المقهى... فضاءً تشكيليّاً

عمر الفيومي يلتقط همسات رواده ببساطة وتلقائية

المقهى... فضاءً تشكيليّاً
TT

المقهى... فضاءً تشكيليّاً

المقهى... فضاءً تشكيليّاً

يشكل عالم المقهى فضاءً جمالياً أثيراً في أعمال الفنان التشكيلي المصري عمر الفيومي، فلا يكف عن ملامسته والتحاور معه ومناجاته كأنه مخزن أسراره. فهو عالم مريح ينعكس في لوحاته بحيواته الإنسانية الدافقة، وبشره المفعمين بالونس والألفة. ويحرص الفيومي دائماً على إبراز حالة من التناظر الموسيقي بين مفردات هذا العالم والتي لا تتجاوز طاولة وبضعة كراسٍ، ومساحة من الفراغ الرخو، تظللها وجوه مسكونة ببهجة الفرح وبراءة الحزن ولهفة الترقب؛ وهو ما برز على نحو لافت في معرضه «وجوه ومقاهي» الذي استضافه أخيراً غاليري بيكاسو بالقاهرة.

في هذا المعرض يجدِّد الفيومي ولعه بعالمه الأثير، وبعاطفة بصرية هادئة يندمج في تفاصيله، يلتقط رائحته من ملامح الوجوه ومساقط النور والزوايا والظلال وكأنها مرايا متجاورة تنعكس عليها مرآته الخاصة. وفي كل هذا دائماً يحرص على نقطة ثبات جوهرية لا يغامر بالابتعاد عنها أو التمرد عليها، تتمثل هذه النقطة في تبسيط الشكل؛ وهو ما ينعكس تلقائياً على التكوين، حيث ينأى عن التعقيد والإيغال في الرموز والدلالات والعلامات؛ ومن ثم يرسم الشخوص بألوان زيتية - في الغالب - مسطحة وبسيطة تنعكس على الخلفية أيضاً، حيث يغمر اللونُ الصورة، وبمسحة من الفانتازيا يشدها إلى زوايا مباغتة موحداً الأعلى بالأسفل، والخلف بالأمام بعفوية بصرية سلسة لا عناء فيها.

بلغت هذه البساطة ذروتها الفنية بخاصة في اللوحة التي شكلت «بوستر» المعرض، حيث تطالعنا على أرضية المقهى مجموعات من البشر، تشي ملامحهم بأن ثمة حواراً لطيفاً وشجياً يسري فيما بينهم، بينما في الأعلى يطل عليهم ملاك في صورة إنسان، محلقاً بجناحيه في الفضاء، وتتسع دائرة التحليق، فنجد كرسياً طائراً أيضاً، بينما تتداعي صور البشر في الخلفية، وكأنها حلم يتراءى من بعيد، تظلله سماء المقهى في الداخل، والسماء ببراحها اللانهائي في الخارج.

يبدو كل هذا منسجما مع رؤية الفنان؛ فهو يرى أن اللوحة ابنة البشر والحياة، تنبع من خطاهم وهواجسهم وأحلامهم. وأن هذه النقطة هي رمانة ميزان تحفظ للصورة ألفتها على السطح وفي العمق، وفي الوقت نفسه، تكسبها مقدرة الانفتاح بحيوية على جغرافيا المقهى في الداخل والخارج. فالمقهى في اللوحات يبدو منفتحاً على الشارع، يطل عليه بأنفاس رواده، كما تنعكس عليه هواجسهم وهمساتهم، فهو دائماً مسكون بدبيب البشر وخطاهم اللاهثة في غبار الشارع والتي تتحول في اللوحات حالة لها رنين خاص، وذبذبة بصرية خاطفة وشيقة، تتضافر فيها أقصى لحظات النشوة والصمت. في خضم هذه النشوة نكتشف أن ثمة تبادل أدوار بين العالمين (المقهى والشارع)، كأن كليهما يفتش في الآخر عن لحظة من الأمان والحنان، مسروقة من جراب الزمن والواقع والحياة. هذا الهم الإنساني لا يأتي من فراغ، بخاصة إذا علمنا أن الفنان لا يرسم أي مقهى، إنما يرسم مقهى «الحرية»، الشهير بحي «باب اللوق» بوسط العاصمة، وهو أحد مقاهي القاهرة التي تتفرد بإرث خاص وعبق ضارب في التاريخ، ومكانة لدى قطاع كبير من الفنانين والشعراء والأدباء. ومن ثم يشكل المقهى، وعلى نحو خاص للفنان مساحة رحبة من النوستالجيا واللهفة للماضي، فضلاً عن كونه فضاءً جمالياً مفتوحاً على قوسي البدايات والنهايات.

تدفع الخلفية الأشكال في لوحات المعرض لتستوي في فضاء الصورة ببساطة وتلقائية، كما تُكسب إيقاع الخطوط حريةً في تنويع حركة الضوء والظل، ومن السمات الجمالية اللافتة هنا أن الصورة لا تخفي الشكل في داخلها، وإنما تحنو عليه وتحتويه، كأنه ثمرة من ثمرات الطفولة، طفولة المقهى والفنان معاً.

يكثف من أجواء هذا التنوع في المعرض حالة من التلاقح بين ثلاثة عوالم تشكيلية بينها ملامح مشتركة وعضوية، أولها عالم «البورتريه»، وهو عبارة عن صورة منفردة لامرأة أو رجل، لا تخلو منها معارض الفنان، ويهتم الفيومي في هذا العالم بالتعبير عن الوشائج التي تربط ملامح الشخصية بوعيها الظاهر والباطن، كما ينعكس على عين الفنان، ومدى قربه من الشخصية، سواء بشكل مباشر، أو عن طريق وسائط تلعب الذكريات فيها دوراً مهماً، يحاول الفنان أن تظل حاضرة في الرسم. وفي عالم الوجوه لا يكف عن اللعب مع نموذجه الأمثل المتمثل في «وجوه الفيوم» بسحرها الفني وألقها التاريخي المعروف، حريصاً على أن تتمتع الوجوه ببعض السمات الفرعونية، رغم حداثة الموضوع.

ويومض العالم الثالث بإيقاع المنظر الطبيعي، أو الحياة الساكنة، وهو الطابع الذي يسيطر على أجواء لوحات المقهى، فلا ضجر ولا صخب، بل عالم هادئ ومحايد، شديد الألفة والاعتيادية، هو ابن الطبيعة الإنسانية السمحة، بين جدرانه وعلى طاولاته تتخلص الوجوه من صلابة وجهامة الأشياء، وتلتقط أنفاسها بمحبة خالصة. ومن ثم يصبح الصمت إشارة وعلامة على حوار كتوم كامن في دواخل الشخوص، تخشى عليه من فوضى الخارج؛ لذلك تكتفي بالنظرة الخاطفة والإيماءة الشجية لبعضها بعضاً.

يرى الفنان أن اللوحة ابنة البشر والحياة تنبع من خطاهم وهواجسهم وأحلامهم

ينعكس هذا الصمت على صورة الكراسي الفارغة، ويطرح في الوقت نفسه سؤالاً ملحاً: ما الجديد هنا، ومفردة «الكرسي» متداولة في الفن التشكيلي، وأصبحت تيمة أساسية في منظور الرؤية لدى الكثير من الفنانين المؤسسين لتاريخ الفن في العالم. ومن أشهرها لوحة بيكاسو «حياة ساكنة مع كرسي خيزران» التي رسمها في عام 1912، وكان همّه معالجة تداعيات الأشياء في الصورة الساكنة بطرق فنية متنوعة، حتى باستخدام الخداع البصري، وحشو الصورة بأشياء متوهمة متخيلة، وعوضاً عن عدم استخدامه للون قام بلصق شرائح من القماش الزيتي، بطريقة الكولاج على مسطح الصورة، لتوهم بطبيعة النسيج المتغلغل لأعواد القصب في الكرسي. لقد أحدثت لوحة بيكاسو آنذاك ضجة في الأوساط الفنية، والبعض عدّها ثورة في الرسم، لكن سرعان ما انطفأ بريقها، وأصبح مجرد توثيق للحظة ابنة المغامرة الخلاقة في الفن.

على العكس من ذلك، يحافظ الفيومي على الطبيعة في قوامها الاجتماعي والإرث الشعبي للمنظر، شغوفاً بالأثر، ليس كحقيقة ماضوية، وإنما معاشة يمكن أن تمنحنا نفسها بشكل جديد. لذلك؛ يرسم الكرسي الخشب بسمته الشعبي المعروف، والذي بات مهدداً بالانقراض، مع طغيان الكراسي المصنوعة من البلاستيك، والألياف الصناعية. وهو الكرسي نفسه الذي لا يزال يجلس عليه بمقهاه المفضل، لقد أصبح وعاءً فنياً، يحفظ الكثير من خبرته البصرية ورهافته في التعامل مع الخامة والألوان والخطوط؛ لذلك يحافظ على معمار الكرسي، وقشرته البنية الخفيفة، ومسندة المقوس المريح، وينعكس هذا على الطاولة أيضا، بسطحها الرخامي الأملس وأرجلها الحديدية الصلبة، فيحرص على حيويتها حتى وهي شاغرة تنتظر القادمين، كما يحرص على انسيابية الألوان، فلا تتداخل في مساحات متناقضة ومتنافرة تشتت الصورة، إنما يؤكد دائماً على مصدرها الطبيعي، وأن الفن في المقهى هو تعبير حي، لا ينفصل عن حركة الحياة في الخارج.


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.