ثور تيماء يقف بثبات على قوائمه الأربعة

نقشٌ ناتئ يتجلى أسلوبه المتقن بتصوير النسب والتفاصيل

الثور كما يظهر في قطعتين أثريتين من تيماء
الثور كما يظهر في قطعتين أثريتين من تيماء
TT

ثور تيماء يقف بثبات على قوائمه الأربعة

الثور كما يظهر في قطعتين أثريتين من تيماء
الثور كما يظهر في قطعتين أثريتين من تيماء

تقع واحة تيماء في الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وهي اليوم إحدى المدن السعودية التابعة إدارياً لمنطقة تبوك، وتُعرف بالعديد من المعالم التاريخية المثيرة. كشفت دورات التنقيب المتلاحقة في هذه الواحة عن العديد من النقوش والقطع الأثرية، منها لوح يحمل نقشاً ناتئاً يمثّل ثوراً يقف بثبات على قوائمه الأربعة، وقطعة جزئية من مجسّم خزفي على شكل رأس ثور.

عُثر على لوح الثور خلال حملة التنقيب التي جرت بين خريف 2005 وربيع 2006، كما يشير التقرير الثالث الخاص بالمشروع الآثاري الألماني المشترك الذي نُشر في العدد 21 من حولية الآثار العربية السعودية التي تحمل اسم «أطلال». يذكر هذا التقرير بشكل عرضي «قطعتين أثريتين في المخلفات الحجرية»، تتمثّل في حجر مربّع، وحجر آخر من الطراز نفسه «نُحت عليه رسمة ثور وإنسان». ونقع على صورة فوتوغرافية ضمن الملحق الخاص بهذا التقرير تمثّل هذا الحجر، حضر فيها الثور بشكل جليّ، وغاب عنها الإنسان بشكل كامل.

يتميّز هذا النقش الناتئ بأسلوبه المتقن الذي يتجلّى بتصوير النسب ومجمل التفاصيل التشريحية. يحضر الثور من الوجهة الجانبية، واقفاً بثبات على قوائمه. ويبدو رأسه المرفوع كأنه يميل بشكل طفيف إلى الوجهة نصف الجانبية، كما يتضح من موقع العين والأنف والفك والأذن. محيط الصدر عريض، ويتميّز بسلسلة من العروق المتوازية تجسّد أضلاعه الأمامية. الظهر مستوٍ وطويل، مع انحناءة بسيطة في الوسط. البطن عريض ومجرّد، مع انحناءة موازية مماثلة في الوسط تحدد موقع الخاصرة. القائمتان الأماميتان منجزتان بدقة تُظهران في تحديد مفصلي الفخذين والركبتين والحافرين. أما القائمتان الخلفيتان فقد ضاعتا للأسف، ولم يبقَ منهما سوى الجزء الأعلى من مفصلي الفخذين. ينتهي ردف الظهر بمؤخرة نصف دائرية، يعلوها ذيل عريض يتدلّى بشكل ملتوٍ، تحدّه كتلة دائرية عريضة في طرفه الأسفل.

في المقابل، عُثر على رأس الثور الخزفي خلال حملة التنقيب التي جرت في 2011، كما جاء في التقرير الخاص بهذه الحملة الذي نُشر في العدد 27 من حوليّة «أطلال». تضمّن هذا التقرير صورة لهذه القطعة الجزئية مع تحديد لمقاساتها، وهي 6 سنتيمترات طولاً، و4 عرضاً، و7.5 عمقاً، كما تضمّن وصفاً علمياً لها يحدّد الموقع الذي عُثر فيه على هذا الرأس. وبحسب هذا التقرير، لم يكن القسم العلوي والخلفي للرأس موجوداً، «بالإضافة إلى القرن الأيسر، أما القرن الأيمن فبقي محفوظاً بالكامل». للأسف فُقدت «بقية التمثال ابتداءً من الرقبة»، ولم يُعثر عليها، «وبالنسبة لحالة الرأس فقد بقيت الطبقة المصقولة بحالٍ جيدة باستثناء المنطقة المحيطة بالفم التي يتراوح لونها ما بين الأخضر الفاتح والأخضر المزرق الغامق، وتُعدّ التفاصيل الأخرى كالعيون والقرون واضحة ومرئية، في حين يمثل نتوء بسيط في مؤخرة الرأس العرف، أما المربع الموجود على الجبهة فقد يكون جزءاً من شكل هلالي».

في دراسته الخاصة بمعبودي جنوب الجزيرة العربية، رأى الباحث اليمني محمد سعيد القطحاني أن الثور أثار بقوته واندفاعه الإنسان الأول، وجعلت منه قدرته الإخصابية منذ فجر التاريخ نموذجاً لعطاء الطبيعة الجامحة، ورمزاً «للرجولة والذكورة، والنمو والتكاثر»، وهكذا برز في المعتقدات القديمة، «فكان سيد الحيوانات والنموذج الأعلى البدائي لها»، وكان في العديد من الحضارات القديمة رمزاً لكبار المعبودين، كما في جنوب الجزيرة العربية حيث ارتبطت صورته بالمعبود الرئيسي «الممثل بالقمر، والذي عُبد بتسميات عدة: المقة، وعم، وود، وسين، وسمع، وتألب، وغيرها». تعدّدت صور رؤوس الثور في هذه الناحية من الجزيرة، وتبدّلت وظائفها ورموزها. كذلك ظهر الثور بشكل كامل على لوحات منقوشة وموائد قرابين ومذابح وأوانٍ ومسكوكات، «كما مُثّل على جدران المعابد من الداخل والخارج وعلى المداخل».

في تيماء، يظهر الثور على أشهر قطعة أثرية خرجت من هذا الموقع، وهي المسلة التي عثر عليها «مكتشف تيماء» المستشرق الفرنسي شارل هوبير في محيط هداج في 1884، واقتناها يومذاك بمبلغ زهيد من المال. في العام التالي، دخلت هذه المسلة متحف «اللوفر» في باريس بعد مصرع مكتشفها، وشرع كبار البحاثة في دراسة نقشها الكتابي الطويل الذي يتحدّث عن إقامة عبادة معبود يُدعى «صلم هجم». على طرف الإطار الجانبي لهذه المسلة، يظهر نقش تصويري ناتئ يجمع بين مشهدين. في المشهد الأعلى، يقف كاهن يحمل صولجاناً طويلاً. وفي المشهد الأسفل، يقف متعبّد يرفع ذراعيه في اتجاه مذبح يعلوه رأس ثور. وترافق هذا المتعبد كتابة بالخط الآرامي، تذكر اسم «صلم شزب».

في شتاء 1979، في خربة تقع في الجهة الشمالية من واحة تيماء وتُعرف بـ«قصر الحمراء»، عُثر على مكعب من الحجر الرملي، له وجهان مزينان بنحت غائر وبارز. على الوجه الأول، كما على طرف مسلة «اللوفر»، يظهر متعبد يتقرّب من مذبح مدرّج يعلوه رأس ثور يتميّز بقرص شمسي يستقرّ بين قرنيه الطويلين. وعلى الوجه الثاني، يظهر ثور كبير صُوِّر كاملاً بوضعية جانبية، يعلو رأسه كذلك قرص شمسي مماثل، ويحضر من أمام هذا الثور متعبّد آخر يحمل قرباناً بين ذراعيه الممدودتين. يشابه الثور المكتشف بين خريف 2005 وربيع 2006 هذه الصورة بشكل عام، مع اختلاف في التفاصيل، ويظهر هذا الاختلاف بشكل أساسي في غياب القرص الشمسي الذي يكلل رأس الثور على وجهي مكعّب «قصر الحمراء».

يخرج رأس الثور الخزفي الذي عُثر عليه في 2011 عن هذا السياق بشكل كامل، ويُعيد تكوينه إلى الذاكرة تماثيل نذرية من الحقبة السومرية البعيدة تمثّل ثوراً جاثياً، ومنها قطعة محفوظة في متحف «اللوفر» مصدرها أوروك، وقطعة محفوظة في المتحف البريطاني مصدرها أور، وقطعة مرصّعة بزخارف من اللازورد تسلّمتها أخيراً سفارة جمهورية العراق في واشنطن من المدعي العام لمدينة نيويورك، وفقاً «لدبلوماسية الاسترداد»، مصدرها كذلك أوروك.


مقالات ذات صلة

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

كتب روبرت نوزيك

«مشروع 25» وفيلسوف وراء الترمبيّة

لم تعد تصريحات الرئيس الأميركيّ دونالد ترمب ومواقفه تثير القلق الشديد عند نصف مواطنيه أو الحماس الصاخب عند نصفهم الآخر فحسب، بل وتحولت إلى ما يشبه عرضاً يومياً

ندى حطيط
ثقافة وفنون شوقي ضيف

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

ذهبيات ساروق الحديد في إمارة دبي

تحوي إمارة دبي مواقع أثرية عدة؛ أبرزها موقع يُعرف باسم ساروق الحديد، يبعد نحو 68 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة دبي، ويجاور حدود إمارة أبوظبي.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون Instagram, Facebook and WhatsApp/ /dpa

كيف تقتلنا شبكة الإنترنت؟

قبل أن ينتشر التنوير بمختلف أرجاء أوروبا، ويُلهم أمثال توماس باين وتوماس جيفرسون داخل أميركا في عهد الاستعمار، كان يجري النظر إلى أغلب الناس

فرانك ماكورت
ثقافة وفنون «عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة

منى أبو النصر (القاهرة)

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي.

ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية.

ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار.

ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية.

وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف.

وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع.

وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق.

وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي.

ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا.

وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟