في انتظار «فرانكنشتاين» يوسا

يتناسى في روايته الأخيرة الإشراقات البروميثيوسية الواعدة في العلم والتقنية

في انتظار «فرانكنشتاين» يوسا
TT

في انتظار «فرانكنشتاين» يوسا

في انتظار «فرانكنشتاين» يوسا

قرأت باهتمام غير عادي ما كتبه الأستاذ حسونة المصباحي بتاريخ 4 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في «ثقافية الشرق الأوسط» بشأن أحدث روايات الكاتب العالمي ماريو بارغاس يوسا. يستحقُّ يوسا هذا الاهتمام؛ فهو كاتب مُتوج بالجائزة النوبلية، وذو اهتمامات سياسية وثقافية عالمية الأبعاد، فضلاً عن أنه أحد كتاب «الشرق الأوسط» الذين أقرأ مقالاتهم بانتظام واهتمام وشغف.

يبدو أن يوسا خالف في هذه «الرواية - النوفيلا» تقليداً مستديماً له في كتابة المطولات الروائية. هذه الرواية القصيرة لا تتجاوز في نسختها الفرنسية 184 صفحة، وقد شرعت بعد قراءة مراجعة المصباحي في البحث عن ترجمة إنجليزية لها فلم أوفق. يبدو أنها لم تترجم بعد؛ لكن لا أظن أن هذه الترجمة ستتأخر كثيراً، وستعقبها بالتأكيد ترجمة عربية.

تنتمي الرواية إلى أدب الجولات في الشوارع (الليلية غالباً): صحافي عجوز يتجول ليلاً في شارع بالعاصمة مدريد، ثمّ يشرع في مونولوج ذاتي هو مرثية نوستالجية لعالم مضى وانقضى، وفي الوقت نفسه هو نقد قاس لعالمنا المحكوم بسطوة العلم والتقنية. لنستذكرْ هذا التوصيف الدقيق للعجوز كما ورد في مقالة المصباحي:

«.... كان صحافياً، يُقيم في غرفة في سطح إحدى العمارات بمدريد، ويعيش القلق والعزلة والخوف من الموت، ومن عالم بات قاسياً وعدوانياً يُشعره في كل لحظة بأنه يتوجب عليه أن يرحل لأنه بات زائداً عن اللزوم في كرة أرضية تختنق بكثرة عدد سكانها، وبأمراض حضارة بلغت أوجَها، وتجرّدت من القيم الإنسانية لتصبح مُضرّة ومؤذية ومتوحّشة أكثر مما هي نافعة ورحيمة وإنسانية...».

يبدو لي أن الروائي - أي روائي - عندما لا يجد موضوعة تستجلب اهتمامه وتدفعه للكتابة بشغف يلجأ إلى طرْق باب الموضوعات الإنسانية الكبرى: الحب، الحنين إلى الماضي، الوحدة، الشيخوخة، العجز، الموت. هذه سياسة روائية مقبولة وممكنة لأن الموضوعات الإنسانية الكبرى ستبقى مهمة ومهيمنة على الوجود البشري ويمكن روايتها بألف شكل ولون ومن واقع خبرات تتلوّن وتتبدّل حسب تنوّع الخبرات المستجدة بتقادم الأزمان. لكلٍّ منا رؤيته الخاصة بشأن أي موضوعة من هذه الموضوعات الكبرى، ولو امتلك القدرة الكتابية فيمكن له عرض حكايته للآخرين.

هنا ستجابهنا معضلة جوهرية: هل يمكن عدُّ العلم والتقنية من جملة الموضوعات الإنسانية الكبرى؟ هل العلم مثل الموت والشيخوخة من حيث صلاحيته كثيمة روائية؟ وهل التقنية مثل الحب كموضوعة حكائية يمكن التعامل معها في سياق فعالية سردية؟ أظنّ أن معظمنا سيجيب بـ«نعم» مغلّظة. أرى أنّ الجواب هو «لا» كبيرة. العلم والتقنية صناعتان بشريتان لم يمضِ عليهما سوى بضعة قرون؛ في حين أن الموت والحب والشيخوخة.. إلخ حقائق ملازمة لكل عيش بشري. أنت لا تولدُ متى ما أحببت، وأيضاً لا تموتُ (طبيعياً) متى ما قررت ذلك، ولا تستجلب لك الشيخوخة والمرض عندما تريد (هل ثمة من يريد الشيخوخة والمرض؟). هذا هو الفرق الذي أحسبه جوهرياً. العلم والتقنية موضوعتان جوهريتان بمقاييس اللحظة الحاضرة وفي الحسابات الاستراتيجية للدول وليس بالمقاييس الأنطولوجية (الوجودية) الإنسانية الفردية. هذه الحقائق بالطبع لها وقعٌ أساسيٌّ في فلسفة تشكيل الموضوعات الروائية.

يحدّثنا اللورد سنو في محاضرته الذائعة «ثقافتان» بجامعة كامبردج عام 1959 عن جمهور واسع (سمّاه اللوديين The Luddites) اندفع لتحطيم آلات المصانع الحديثة التي صارت عنوان عصر الثورة الصناعية. هل يريدنا يوسا أن نكون «لوديين» في القرن الحادي والعشرين؟ ثمّ يكمل سنو في مفارقة مثيرة؛ فيقول سأحترم كثيراً كلّ من يبشّر بموقف راديكالي مضاد للعلم والتقنية لو أنه قبلَ العيش بمثل ما عاش أسلافه قبل مقدم الثورة العلمية والتقنية: أن يقبل بموت أطفاله نتيجة إسهال بسيط لعدم لجوئه إلى المضادات الحيوية، وأن يقبل بشحّ الغذاء والملبس والحياة المتقشّفة. هل يتصوّرُ يوسا كيف يمكن إطعامُ 8 مليارات من البشر – ما لبثوا يتزايدون - لولا التقنيات الحديثة في الهندسة الوراثية؟ لو شئنا اعتماد مقاربة اللورد سنو سنقول: لو أنّ يوسا غادر منزله الفخم في العاصمة الإسبانية وارتضى العيش في كوخ قصي على تخوم القارة القطبية الشمالية كنتُ سأستشعرُ شيئاً من المصداقية في رسالته النبوئية بمسؤولية العلم في التعجيل بنهاية درامية للعالم؛ أما التبشير بهذه النهاية والحديث عن العلم كما فعل غلاة الرومانتيكيين الثوريين من قبل فهذا سلوك ينطوي على تناقض إشكالي حتى لو جاء في شكل عمل روائي (تخييلي).

الأمر أكبر من إشكالية شخصية. أحسبُ أنّ التخريجة الدقيقة لموضوع مكانة العلم والتقنية في حياتنا يمكن تتبّعها على النحو التالي: سيسوّغُ كثيرون رؤية يوسا (المعروضة في صيغة العجوز المتقاعد) على أساس وجود فرق جوهري بين العلم وسياساته، وأنّ يوسا يوجه إصبع النقد اللاذع لسياسات العلم التي هي في التحليل الأخير فعالية تصنعها سلوكيات بشرية لا يجمعها ضابط معياري. أظنُّ هنا يحصل الخلط الإشكالي بين العلم وسياساته. العلم قيمة جوهرية تنطوي على معايير مفترضة من النزاهة والبحث الخالص عن طبيعة العالم الذي نعيش فيه، ومن ثمّ محاولة تكييف هذه المعرفة - أو بعض أشكالها على الأقل - في تطبيقات مفيدة للصالح البشري. بهذا السياق يمكن القول - وهو ما تقودنا إليه سلسلة من الخبرات المتراكمة – إن العلم والتقنية هما العنصران الأكثر تأثيراً في الارتقاء بالأخلاقيات البشرية. كيف هذا؟ هذه أطروحة فلسفية كاملة.

لو تصوّرنا الطيف الأخلاقي سلسلة تبدأ من الصفر وتنتهي بالرقم عشرة - مثلاً - فالكائن الحائز على درجة الصفر هو كائن مصنوع من شر مطلق، والكائن الحائز على درجة العشرة هو كائن مصنوع من طهرانية مطلقة. البشر في العموم يتفاوتون في الحركة على هذه السلسلة صعوداً نحو الطهرانية أو انزلاقاً نحو الشر، وأغلبهم يحسبون هذه الحركة تبعاً لمستوى إشباع حاجاتهم الأساسية، البدائية الأولية (أكل وشرب ونوم وملبس...) ثم الحاجات التي تتجاوز البدائي نحو التخوم الفكرية المجرّدة. العلم (وذراعه التقنية) هو في أقل تقدير العنصر المعوّل عليه في إشباع الحاجات البدائية والفكرية معاً لأعداد واسعة من البشر. تصوّروا حال الأخلاقيات البشرية لو حصل تلكؤ ليوم واحد في سلاسل الإمداد العالمية من الغذاء، وهو ما حصل بالفعل في بعض أيام الجائحة الكورونية؟ هل نتخيل وجود أخلاقيات بأدنى المناسيب حينها؟ الأمر ينسحبُ بالطريقة ذاتها على أمثلة كثيرة غير الغذاء. تصوّرْ معي لو أن صانع السياسات العلمية واجهته معضلة شح الغذاء إلى حدود غير مسبوقة. ماذا سيفعل؟ الأفضل ألا نتخيل هذا المشهد الجحيمي لأنه سيقضي بموت أعداد كبيرة من البشر.

الرفض أسهل من الفهم. الفهم يتطلّب جهداً ومشقةً. من اليسير أن تجلس وأنت شبعان لتنتقد العلم الذي خلق لنا مواد غذائية معاملة بوسائل الهندسة الوراثية بقصد تحسين كميتها وجعلها أكثر مقاومة لعوامل المناخ حتى لا تتلف بسرعة. أيهما أفضل: أن تأكل الأعداد المليارية المتزايدة من البشر غذاءً معدّلاً وراثياً أم أن تُترك نهباً للجوع؟ من السهل أن تكتب بلغة رومانسيي القرن التاسع عشر عن «الطعام الذي تلاعبت فيه أيدي البشر ولم يكن صنيعة خالصة للطبيعة». كلامك هذا لن يشبع جائعاً.

كل تقنية مستحدثة تعقبُ ثورة علمية لا بد أن تكون لها تبعاتها. التعامل مع هذه التبعات هو مسألة موكولة لنا وليس إلى العلم أو التقنية. على سبيل المثال: خُلِق الكائن البشري مشّاءً، وعندما حلّت الثورة الزراعية والصناعية والرقمية تطلّب الأمر مكوثاً أكثر في المكان؛ ولكن يبقى دوماً في مستطاعنا أن نقتطع جزءاً من وقتنا للمشي اليومي المنتظم. لا بأس أن نمتلك سيارة حديثة في مرآب الدار. الفضيلة الأخلاقية هي أن نمتلك الشيء ثمّ نقنّن استخدامه بدلاً من أن يمتلكنا ذلك الشيء ويجعلنا عبيداً له: أن نمتلك طعاماً كافياً لكن لا نأكل إلا بمقدار لأنّ كثرة الأكل مفسدة للجسد ويترتب عليها ضغط على الخدمات الصحية إذا ما مرضنا فهذا فعل أخلاقي، وأن نمتلك سيارة ونفضّل عليها المشي في أوقات محسوبة حتى لا نساهم في تعظيم مناسيب التلوّث فهذا فعل أخلاقي أيضاً.

يركز يوسا في روايته الأخيرة على الجانب «الفرانكنشتايني» المظلم من العلم ويتناسى الإشراقات «البروميثيوسية» الواعدة فيه. ما يكتبه روائيون عالميون من طراز يوسا له تبعاته المؤثرة، وأظنّ أنّ بطل رواية يوسا تكريس لرؤية رومانسية للعلم والتقنية من جانب إنسان تقاعد عن وظيفته الصحافية، ولم يشأ أن يفهم سياسات العلم والتقنية وفضائلهما الأخلاقية، وفضّل بدلاً عن هذا الفهم الاكتفاء بصورة الإنسان السلبي الذي يحنُّ لأيامه الماضية ويكتفي بإطلاق الريح ليلاً في شوارع مدريد.



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.