إحسان عبد القدوس يطلّ بعوالمه ونسائه في الحيّ الثقافي «كتارا»

معرض وندوات عن سيرة الأديب المصري بين الصحافة والسياسة والرواية

إحسان عبد القدوس يطلّ بعوالمه ونسائه في الحيّ الثقافي «كتارا»
TT

إحسان عبد القدوس يطلّ بعوالمه ونسائه في الحيّ الثقافي «كتارا»

إحسان عبد القدوس يطلّ بعوالمه ونسائه في الحيّ الثقافي «كتارا»

يطلّ الأديب المصري إحسان عبد القدوس، في الحيّ الثقافي «كتارا» في العاصمة القطرية، الدوحة، على ساحل الخليج العربي، ليستعرض عوالمه بين الصحافة والسياسة والرواية والأعمال السينمائية وحتى نساءه.

عبر مجموعة من اللوحات والملصقات والصور والمطبوعات وكذلك مؤلفات الأديب المصري الراحل، يقدم معرض إحسان عبد القدوس جولة بانورامية في حياته الصاخبة بالحب والرومانسية مثلما كانت صاخبة بالصحافة والمواقف السياسية والمقالات الهجومية التي ساقته مراراً نحو السجون، وتلك الأعمال الأدبية التي حملت مضامين سياسية معارضة وتمّ تصويرها في السينما، بينها روايته: «دمي ودموعي وابتساماتي» ورواية «الرصاصة لا تزال في جيبي»، و«الراقصة والسياسي»، و«حتى لا يطير الدخان»، وغيرها.

اختارت «كتارا» إحسان عبد القدوس ليكون «شخصية العام»، وذلك في إطار تقليد سنوي درجت عليه لجنة الجائزة في الاحتفاء بشخصية أدبية عربية تركت بصمة واضحة في مسيرة الأدب العربي.

وتشتمل فعالية «شخصية العام» على معرض صور يوثق أهم محطات إحسان عبد القدوس (1919 - 1990)، إلى جانب معرض «نساء في روايات إحسان عبد القدوس» الذي يعرض أشهر بطلات رواياته، إلى جانب الندوات التي تتناول أعمال إحسان عبد القدوس الروائية؛ من قبيل ندوة «دور إحسان عبد القدوس في إثراء الرواية العربية»، وندوة «الرواية العربية الرومانسية بين الواقع والمأمول»، إلى جانب معرض عن أعمال إحسان عبد القدوس، ومعرض متخصص عن «نساء في روايات إحسان عبد القدوس».

بين الصحافة والرواية

يُعّد إحسان عبد القدوس من أكثر الروائيين العرب إنتاجاً، حيث ألف أكثر من 600 رواية وقصة، ووصلت عدد رواياته التي تحولت إلى أفلام ومسلسلات قرابة الـ70 فيلماً ومسلسلاً سينمائياً وتلفزيونياً، حيث شارك في كتابة السيناريو والحوار للكثير منها، بالإضافة إلى خمس روايات حُوّلت إلى نصوص مسرحية، وتسع روايات أصبحت مسلسلات إذاعية، وترجمت الكثير من رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوكرانية والصينية.

دخل عبد القدوس ساحة الأدب الروائي من بوابة الصحافة، حيث تولى رئاسة تحرير مجلة «روز اليوسف» التي أسستها والدته روز اليوسف وكان عمره وقتها 26 عاماً، كما تولى رئاسة مجلس إدارة المؤسسة بعد وفاة والدته عام 1958، لكنه لم يمكث طويلاً فقدم استقالته بعد ذلك، وترك رئاسة المجلة لأحمد بهاء الدين، وتولى بعدها منصب رئيس تحرير جريدة «أخبار اليوم» مرتين، الأولى من عام 1966 إلى عام 1968، والثانية من عام من 1969 حتى 1974، ثم عين في منصب رئيس مجلس الإدارة إلى جانب رئيس التحرير في الفترة بين 1971 إلى 1974، انتقل بعدها للعمل كاتباً بصحيفة «الأهرام»، وفي عام 1975 عُيِن رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة «الأهرام» واستمر يشغل هذا المنصب حتى عام 1976، ومن بعد هذا المنصب عمل كاتباً متفرغاً ومستشاراً بصحيفة «الأهرام».

«ابن الست»

«روز اليوسف» هي أول امرأة في حياته، والمرأة التي صاغت شخصية إحسان عبد القدوس، والتي يقول عنها: «أمي صنعت هذا الرجل. صحيح أنني ثرت على لقب (ابن الست) الذي ظل يطاردني سنوات وسنوات، ولكني لم أرفض هذا اللقب. لا أدري كيف استطاعت أن تحملني تسعة شهور، وهي واقفة على خشبة المسرح، تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يوماً أعظم ممثلة في الشرق».

بدايتها من الإسكندرية، حين دخلتها وهي طفلة في الثانية عشرة من العمر، هاربة من باخرة متجهة إلى البرازيل في محطة ترانزيت في الإسكندرية. لتدخل الطفلة أرض مصر تائهة وتُغيّر فيها عالم المسرح والصحافة كاملة.

وفي شبابها، انضمت روز إلى فرقة في المسرح تقوم بقراءة المونولوجات على أصوات الموسيقى بين فقرات المسرحيات، وارتبطت بعلاقة حبّ مع زميلها في هذه الفرقة الفنان محمد عبد القدوس حيث تزوجا، وفي عام 1919 أنجبت روز ابنهما، إحسان.

وتلقى الولد تربية متناقضة، ففي بيت جده لأبيه كان يتلقى الدروس الدينية، وكانت عمته نعمات تتولى تربيته بطريقة محافظة على النقيض من شخصية والدته. وفي أيام الإجازة الصيفية، كان إحسان يزور والدته التي تتألق تحت أضواء المسرح، ويستمع إلى ندوات الفن والأدب التي تنادي بالحرية وكسر قيود المجتمع.

ويقول عن هذه التجربة: «لقد استطعت التوفيق بين هذه المتناقضات في حياتي - بحيث لم تفسد شخصيتي كإنسان، ولم تقض على مواهبي - بالحب. الحب هو الذي أعانني على مواجهة كل هذه التناقضات في حياتي الأولى».

وظلت روز اليوسف شخصية مؤثرة في حياة إحسان عبد القدوس، خلال حياته الصحافية في المجلة التي حملت اسمها «روز اليوسف»، كما كانت ترعاه أثناء الفترات التي قضاها في السجن، حتى توفيت في العاشر من أبريل (نيسان) عام 1956 عن عمر يناهز الواحد والستين.

المرأة الثانية في حياة إحسان عبد القدوس هي زوجته لواحظ عبد المجيد الملقبة بـ«لولا» التي تزوجها وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويقول عنها: «عرفتها في مطلع 1942 ولم تستطع أي امرأة أن تزحزحها... هي حبي ومكانها في قلبي».

قلم مشاكس

في عام 1944، بدأ إحسان يكتب باباً في مجلة «روز اليوسف» بعنوان: «الأسبوع حوادث وخواطر»، لكن قلمه ظل ناقداً للأوضاع القائمة مما فتح عليه باباً من النقمة حيث شهدت مسيرته العديد من التهديدات ومحاولات الاغتيال والتعرض للاعتقال والسجن. وكانت مقالة «الأسلحة الفاسدة» الأشهر في تاريخه وفيها تناول فضيحة «الأسلحة الفاسدة» عبر مجلة «روز اليوسف» في يوليو (تموز) عام 1950.

وتسببت هذه المقالة له في محاولتي اغتيال، كما تم زجه في السجن للمرة الثانية، وسجن كذلك في 28 أبريل (نيسان) 1954 بعد أن كتب مقاله الشهير «الجمعية السرية التي تحكم مصر»، وأطلق سراحه في 31 يوليو (تموز) عام 1954 بعد قضائه 90 يوماً في السجن الحربي.

بعد هذا المشوار، تحول إحسان عبد القدوس من السياسة إلى الحب، حيث بدأ في بداية الخمسينات بالانتقال من كتابة المقالات السياسية الجريئة للتركيز في كتابة القصة الرومانسية، ولم تخلُ من طرح قضايا جدلية أيضاً.

وكانت مجموعته القصصية بعنوان: «صانع الحب» أول عمل أدبي وكتبها عقب زيارته لأوروبا عام 1946، وهي تصور الانبهار الذي يشعر به المصري حين يزور أوروبا للمرة الأولى.

نساء من عالم روايات عبد القدوس

من بين نساء روايات إحسان عبد القدوس تبرز «ناديا» الشابة الصغيرة التي تتحلى بجمال ملائكي تندس خلفه نفس شديدة السواد متوقدة الذكاء، ولكن ذكاءها يتحول إلى مكر تستخدمه في مضرة من حولها. الرواية كتبت عام 1955 ونُشرت في يناير 1969، تقول البطلة: «أنا الخير والشر معاً... لأني إنسان».

ومثلها «علية» الفتاة التي كانت تسابق الزمن لكي تصبح سيدة مجتمع فتتزوج في سن الخامسة عشرة من رجل خمسيني فاحش الثراء.

في رواية «أين عمري» التي كتبت 1954، يقول على لسانها: «إن العمر لا يحتسب بالسنين، ولكنه يحتسب بالشعور؛ فقد تكون في الستين وتشعر أنك في العشرين، وقد تكون في العشرين وتشعر أنك في الستين»!

وكذلك «سوزيت» في رواية «النظارة السوداء» 1952، المنحدرة من عائلة ثرية سورية الأصل، وتحمل جوازاً فرنسياً وتنتمي للطبقة الأرستقراطية في مصر حقبة الأربعينات. واسم «سوزيت» فرنسي ويعني زهرة الزنبق، التي ترمز إلى البراءة والنقاء لكنها خلاف ذلك شخصية متناقضة بعيدة عن النقاء والبراءة. وبعد أن تدهورت حالتها المادية، أصبحت منبوذة من مجتمع الأثرياء لتتحول شخصية هادئة ذات روحانية عالية متذوقة للفن والجمال.

وشخصية «أمينة» في رواية «أنا حرة» 1952، اليتيمة التي تربت في منزل عمتها في بيئة متزمتة وشديدة القيود على الأنثى. وكانت عمتها مثالاً للمرأة الشرقية المحافظة. والرواية تناقش القيود الاجتماعية الصارمة لتنتهي بأن الانضباط الأخلاقي والاستقامة لا يمكن أن يتحققا بالحرمان والقمع، وإنما بمنح الأبناء الثقة والحرية.


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب