتل مرآة قرية الفاو مكانة رفيعة خاصة في هذا الحقل، حيث تتميّز بنوع خاص بمنحوتتها الأنثوية الفريدة التي تزيّن مقبضها. ولعلّها أجمل المرايا المعدنية التي خرجت حتى يومنا هذا من الجزيرة العربية.


مقالات ذات صلة

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

يوميات الشرق المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج بجنوب مصر.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق جزء من التجهيز يظهر مجموعة الرؤوس (جناح نهاد السعيد)

«نشيد الحب» تجهيز شرقي ضخم يجمع 200 سنة من التاريخ

لا شيء يمنع الفنان الموهوب ألفريد طرزي، وهو يركّب «النشيد» المُهدى إلى عائلته، من أن يستخدم ما يراه مناسباً، من تركة الأهل، ليشيّد لذكراهم هذا العمل الفني.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
المشرق العربي الضربات الجوية الإسرائيلية لامست آثار قلعة بعلبك تسببت في تهديم أحد حيطانها الخارجية وفي الصورة المعبد الروماني
(إ.ب.أ)

«اليونيسكو» تحذر إسرائيل من استهداف آثار لبنان

أثمرت الجهود اللبنانية والتعبئة الدولية في دفع منظمة اليونيسكو إلى تحذير إسرائيل من تهديد الآثار اللبنانية.

ميشال أبونجم (باريس)
يوميات الشرق هضبة الأهرامات في الجيزة (هيئة تنشيط السياحة المصرية)

غضب مصري متصاعد بسبب فيديو «التكسير» بهرم خوفو

نفي رسمي للمساس بأحجار الهرم الأثرية، عقب تداول مقطع فيديو ظهر خلاله أحد العمال يبدو كأنه يقوم بتكسير أجزاء من أحجار الهرم الأكبر «خوفو».

محمد عجم (القاهرة )

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.