لماذا انتحر جيرار دو نيرفال؟ أم أنه مات مقتولاً؟

كانت الأم الغائبة هي الجرح الأساسي الذي فجّر في أعماقه شعلة الأدب

جيرار دو نيرفال
جيرار دو نيرفال
TT

لماذا انتحر جيرار دو نيرفال؟ أم أنه مات مقتولاً؟

جيرار دو نيرفال
جيرار دو نيرفال

يعدُّ جيرار دو نيرفال (1808 - 1855) أحد كبار أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى فيكتور هوغو، وبودلير، وبلزاك، وفلوبير، وستندال، وبقية العمالقة. وعلى الرغم من أنه لم يعش أكثر من 47 عاماً فإنه ترك وراءه أدباً عظيماً. لقد ولد في باريس، ولكن أمه ماتت بعد سنتين من ولادته. والواقع أن المسكينة أخطأت إذ رافقت زوجها الطبيب العسكري إلى ألمانيا مع جيش نابليون الكبير بعد أن وضعت طفلها مباشرة. وبما أنها لم تتحمّل خضات الحملة العسكرية وتقلبات الطقس والأجواء، فقد أصيبت بالحمى وماتت وهي في الخامسة والعشرين فقط. وهذه الأم الغائبة هي الجرح الأساسي الذي فجّر في أعماق جيرار دو نيرفال شعلة الأدب. لقد أصبح غيابها حاضراً كل يوم، أصبح أقوى من كل حضور. فبعد أن كبر لم يفهم لماذا تركته أمه وهو رضيع، ورافقت زوجها في الحملة العسكرية. لماذا لم تبقَ في البيت كي ترضعه وتربيه وتشرف عليه؟ لقد أحس نيرفال بالهجران منذ البداية. أحس وكأنه مهجور أنطولوجياً، أزلياً، أبدياً، أي قبل أن يخلق تقريباً! وأدرك عندئذ أن الإنسان ملقى في هذا العالم وحده، ولا يمكنه أن يعتمد حتى على أقرب المقربين. وربما كان هذا هو السبب الذي أدى إلى اختلاله النفسي لاحقاً. الإنسان وحيد، ووحدته شاسعة واسعة لا حدود لها.

أول من ترجم فاوست لغوته

وبما أنهم قبروا أمه في ألمانيا فإنه ظل يشعر طيلة حياته بعواطف الحنين إلى تلك البلاد. ولهذا السبب كان يحب ألمانيا أكثر من فرنسا تقريباً. ألا يضم ثراها قبر الأم الحبيبة؟ لقد أصبحت الأرض المقدسة والوطن الأعظم بالنسبة له. ولذلك راح يترجم الأدب الألماني بكل شغف. فهو أول من ترجم غوته إلى اللغة الفرنسية. وكان يحج إلى هناك من حين إلى آخر لكي يرى قبرها، لكي ينحني عليه ويقبله ويمرغ وجهه بتراب القبر. فهي لم تتركه كرهاً به وإنما ضرب القدر ضربته. وعندما عاد أبوه من الحرب بعد مرور عدة سنوات كان نيرفال قد بلغ السادسة من العمر، وأصبح صبياً صغيراً يلعب مع أولاد الجيران. ونظر إليه والده في البداية دون أن يعرفه، ثم هجم عليه وضمّه إلى صدره بقوة وكأنه يراه لأول مرة. فتضايق الصبي من شدة الضمّ والعناق وحاول أن يدفع أباه قائلاً: «يا أبي إنك توجعني!»، فاشتهر بهذه الكلمة فيما بعد.

الحب الفاشل والرحلة إلى الشرق

ثم وقع جيرار دونيرفال في الحب عام 1834، فقد تعلق بمطربة كانت مشهورة في ذلك الزمان وتدعى جيني كولان. ولكنها ضحكت عليه بعد أن بادلته العواطف لفترة قصيرة. فقد فضلت أن تتزوج رجلاً آخر ذا مستقبل راسخ ومضمون من الناحية المادية. فماذا يمكن أن تفعل مع شاعر بوهيمي متسكع من حارة إلى حارة، ومن حانة إلى حانة في شوارع باريس؟ وأي أمل في هؤلاء الشعراء والأدباء؟ وهل الأدب يُطعم خبزاً؟ ولكن حبها ظل عالقاً في قلبه، والدليل على ذلك أنها عندما ماتت فجأة عام 1842 أحسَّ بلوعة وحسرة على الرغم من أنها كانت متزوجة من غيره. وبكاها بكاءً مراً. وقد تخمَّر كل ذلك في أعماقه النفسية الدفينة قبل أن ينفجر لاحقاً في روائع أدبية خالدة. وبعد موت حبيبته الأساسية قام جيرار دو نيرفال برحلة شهيرة إلى الشرق، أي إلى مصر، وسوريا، ولبنان، وتركيا أساساً. فهل كان يريد أن يعزّي نفسه، أن ينسى؟ ورحلته إلى منطقتنا تعدُّ وثيقة أدبية وتاريخية من الطراز الأول. فمن يُرِد التعرف على أوضاع بلادنا في القرن التاسع عشر يجب أن يقرأها. علاوة على ذلك فهي مكتوبة بلغة ذاتية، شخصية، شاعرية، لا تضاهى.

أدرك دو نيرفال أن الإنسان ملقى في هذا العالم وحده... الإنسان وحيد، ووحدته شاسعة واسعة لا حدود لها

المرض النفسي والأعمال الكبرى

لقد خسر نيرفال كل شيء، بل وخسر حتى توازنه الشخصي، وهذا أخطر شيء. فقد أصيب عام 1841 بأول أزمة نفسية في حياته، ولكنها للأسف لم تكن الأخيرة. فقد تلتها أزمة أخرى أشد وأعنف عام 1851، وبين الأزمتين راح يكتب أجمل مؤلفاته. بل وحتى عندما كان معتقلاً في المصح العقلي أو في مستشفى المجانين كما نقول، فإنه راح يكتب بعضاً من روائعه الخالدة. انظر: «بنات النار»، و«نزهات وذكريات»، و«أوهام وخيالات»، و«أوريليا أو الحلم والحياة»... إلخ. ثم تدخل الأصدقاء لتحريره ولكن ضد رأي الطبيب الذي لم يكن واثقاً من أنه استرد توازنه النفسي فعلاً. وللأسف فقد كانت توقعاته صحيحة. فقد وجدوه بعد فترة قصيرة مشنوقاً في ساحة «شاتليه» الواقعة في وسط العاصمة الفرنسية. كانت ليلة ليلاء، شديدة البرد والزمهرير، كانت ليلة ما فيها ضوء. وبعد أن دقَّ على أبواب عديدة وأُغلقت جميعها في وجهه لم يجد بداً من الانتحار كحل وحيد لمشكلته الشخصية. ويبدو أنه قال لعمته التي كان نازلاً عندها، لأنه لم يكن له بيت في أواخر أيامه: «هذه الليلة ستكون بيضاء وسوداء، لا تنتظرينني…». لقد تخلى عنه الجميع بعد أن أصيب بالمرض العقلي وفقد هيبته الشخصية. ولم يعرفوا قيمته وطيبته إلا بعد وفاته. فقد كان مشهوراً بالطيبة وحب الآخرين، ولكن لم يكن له حظ في هذه الحياة. لقد خسر جيرار دو نيرفال الحياة وربح الأدب: الأدب كأعظم وأرقى ما يكون. ولكن بودلير ظل مقتنعاً طيلة حياته كلها بأنه مات مقتولاً.

بدلاً من العالم الواقعي المحسوس راح نيرفال يبتدع عالماً آخر من صنع الخيال ويسكنه. إنه عالم لا أجمل ولا أبهى؛ عالم خالٍ من ضغائن الناس ومكرهم ومناوراتهم وشرورهم، عالم الحبيبات اللواتي لا يعطين أنفسهن إلا في الخيال. ولذلك اخترع مصطلح الأحلام «ما فوق الطبيعية». وقد أخذ السورياليون عنه هذه الكلمة فيما بعد، واعتبره زعيمهم أندريه بريتون أحد روادهم الأوائل. فالعالم الحقيقي بالنسبة له ليس عالم الواقع، ليس هذا العالم القبيح الذي نعيشه ونراه كل يوم، وإنما عالم ما فوق الواقع، أو ما وراء الواقع. إنه ليس العالم الطبيعي وإنما ما فوق الطبيعي. وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية باللغة الفرنسية. وبالتالي فهو مخترع كلمة السريالية، وليس أندريه بريتون. في العالم الواقعي لا توجد إلا الخيبات والآلام، والمصائب والنكبات، لا توجد إلا الشرور والمناورات والأكاذيب والمطبات. أما في عالم ما فوق الطبيعة أو ما فوق الواقع الذي يحلق في الأعالي فلا يوجد إلا الصفاء والنقاء، والمحبة والحبور. وهناك تستطيع أن تفعل ما تشاء، تستطيع أن تلهو وتلعب وتبني قصوراً في الهواء... أنت حر. تستطيع أن ترتب الأمور على هواك: فتصبح أغنى الناس وأنت فقير مدقع، تصبح أسعد الناس وأنت شقيٌ مهموم. هكذا راح نيرفال يتواصل مع جميع النساء اللواتي أحبهن وامتنعن عليه في هذه الحياة الدنيا. راح يلتقي بهن على أجنحة الخيال، في عالم أثيري مسحور. وكان يعتقد جازماً بأن هناك تواصلاً بين هذا العالم والعالم الآخر، ولا يوجد أي حجاب حاجز كما يتوهم معظم الناس. ولكن وحده الشاعر الملهم يستطيع أن يتصل بالعالم الآخر من خلال أحلام اليقظة وشطحات الخيال. بل إن أمه التي لم يعرفها أبداً في حياته لأنها ماتت وهو صغير جداً - كما قلنا - راحت تتجلّى له في الحلم. ففي ليلة من الليالي شعر بإشراق داخلي وهّاج، وفجأة ظهرت له امرأة ملائكية وقالت له: أنا أمك يا جيرار، أنا جميع النساء اللواتي أحببتهن بشكل عذري أفلاطوني، وبحثت عنهن طيلة حياتك دون أن تجدهن. وقريباً بعد أن تموت سوف نلتقي اللقاء الأبدي، هنا في دار الخلود. وسوف تراني لأول مرة وجهاً لوجه يا جيرار. لأول مرة سوف نلتقي يا حبيبي. فلا تخف، إني أنتظرك، نحن على موعد مع القدر. لنستمع إلى هذه القصيدة التي تلخص كل ذلك: أين هن حبيباتنا؟ إنهن في القبور/ إنهن أكثر سعادة في إقامة أكثر بهاء/ إنهن بالقرب من الملائكة في أعالي السماء الزرقاء ينشدن المدائح للعذراء! / آه، أيتها الخطيبة البيضاء! أيتها العذراء الشابة المكللة بالورود! أيتها العشيقة المهجورة التي يفتّت قلبها الألم!/

الأبدية العميقة تبتسم في عينيك… يا مصابيح العالم المطفأة توهجي في السماوات!


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».