طه حسين... سبق عصره ولا يزال «عابراً للأجيال»

كتاب مصريون يتحدثون عن عميد الأدب العربي في الذكرى الـ«50» لرحيله

كرمة سامي
كرمة سامي
TT

طه حسين... سبق عصره ولا يزال «عابراً للأجيال»

كرمة سامي
كرمة سامي

بعد خمسين عاماً على رحيله، لا يزال عميد الأدب العربي طه حسين (15 نوفمبر «تشرين الثاني» 1889 - 28 أكتوبر «تشرين الأول» 1973) يتمتع بحضور فاعل في الوجدان الثقافي العام، بمواقفه وآرائه وكتاباته ومعاركه الأدبية، ورؤيته النقدية الجسورة لمشروع النهضة العربية... في هذا التحقيق يتحدث كتاب ومثقفون مصريون لـ«الشرق الأوسط» عن درس طه حسين، وكيف نستفيد منه من أجل مستقبل أفضل. وأجمعوا على أن طه حسين سبق عصره، فرغم مرور نصف قرن على رحيله، لا يزال يتمتع بحضور قوي في الثقافة العربية بما طرحه من آراء وأفكار حية، وكان جسوراً في معالجة قضايا التراث، برؤية منفتحة ومنهج نقدي ثاقب.

حسين محمود

جسارة الرؤية في تحديث الثقافة العربية د. حسين محمود ـ أستاذ الأدب الإيطالي

لا يزال طه حسين حاضراً في الجدل الثقافي في عالمنا العربي، متجاوزاً ما واجهه من أزمات وصلت للذروة خلال حياته، وجعلته يخوض كثيراً من المعارك الفكرية وانتصر فيها. جسارة طه حسين لم تتجسد في استعداده لخوض المعارك، ولا يمكن تصويره على أنه كان يهواها؛ لكنه كان صنديداً في إعلانه عن مشروعه النقدي ورؤيته للنهضة العربية وسبل الوصول إليها، ودفاعه العقلاني والمنطقي عن هذه الرؤية. ولولا جسارته في تقديم رؤيته لكنا الآن في وضع حضاري يشبه وضعنا في بداية القرن العشرين أو أشد تخلفاً. ولو استسلم للماضويين الذين حاربوه باسم الأصالة والحفاظ على قدسية الموروث العربي، لظللنا نعيش في ثقافة عاجزة عن مواجهة العصر واحتياجاته، فنظريته النقدية القائمة على الشك لم تتجاهل ثراء وعظمة التراث الإبداعي العربي. كان جسوراً في دعوته لتحديث الثقافة العربية بقدر ما كان صادقاً في هذه الدعوة. لم يكن خائفاً من تحدي السائد المتصلب والمتشدد في النظر إلى التراث العربي، وقام بنفسه بتطبيق الأساليب النقدية الحديثة في عمله الشهير حول «الشعر الجاهلي»، حيث طرح فكرة إعادة النظر فيما ورثناه من آراء يمكن أن تكون زائفة أو تعرضت للتحريف لأسباب مختلفة، وهو ما أثار المحافظين فاتهموه بالردة، لكن النيابة المصرية المنصفة برأته.

كان جسوراً عندما دعا في «مستقبل الثقافة في مصر» إلى التوجه غرباً، لانتمائنا الطبيعي والجغرافي لغرب العالم، حيث يقع البحر المتوسط، وهو ما عدَّه مجالنا الثقافي الحقيقي. والحقيقة أن هذا هو الاتجاه الحضاري الذي يدفع إلى التقدم الذي أخذت به كل الدول التي أرادت أن تتقدم. وكان جسوراً عندما نادى وعمل على تعليم المرأة، واصطف بجانب أعلام النهضة الكبار، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، وكان رأيه أن تعليم المرأة هو السبيل الوحيد لتمكينها، وهذه الأفكار التقدمية هي التي انتصرت في النهاية. باختصار: كانت كل أعمال طه حسين، سواء النقدية أو الإبداعية، حتى محاضراته الجامعية، تنطلق من رؤية شجاعة لمستقبل الثقافة العربية، لا نزال في أشد الحاجة إلى أن نعيها ونأخذ بها.

طه حسين

أول نموذج للمثقف العضوي د. كرمة سامي ـ رئيسة المركز القومي للترجمة بالقاهرة

طه حسين كان جسوراً صاحب همة ونفس مؤمنة «إيمان القلب والعقل والضمير». تميزت مسيرته عبر تاريخه بالشجاعة في التعلم والتعليم والكتابة النقدية والسردية والذاتية، ومواجهة النقائص الثقافية والتفاني في علاجها. كان أول نموذج واضح للمثقف العصري العضوي، يناقش قضايا مجتمعه بنور بصيرته، ويشكله بأفكاره التقدمية، ويختلف ويخالف ويعارض، لكنه يشجع.

اقرأوا بتمعن «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي صدر عام 1936، ستكتشفون كأنه كتب لعام 2036... ادرسوا خطته المتكاملة في هذا السِّفر الضخم لمحو الأمية اللغوية والمعرفية، ورأب الصدع بين التلميذ وتراثه الثقافي، وإزالة آثار العداء بين الثقافة القومية والعربية، ومشروعه المتكامل لبناء «الأمة الراقية» و«تيسير علوم اللغة»، ومطالبته بمناهج «واضحة سهلة قريبة إلى العقول والقلوب». ولو كان بيننا لهاجم الأسلوب الذي تُدرس به سيرته الذاتية «الأيام» لطلاب المدارس؛ لأنه أراد أن تكونَ اللغةُ العربية «أقربَ إلى نفوس التلاميذ».

اجتهد طه حسين في دراسته في جامعة «السوربون» فكان يدرس كلاسيكيات الغرب صباحاً، ثم يجلس ظهراً مع زوجته في إحدى الغابات الصغيرة المحيطة بباريس، تقرأ عليه الروايات المسلسلة ذات الشعبية الطاغية، ومنها استلهم مساره السردي الفريد الذي ميزه عمن سبقه وعاصره أو جاء بعده. وخرج بقوالب سردية أدهشتنا حين خالفت إطارها الزمني في «دعاء الكروان»، و«خطبة الشيخ». ولهذا يكتشف الباحثون عند قراءة أعماله الأدبية نتائج مدهشة وموقفاً إنسانياً مستنيراً يسبق عصره. يضع به «آمنة» بطلة «دعاء الكروان» التي كتبها ببصيرته عام 1924 قبل «ليلى» بطلة لطيفة الزيات في «الباب المفتوح» 1960، و«مريمة» بطلة رضوى عاشور في «ثلاثية غرناطة» 1994. كتب طه حسين مقالاً نشر في كتاب «اليونيسكو» احتفالًا بمئوية غوته الثانية عام 1949، ووصفه بـ«التوازن» وحياته بأنها «منسجمة كأنها مقطوعة موسيقية جميلة». وأحسب أن هذا الوصف ينطبق على مسيرة طه حسين وأعماله التي تمتد آثارها تناغماً واتساقاً وصدقاً، حتى بعد رحيله بالجسد بخمسين عاماً.

أماني فؤاد

منظور عقلاني في قراءة التاريخ د. أماني فؤاد ـ ناقدة وأكاديمية

حين أعمَل طه حسين عقله فيما قرأه من الموروثات الخاصة بالسيرة؛ وجد أن أغلب ‏الخطابات والمرويات لا يمكن إثباتها تاريخياً، كما أنها تتضمن مبالغات بلا حصر، وبها ‏قدْر عالٍ من تمجيد المواقف، والنزوع بالأحداث نحو «الأسطرة»، ولذا ارتأى بدلاً من ‏تقويضها بالمنهج العقلاني والتاريخي، أن يتفاعل معها فنياً وأدبياً، ويعيد إنتاجها كما يفعل الغرب مع موروثاتهم ‏الأدبية، هذا هو ما يستشعره القارئ لمقدمة كتاب «على هامش السيرة». أراد طه حسين بهذا الصنيع أن يدفع بالعقل العربي ليناقش ويسائل كل الموروثات، حتى ‏التي أكسبها الأقدمون بعض صفات القداسة، وهي ليست كذلك. ربما أراد أن يقول إن كل ما وضَعه العقل العربي الإسلامي يمكننا أن نسائله، فهو لا يتضمن ‏قداسة لأنه من تأليف ومخيلة البشر، موروث يلهمنا لإنتاج خطابات أدبية أخرى تجادله ‏وتتناص معه، لا بوصفه حقائق تخضع للعقل. وهذا الصنيع هو بعض ما يجعل الجميع ‏يقول عن طه حسين إنه الرائد والمعلِّم الأول للتنوير، وعلى خطاه سار كبار الباحثين ‏العرب يسائلون التراث.‏

تعامل طه حسين مع هذه الموروثات بمنطق الفن، مادة تستفز حالة من الجدل مع مضمونها، ‏ومن ثم الإلهام، والبناء عليها فنيّاً، الخيال الذي يستهدف المتعة، لكن لم يتعامل معها ‏كحقائق تاريخية، أو أنها تخضع للبحث العلمي،‏ فهذا نهج غير عقلاني. إن المقدمة التي كتبها طه حسين لكتابه «على هامش ‏السيرة»، تنص صراحة على أن ما ورد بالكتاب ليس سوى إبداع على موروثات السيرة الأسطورية في أغلبها، وأنه أراد ‏كتابة أدبية تخيُّلية، لا تنضوي تحت التاريخ ولا العقلانية. ‏يتحدَّث الكاتب عن أدب، وليس عن أخبار تاريخية ‏وسِيَرِيَّة، وكلنا يعلم أن الجزء المتخيَّل في الأدب هو الذي يهيمن على الخطاب الفني.

ثم يتحدَّث طه حسين عن إلياذة هوميروس، وأنها لم تزل تُلهِم الكتَّاب حتى عصره، ‏ويعقِّب بَعدها قائلاً: «إن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكبِرون العقل، وأحبُّ أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس مَلَكاتٍ أخرى».

سهير المصادفة

تأثير أدبي عابر للأجيال سهير المصادفة ـ كاتبة روائية

كثير من البنات كنّ يتسربن من حصّة اللغة العربية، بينما أنتظرها بشغف، لكي أجيب عن أسئلة المدرس بعد أن يقرأ فقرة من «الأيام» لعميد الأدب العربي طه حسين المقررة علينا: «يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان من العسير عليه أن يتخطاه إلى ما وراءه». تكاد قدماي تتحركان لتحملا الصبي وتعبرا به السياج، لكن هل كان الصبي سيسمح لأي مَن كان أن يساعده؟ هو الذي كان يكره الشفقة، وأن يعامله الآخرون معاملة خاصة، فاجتاز وحده كل الأسيجة التي اعترضت طريقه، حتى خرج من الظلمات إلى النور.

لقد أثرت «الأيام» على جيلي وأجيال أخرى من الكتاب، كان نور عقله المشع يتسلل إلى عقولنا الصغيرة آنذاك فيتناثر شهباً. أسمّي شارعاً باسمه في أولى رواياتي: «لهو الأبالسة»، وأختار في إحدى محاضراتي مفتتح «الأيام» كأروع وأنجح الفقرات الاستهلالية لكتاب يجعل القارئ يخمن عنوانه دون أن يراه: «لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريباً». والآن ورغم مرور السنوات، ما زال «طه حسين» الأكثر تأثيراً وإثارة للمعارك الكبرى، فلقد كان يخلخل منظومة الثبات والركود بألمعية وإيمان، لا من أجل الهدم، وإنما لكي ينطلق بتراثه إلى آفاق أرحب، فيحقق لأمته التفوق والتنوير؛ في التعليم الذي أصر أن يكون كالماء والهواء، وفي الثقافة، وفي تنقية الإرث العربي من الخرافات، وفي حقّ المرأة في الحياة. مَن يصدق أنه رغم مرور تلك السنوات، ما زلت أبكي حين أسمع صوته الرخيم مع نهاية فيلم «دعاء الكروان»، المأخوذ عن روايته الأشهر التي تحمل الاسم نفسه، وهو يقول: «أترينه كان يرجّع صوته هذا الترجيع حين صُرعتْ (هنادي) في ذلك الفضاء العريض!».

إيهاب الملاح

إعادة اكتشاف التراث العربي إيهاب الملاح ـ مؤلف كتاب

«تجديد ذكرى عميد الأدب العربي»كان طه حسين أول من ألقى بحجر ثقيل للغاية في المياه الراكدة للفكر العربي الحديث، بعيداً عن قضية الشعر الجاهلي، أو بعض الأسطر التي اقتطعت من سياقها وتم التمسك بها من جانب تيارات التشدد والجمود والفكر المحافظ، وإشهارها في وجه عميد الأدبي العربي بهدف إدانته. لقد كشف برؤاه الفكرية الشجاعة عن وجود تيارات لا تقبل النقد أو إعمال العقل في تراثنا ومروياتنا، وترفض بشكل حاد وعنيف أي اختلاف في الرأي.

تعرض طه حسين لأكبر محاولة في تاريخنا الثقافي الحديث لإسكات مثقف كبير وابتزازه وإرهابه، من خلال تأليب الرأي العام عليه، والادعاء بأن نقده للتراث هو بمثابة تطاول على المقدسات، وهي اتهامات عارية عن الصحة وكاذبة شكلاً ومضموناً، فما قدمه صاحب «الأيام» للثقافة العربية من مؤلفات تراثية حققها وعلّق عليها وشرحها لم يقدمه أي باحث أو مثقف آخر ينتمي للتيار المحافظ. وعلى سبيل المثال، كان طه حسين أول من قدم شرحاً وافياً عصرياً، واكتشافات مدهشة، لجماليات شعر ما قبل الإسلام، ثم الشعر في العصر العباسي، عبر الدخول إلى غاباته الكثيفة وتذليل معانيه وتقريبها إلى القارئ العام، كما في كتبه مثل: «حديث الأربعاء»، و«صوت أبي العلاء»، و«مع المتنبي»، و«من حديث الشعر والنثر».

لقد ساهم طه حسين في اكتشاف مناطق مجهولة أدبية وفكرية من تراثنا وتقديمها إلينا، إما تحقيقاً ودراسة وإما تنويهاً وكتابة، وإما بإيفاد البعثات للكشف عن تلك المخطوطات.

 

مقتطف من كتاب «الأيام» لطه حسين

> «وقد أخذ الفتى يتهيَّأ لإتقان الفرنسية من جهة، وتعلُّم اللاتينية من جهةٍ أخرى، فالتمس لنفسه معلماً خاصّاً يُعينه من ذلك على ما كان يريد. وقد جعل رفاقه يبحثون له عن المعلم الذي يلائمه حتى قيل لهم: إن صاحبكم مكفوف، وليس له بدٌّ من أن يتعلم كتابة المكفوفين وقراءتهم، ليستطيع أن يعتمد على نفسه في تحصيل ما يريد أن يحصِّل من العلم. ثم قيل لهم: إن في تلك المدرسة من مدارس المكفوفين أستاذاً ضريراً قد يعين صاحبكم على حاجته، فسعَوْا إلى هذا الأستاذ، وقدَّموا إليه صاحبهم. وأعلن الأستاذ إليهم أنه زعيم بأن يعلِّم رفيقهم الكتابة والقراءة الفرنسية واللاتينية جميعاً، ولم يطلب على هذا إلا أجراً ضئيلاً في نفسه، ولكنه كان ثقيلاً على هذيْن الأخوين اللذين كانا يعيشان بمرتب شخص واحد. وقد قَبِل الفتى مع ذلك أن يشق على نفسه وعلى أخيه، وأن يؤدي إلى الأستاذ أجره الذي طلبه، وكتب إلى الجامعة يستعينها فلم تبخل عليه بالعون، وقامت عنه بأداء هذا الأجر. وأقبل الفتى على الكتابة البارزة يتعلمها، فلم يلبث أن أحسنها، ولكنه عندما حاول أن ينتفع بها في درسه لم يجد إلى الانتفاع بها سبيلاً؛ فلم تكن الكتب التي كان يحتاج إلى قراءتها قد طبعت على هذه الطريقة الخاصة، وكان ربما أتيح له الكتاب المطبوع على هذه الطريقة، فلا يكاد يأخذ في قراءته حتى يضيق بهذه القراءة أشد الضيق، وينفر منها أعظم النفور، فهو قد تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه».



متى يصبح التاريخ مرجعية للنص الروائي؟

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
TT

متى يصبح التاريخ مرجعية للنص الروائي؟

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية» ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

أكدت الأكاديمية السعودية، الدكتورة ميساء خواجا، أن الكتابة التاريخية لها حدودها ومداخلها وآلياتها التي تبنى على التوثيق والمطابقة، أما الكتابة الروائية فهي ذاكرة مفتوحة تقوم على التخييل، والغوص في مناطق قد لا يلتفت المؤرخ إليها أو لا يهتم بها.

وكانت الخواجا، تتحدث في ورشة عمل بعنوان «تقنيات الكتابة الروائية تطبيقات على الرواية التاريخية»، ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، أقيمت مساء أمس الخميس. وتحدثت عن طبيعة التعامل مع الشخصيات والمكان والزمان في الرواية التاريخية.

وأكدت الدكتورة الخواجا أن التاريخ – كما يرى أرسطو – يتعلق بالحقائق العامة لا بالجزئي والهامشي. من هنا يختلف حقل التأريخ عن حقل التخيل، من دون أن ينفيه. فالمؤرخ يهتم بصياغة المادة التاريخية بالاستناد إلى وقائع تاريخية محددة وربما قراءتها في إطار الحاضر. أمّا المتخيّل فيقدم مادة سردية ينجزها الروائي من خلال علاقة إبداعية مع أحداث الماضي بصفتها ممتدة في الزمان والمكان. (...) وفي ذلك يصير التاريخ مرجعية أو أرضية للنص الروائي، «ميتا نص» يعود إليه ويتحاور معه في كتابة قد لا تطابق المرجعية التاريخية، أو لا تكتفي بذكر وقائع التاريخ والحرص على مطابقتها، بل تبحث في طياته عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزية بينهما، فيتداخل التاريخ الحقيقي مع المتخيل التاريخي.

الدكتورة ميساء الخواجا تتحدث في ورشة العمل بمعرض الرياض الدولي للكتاب

الرواية والتاريخ

وقالت الدكتورة الخواجا، إن عدداً من الدارسين التفتوا إلى وجود صلة ما بين الرواية والتاريخ على اختلاف بينهما، إذ يثير مصطلح «الرواية والتاريخ» عدداً من الإشكالات التي يقف في مطلعها الإشكال الأجناسي على اعتبار أن التاريخ خطاب نفعي يسرد الحقيقة في حين أن الرواية خطاب جمالي تخييلي في المقام الأول. والرواية التي هي «خطاب جمالي تقدم فيه الوظيف الإنشائية على الوظيفة المرجعية».

ورغم ربط التاريخ بفكرة النفعية وبفكرة الحقيقة وتناول ما هو حاصل عند عدد من الدارسين، فإن هناك عدداً آخر منهم يربط بين التاريخ والمتخيل، ويلتفت إلى ما يمكن تسميته «سردية التاريخ».

التاريخ مرجعية أو أرضية للنص الروائي أشارت أيضاً إلى أن التاريخ يرتبط في أذهان الكثيرين بالحقيقة في مقابل الخيال الذي تتسم به الرواية، لكن ذلك الربط يتعرض إلى شيء من التشويش عندما يمتلئ التاريخ بأخبار وحكايات قد تبدو متخيلة، لا سيما عندما يتناول الأزمنة السحيقة، وعندما تستند الرواية إلى التاريخ أي إلى ما هو حقيقي.

وتقول: بين التاريخ والرواية صلة ما خفية أو ظاهرة، ويمكن للباحث إقامة عدد من الصلات بينهما، وعلى رأسها أن كليهما خطاب في المقام الأول، ويلي ذلك أنهما خطاب سردي أو يمكن أن يوضع في خانة السرد.

وانطلاقاً مما سبق يمكن للباحث أن يقيم الصلة بين الرواية والتاريخ، وقد عدّ المؤرخ مارك بلوخ أن المؤرخ أقرب ما يكون إلى «روائي ملتزم» بنوع خاص من الحكي، يستمد حكاياته مما يحتمل وقوعه حقيقة، في مقابل روائي يستمدها مما يحتمل وقوعه مجرداً. وبهذا يكتفي المؤرخ بصناعة حكاياته، مستمداً شخوصها وزمانها وفضاءها من مصادر ووثائق تسجيلية، وأما حبكها فمتروك لمقدرة المؤرخ وحذقه على اعتبار أنه لا يصادف حزمة من الوقائع المتراصة في شكل خبر أو حكاية تعكس حدثاً سابقاً. وبذلك تتحقق للتاريخ سماته السردية المرتبطة بمحور الاختيار أولاً وبالحبك والصياغة ثانياً.

المرجعية والتاريخية

المحور الثاني، في ورشة العمل التي أقامتها الدكتورة ميساء الخواجا، حمل عنوان: الشخصية المرجعية والتاريخية، حيث أوضحت أن التاريخ والأدب خطابان سرديان، ويطالب الروائي في الرواية التاريخية بأن ينزل الشخصيات والأحداث في إطار المشاكلة وليس مجرد المطابقة، وبذلك يتيح للقارئ أن يدرك أسباب ما وقع ماضياً وما يترتب عليه من نتائج، لكنه يحتاج أيضاً إلى الأمانة التاريخية وإلى الخضوع لمقتضيات الفن الروائي من قبيل نمط القص والتبئير على شخصية أو أكثر، وإدراج العناصر في منظور واحد مما يحقق للرواية التاريخية شرط الانسجام الداخلي.

وقالت إن المؤرخ يسعى إلى بناء صورة متماسكة ذات معنى وبناء دال للأشياء كما كانت واقعياً، والوقائع كما حدثت فعلاً، أي وضع السرد التاريخي في الزمان والمكان المطابقين، وجعل فكرة الماضي تتفق مع الوثائق، كما هي حالتها المعروفة، أو كما كشف المؤرخون النقاب عنها. الروائي يضعها في إطار الحدث والزمان المتخيلين، غير منضبط بوجود ثابت ومحدد بصورة نهائية، ويعيد تشكيل الأحداث والشخصيات بآلة التخييل وفق منطق اتساق الأحداث ومكوناتها.

ويمكن أن تضمر الأحداث في بعض الروايات التاريخية وتأتي فقط خلفية لتفسر سلوك الشخصيات ومواقفها (مثلاً ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، الباغ لبشرى خلفان)، ويمكن أن تأتي الشخصية التاريخية لتقوم بدور مرجعي يسند الأحداث والشخصيات المتخيلة ويؤطرها ويوحي بمنطلقاتها ونتائجها.

وأوضحت أنه يمكن للرواية التاريخية أن تزاوج بين الشخصيات التاريخية والشخصيات المتخيلة، ويمكن استحضار شخصيات تاريخية لتساهم في الفعل وفي تحريك المتخيل، أو يخلق الكاتب شخصيات متخيلة من وحي الشخصيات التاريخية لتقوم بعبء حمل المتخيل والتاريخي في الوقت نفسه. كما يمكن أن يسند الروائي أعمالاً غير تاريخية إلى الشخصيات التاريخية، وأعمالاً تاريخية للشخصيات المتخيلة.

ركزّت ورشة عمل على دور التاريخ في الكتابة الروائية

التاريخ والهوية السردية

حمل المحور الثالث عنوان: وظيفة التاريخ وبناء الهوية السردية، وقالت الخواجا إن ما يفعله الروائي في كتابة الرواية التاريخية أن يستحضر روح العصر الذي اختاره لزمن حكايته، وما يهمه ليس ما حدث في ذلك العصر لكن كيف أثر ذلك على ثقافة الناس وحياتهم الاجتماعية التي تمثلها شخصياته، وكيف أثرت الأحداث التاريخية المفصلية على تلك الشخصيات. أي أنه يسعى إلى دفع الظروف التاريخية إلى خلق وضع وجودي جديد للشخصيات يمكّن من فهم التاريخ في حد ذاته وتحليله بوصفه وضعاً إنسانياً ذا مدلول وجودي كي لا يتحول الروائي إلى مؤرخ.

وقالت: يبني الكاتب شخصياته (تاريخية أو متخيلة) ويصنع لها «هوية سردية»، تتطور وتخضع للتحولات، فلا نكاد نجد شخصية روائية مكتملة البناء، بل تنمو وتتطور هويتها وتتكشف تدريجياً، وقد لا تكتمل مع اكتمال الرواية فيلعب الخيال دوراً حاسماً في بلورة صورتها. إن الهوية ضمن الخطاب السردي هي تخييل، وهي ما نتخيله وليست مجرد ما نسترجعه. وما نراه في الرواية عامة والرواية التاريخية هو بناء هوية سردية أي عبارة قصة حياة الشخص الداخلية والمتطورة التي تدمج الماضي المعاد بناؤه والمستقبل المتخيل لتزويد الحياة ببعض الإحساس بالوحدة والهدف.