«فوي! فوي! فوي!» فيلم مصري يطمح للأوسكار بموضوعه الساخن عن الهجرة غير الشرعية

الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

«فوي! فوي! فوي!» فيلم مصري يطمح للأوسكار بموضوعه الساخن عن الهجرة غير الشرعية

الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)
الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

يطرح فيلم «فوي! فوي! فوي!» (!Voy! Voy! Voy) الذي رشحته القاهرة لجوائز الأوسكار، موضوع الساعة وهو الهجرة غير الشرعية من الشرق الأوسط وأفريقيا، وتشكّل مصر أحد منابعها، وكذلك لبنان الذي بدأت فيه عروض الشريط الخميس، حسبما أفادت وكالة الصحافة الفرنسية.

وسيكون الفيلم الذي كتب حواره وأخرجه عمر هلال، ضمن الأفلام الساعية للتأهل إلى المرحلة النهائية في فئة أفضل فيلم أجنبي من بين عشرات الترشيحات من مختلف دول العالم.

ويروي الفيلم قصة حارس أمن يؤدي دوره محمد فراج، يعيش مع والدته في حي فقير، ويسعى للهجرة إلى أوروبا بحثاً عن مستقبل أفضل. ولكن ليس بالقارب نظراً إلى أن هذه الطريقة مكلِفة مادياً ومحفوفة بالمعاناة والخطر.

وما كان من الحارس لكي يتمكن من الانتقال إلى أوروبا إلاّ أن تظاهر بأنه فاقد البصر وانضم إلى فريق لكرة القدم للمكفوفين يستعد للمشاركة في بطولة كأس العالم في بولندا. وما لبث الكفيف المزيّف أن اكتشف أنه ليس وحده من اعتمد هذه الحيلة.

وشرح المخرج عمر هلال البالغ 48 عاماً، في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية خلال وجوده في بيروت مع أعضاء في طاقم العمل للترويج للفيلم، ظروف ولادة فكرته، فروى أنه قرأ «منشوراً على (فيسبوك) تَداوَلَه الكثير من المتابعين، عن مجموعة من الشبان المصريين انتحلوا صفة مكفوفين ووصلوا إلى بولندا وفرّوا إلى جهات أخرى».

وقال هلال الذي نشأ في السعودية وكندا: «وجدتُ في القصة تماماً ما أبحث عنه».

وجعل هلال هذه القصة العمود الفقري لفيلمه، لكنّه بنى نصه الدرامي على «أحداث ومفارقات» من صميم أفكاره.

وأضاف: «في الخبر الحقيقي، لم يكن أعضاء الفريق لاعبي كرة قدم عادية، بل لاعبي كرة بالجرس، وهي رياضة خاصة بالمكفوفين، قريبة من كرة اليد».

و«فوي» كلمة إسبانية تعني «أنا قادم»، يقولها اللاعبون غير المبصرين حين تكون الكرة معهم للتواصل مع زملائهم.

وتؤدي نيللي كريم دور صحافية يستأثر الفريق باهتمامها. وقالت الممثلة المصرية الشهيرة لوكالة الصحافة الفرنسية عن شخصيتها في الفيلم: إنها «صحافية ملّت إعداد الموضوعات التافهة، فذهبت ذات يوم لإجراء مقابلات مع شباب في نادي الإحسان، حيث تعرفت إلى عالم جديد بالنسبة إليها، ونشأت قصة إعجاب خفيفة وصدمات».

وأضافت كريم أنها «الشخصية الوحيدة في الفيلم المتفائلة بالحياة».

المخرج السينمائي المصري عمر هلال والممثلة نيللي كريم خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

«ضياع وخوف»

وأشار هلال الذي درس الإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة، إلى أن حوادث الفيلم «تدور عام 2013، أي في مرحلة ضياع وخوف وقلق» تَلَت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 التي أطاحت الرئيس المصري السابق حسني مبارك.

وأضاف: «لم يحتمل أحد الحكم الجديد آنذاك برئاسة (محمد) مرسي...، فالحياة في ظل حكم الإخوان (المسلمين) كانت لا تُطاق، وكان يوجد خوف على المستقبل... ورغبة جامحة في الخروج».

ومع أن القضية التي يطرحها الفيلم مأساوية، شاء هلال أن يعالجها «بأسلوب كوميدي طريف، خلافاً للسائد في الأفلام التي تتناول الهجرة غير الشرعية عادة».

ولم يعتمد الفيلم على «النحيب والبكاء»، بل تكمن قوته بحسب هلال في «الفرادة في طريقة رواية القصة».

وأبدى الناقد السينمائي اللبناني إلياس دُمَّر بعد حضوره العرض الأول في بيروت إعجابه باختيار «نهاية سعيدة لفيلم عن مأساة الهجرة غير الشرعية».

ولا يحبّذ المخرج الذي يعمل أساساً في مجال الإعلانات الهجرة غير الشرعية. وقال في هذا الصدد: «حين يصل المهاجر إلى الجهة الأخرى، قد لا تكون حياته أفضل». وشدد على ضرورة «تحسين أوضاع الشباب ليبقوا في بلدهم ولا يغامروا بحياتهم؛ فالهجرة غير الشرعية قد تقتلهم».

وكان عدد من المصريين في يونيو (حزيران) الماضي بين العشرات من المهاجرين الذين قضوا في غرق قارب صيد قديم قبالة سواحل اليونان، في واحد من أكبر حوادث غرق مراكب الهجرة إلى أوروبا.

أما نيللي كريم، فلاحظت أن «الهجرة غير الشرعية موضوع مهم حالياً. فالناس يتوقون إلى السفر... ليحققوا آمالهم، لكن... ليس بمجرد السفر إلى الخارج تصبح ظروف الحياة أفضل».

الممثلة السينمائية المصرية نيللي كريم تتحدث خلال العرض الإقليمي الأول ﻟ«الفيلم المصري 2023» «فوي! فوي! فوي!» في سينما فوكس سيتي سنتر في بيروت في 21 سبتمبر 2023 (أ.ف.ب)

العين على الأوسكار

وأمل المخرج في أن يجذب «فوي فوي فوي» القيّمين على الأوسكار. وقال: «كان طموحي أن أصل إلى العالمية. وأثناء إدارتي الممثلين طلبت منهم أن يبذلوا جهداً إضافياً في أداء أدوارهم لأننا نريد أن نصل إلى الأوسكار».

ومن المقرر الكشف عن الأفلام الـ15 المتأهلة إلى التصفية ما قبل النهائية للفوز بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي في 21 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، على أن تُعلن قائمة الأفلام الخمسة المتأهلة إلى المنافسة النهائية في هذه الفئة في 23 يناير 2024؛ تمهيداً لحفلة توزيع جوائز الأوسكار في العاشر من مارس (آذار) في لوس أنجليس.

وتتمحور أفلام أخرى ضمن هذه الفئة حول موضوع الهجرة غير الشرعية، منها الإيطالي «إيو كابيتانو» للمخرج ماتيو غاروني.

وبات موضوع الهجرة حاضراً بقوة في أعمال الشاشة الكبيرة، ومنها فيلم «غرين بوردر» للمخرجة البولندية أنييشكا هولاند الذي حصل أخيراً على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي.

وتصاعدت المخاوف أخيراً في أوروبا جراء تدفّق المهاجرين بكثافة إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية الصغيرة. وشددت روما إجراءاتها لمواجهة هذه الظاهرة، في حين اقترحت المفوضية الأوروبية خطة لمساعدتها.

وتُعدّ مصر أحد مصادر الهجرة غير النظامية، ويُقبل عدد متزايد من المصريين الشباب على الانتقال إلى أوروبا بواسطة قوارب صيد. ومثّل المصريون العام الماضي واحداً من كل خمسة مهاجرين وافدين إلى إيطاليا بهذه الطريقة، بحسب بيانات وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء. وأطلقت القاهرة استراتيجية 2016- 2026 لـ«تجفيف منابع الهجرة غير الشرعية».


مقالات ذات صلة

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

يوميات الشرق من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية  والسياسية.

محمد رُضا (ڤينيسيا)
يوميات الشرق السيناريست المصري عاطف بشاي (صفحته على «فيسبوك»)

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

ودّع الوسط الفني بمصر المؤلف والسيناريست المصري عاطف بشاي، الذي رحل عن عالمنا، الجمعة، إثر تعرضه لأزمة صحية ألمت به قبل أيام.  

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق أنجلينا جولي في مهرجان ڤنيسيا (إ.ب.أ)

«الشرق الأوسط» بمهرجان «ڤنيسيا-4»... ماريا كالاس تعود في فيلم جديد عن آخر أيام حياتها

إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير والاحتفاء ذهب لممثلتين أميركيّتين.

محمد رُضا (فينيسيا)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ابن رشد
ابن رشد
TT

ماذا يقول أركون عن ابن رشد؟

ابن رشد
ابن رشد

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟ بمعنى أنه كان يجد نفسه مستبعَداً ومنبوذاً من قِبل الجمهور الإسلامي العريض، مثل سلفه الأكبر أيام قرطبة والأندلس ومراكش، ولكن الفارق هو أن أركون أصبح مقبولاً الآن، ويحظى بالإعجاب والتقدير من قِبل الجمهور المثقَّف الذي يتزايد عدده أكثر فأكثر في العالم العربي والإسلامي كله. ومعلوم أن ابن رشد رُفض من قِبل التيار الإسلامي المركزي، وماتت كتبه في أرضها، هذا في حين أن أوروبا تلقَّفَتها بتلهّف، وترجمَتها، وبنَت عليها نهضتها المقبلة، وهنا يكمن الفرق بين الأذكياء والأغبياء، ولا ننسى ابن سينا بطبيعة الحال الذي كان تأثيره عظيماً على أوروبا، بل وسبق تأثير ابن رشد من حيث الزمن.

ولكن قوم ابن رشد من عرب ومسلمين رفضوه، ورفضوا إعجابه بأرسطو، ورفضوا الفلسفة كلها، بل وكفَّروها باعتبار أن «مَن تمنطق فقد تزندق»، كما كانوا يقولون. كانوا يظنون (وربما لا يزالون حتى الآن) أن الفلسفة تُبعِد عن الله والدين، وهذا سبب ازدرائها وتحريمها من قِبل الفقهاء على مدار التاريخ حتى وقت قريب. والسؤال الذي يطرحه أركون هو التالي: لماذا فشل فكر ابن رشد في العالم الإسلامي، ونجح نجاحاً باهراً في العالم المسيحي الأوروبي اللاتيني؟

للجواب عن هذا السؤال يقول لنا ما معناه: لقد سقط فكر ابن رشد في مهاوي النسيان وسط جماعته العربية الإسلامية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد وفاته عام 1198، هذا في حين أن الفلسفة الرشدية راحت تشهد إشعاعاً كبيراً في كل أنحاء أوروبا المسيحية، وكانت أطروحاته تُدرَّس في جامعات بادوا بإيطاليا، والسوربون في فرنسا، وأكسفورد في إنجلترا... إلخ.

محمد أركون

هكذا نلاحظ الوضع؛ فشل كامل من جهة، ونجاح دائم من جهة أخرى. ولهذا السبب يرى أركون أن المسلمين لم يساهموا في تشكيل الحداثة الفكرية والعلمية والفلسفية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فقد تجاهل شيوخ السلطنة العثمانية، وشيوخ الإسلام عموماً، كل فتوحات غاليليو وديكارت وسبينوزا وفولتير وكانط وهيغل... إلخ، بل واحتقروها وازدرَوها وكأنها لم تكن، في حين أنها شكَّلت فتح الفتوح بالنسبة للروح البشرية، هنا يكمن جوهر الحداثة.

ولكن لماذا نلومهم على ذلك إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن رشد ذاته وهو العربي المسلم؟ لماذا نلومهم إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن سينا وكفَّروه منذ أيام الغزالي؟ وقُل الأمر ذاته عن الفارابي المعلِّم الثاني بعد أرسطو، وقل الأمر ذاته عن عبقري العباقرة شعراً ونثراً أبي العلاء المعرّي، هو الآخر كفَّروه وزندقوه ولعنوه، شيء مُخجِل ومُرعِب، ولكن هذه هي الحقيقة. هل نحن أمام شرق كسول وعقيم من جهة، وأمام غرب ديناميكي ناشط منفتح على الفلسفة والعلم من جهة أخرى؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: لماذا انقرضت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي منذ القرن الثالث عشر، وانتعشت في العالم الأوروبي المسيحي؟

إننا دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة بدءاً من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر، أي حتى عصر محمد علي الكبير وانطلاقة النهضة العربية على يد رفاعة رافع الطهطاوي، وكل ذلك الجيل النهضوي العظيم، بل ليس فقط الفلسفة هي التي انقرضت في العالم العربي، وإنما فكر المعتزلة أيضاً، ومعلوم أنهم كانوا يُشكِّلون التيار العقلاني في الإسلام في مواجهة الحنابلة، والأشاعرة، وتيار النقل والتقليد والانغلاق الديني اللاهوتي. هل نعلم أن ابن رشد كان يشتكي في عصره من عدم قدرته على التوصل إلى كتب المعتزلة وهو الأندلسي القرطبي؟ كان يبحث عنها في كل مكان دون أن يجدها، وذلك لأن التيار الظلامي كان يلاحقها ويمزِّقها ويحرقها، بل ويحرق أصحابها! هذه حقيقة. نحن شهدنا محاكم التفتيش قبل الأوروبيين بزمن طويل، وهي تفسِّر لنا سبب انحطاط العالم العربي على مدار القرون.

أركون يطرح هذا السؤال: لماذا دخلنا بدءاً من القرن الثالث عشر في عصور الانحطاط الظلامية الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن، بدليل ازدهار كل هذه الموجة الأصولية العارمة؟ ما هي هذه القوى الاجتماعية الانحطاطية التي جعلت حتى مفكراً كبيراً كابن خلدون يشتم الفلسفة ويغرق في التصوف، بل وحتى الانغلاق اللاهوتي والتعصب؟ نقول ذلك على الرغم من إبداعاته وكشوفاته العبقرية في مجال دراسة الاجتماع والعمران، وسبب نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ثم يقول لنا أركون ما يلي:

لا ريب في أن الفقهاء مارسوا قمعاً آيديولوجياً ولاهوتياً كبيراً على جميع الناس في كل الغرب الإسلامي، أي في بلاد الأندلس والمغرب الكبير، وقد عانى ابن رشد ذاته من إرهابهم اللاهوتي في أواخر حياته كما هو معلوم، لقد عانى من تعصُّبهم وتزمُّتهم، ومحدودية أفُقهم، وعقلياتهم الضيقة، لقد هاجَموه دون حق؛ لأنه هو ذاته كان ينتمي إلى عائلة من كبار الفقهاء، لدرجة أن الناس يتحدَّثون عن ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، فجده كان أيضاً قاضي القضاة في قرطبة، وعالماً كبيراً في الدين، ومع ذلك لم ينجُ من شرِّهم، والمشكلة هي أن المثقفين العرب التجديديِّين لا يزالون يعانون من التزمُّت ذاته حتى في عصرنا الحالي، بل ويتعرَّضون للضرب والقتل والاغتيال، كما حصل لفرج فودة في مصر، أو لنجيب محفوظ، وكما حصل للدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق، وكما حصل للمثقف الأردني التنويري اللامع ناهض حتر... إلخ. القائمة طويلة، وإرهاب الحركات الإخوانية الظلامية يخيِّم على الجميع.

ثم يتحدث أركون عن فضل النزعة الإنسانية والحضارية العربية على الفكر الأوروبي، وهو يقصد بذلك فضل العصر الذهبي ومفكريه الكبار، كابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجه وابن الطفيل، وعشرات آخرين على المثقفين الفرنسيين في العصور الوسطى، فبعد أن ترجموا النصوص العربية الكبرى إلى اللغة اللاتينية انطلقت فعلاً الحركة النهضوية العقلانية الأوروبية. نقول ذلك في حين أن هذه النصوص كانت مجهولة من قِبل أصحابها خاصةً، أي العرب والمسلمين، بل وكانت محتقَرة ومُدانة لاهوتياً من قِبل الفقهاء المزمجِرين أسلاف الإخوان المسلمين الحاليين، ما أشبه الليلة بالبارحة!

لقد شرح لنا المفكر الفرنسي الكبير إيتيان جيلسون كيف استفاد أساتذة السوربون من التراث الفلسفي العربي الخصب والغني جداً، في ذلك الوقت ابتدأت أوروبا تخرج رويداً رويداً من ظلمات العصور الوسطى المسيحية، ولكي تخرج فإنها كانت بحاجة إلى دعم فلاسفة العرب والمسلمين، كنا وقتها أساتذة أوروبا، في حين أن مفكريها أصبحوا اليوم هم أساتذتنا، كان المثقف الفرنسي أو الإيطالي أو الإنجليزي يفتخر آنذاك بأنه يعرف ابن رشد أو ابن سينا أو الفارابي، مثلما نفتخر نحن اليوم بأننا نعرف ديكارت أو كانط أو هيغل، الحضارات دوَّارة، وكذلك العصور الذهبية، مَن سرَّه زمن ساءته أزمان.

أخيراً السؤال الجوهري الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذا يفيدنا فكر ابن رشد اليوم؟ هل له راهنية حقاً أم عفّى عليه الزمن؟ وجوابه عن ذلك هو بالإيجاب طبعاً، فإعادة الاعتبار إلى فكر ابن رشد في العالم العربي تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمِّتين من إخوان مسلمين وخُمينيين وسواهم، فقد خاض فيلسوف قرطبة معركة متواصلة ضد أسلافهم من فقهاء عصره المتزمِّتين، لقد خاض هذه المعركة على صعيد العلوم الدينية التي فسَّرها بشكل مختلف عن تفسيرهم الضيق المتعصب، وقد استخدم كفاءاته الفلسفية في هذا المجال أفضل استخدام، صحيح أنه لم يصل به الأمر إلى حد الخروج من السياج الدوغمائي اللاهوتي العقائدي المغلق على ذاته، وهو السياج أو الإطار العقائدي الذي ينحصر داخله جميع المؤمنين أو جميع المسلمين قاطبةً دون استثناء. لكن هذا الشيء ما كان ممكناً في عصره؛ لأنه كان محكوماً بسقف العصور الوسطى وما هو مستحيل التفكير فيه في تلك العصور، ولكنه عقلَن مفهوم الدين عن طريق دحض أطروحات الغزالي الواردة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». لقد دحضها ليس فقط من خلال كتاب «تهافت التهافت»، وإنما أيضاً من خلال كتاب «مناهج الأدلة». أهم شيء قدَّمه لنا ابن رشد هو النص على مشروعية الفلسفة والفكر العقلاني في العالم العربي الإسلامي، ونفهم من كلامه أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، وإنما فقط مع المفهوم المتزمِّت والخاطئ للدين.

الفلسفة لا تتعارض مع الدين... وإنما فقط مع المفهوم المتزمّت والخاطئ للدين

لكن بعد كل هذا التمجيد لابن رشد فإن أركون يحذِّرنا قائلاً هذا الكلام الخطير: من ناحية أخرى، لقد أصبح فكر ابن رشد ذا قيمة تاريخية فقط، لقد أكل عليه الدهر وشرب، ينبغي ألا ننسى أنه تفصلنا عنه ثمانية قرون. ولكن هذا الكلام لا ينطبق عليه وحده فقط، وإنما ينطبق على كل فكر العصر الذهبي القديم، على الرغم من روعته وعظمته، لماذا؟ لأن كل فكر فلاسفتنا القدماء حصل تحت سقف العصور الوسطى، ونحن نعيش الآن تحت سقف العصور الحديثة، وشتان ما بينهما، ما كان مستحيلاً التفكير فيه في عصر ابن رشد أصبح ممكناً التفكير فيه بعد عصر ديكارت وسبينوزا وبقية فلاسفة الأنوار الذين تحرَّروا من هيمنة اللاهوت الديني كلياً.

يضاف إلى ذلك أن مرجعياتنا الفلسفية أصبحت لايبنتز وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد، وحتى برغسون وهابرماس... إلخ، وبالتالي فلا ينبغي أن نبالغ ونهوِّل في قيمة ابن رشد، إنه لا يستطيع إنقاذنا، يُنقذنا فقط فكر الحداثة العلمية والفلسفية الذي تجاوز ابن رشد وسواه بسنوات ضوئية.

أخيراً يمكن القول بأن المعرِّي تجاوز ابن رشد، وتحرَّر من النطاق الديني اللاهوتي التكفيري المنغلق على ذاته أكثر منه بكثير، وذات الكلام يمكن أن يقال عن ابن سينا والفارابي. المعرّي طرح أسئلة تتجاوز سقف عصره، وترهص بالعصور الحداثية الحالية، ولم يكن ذلك فقط في «اللزوميات»، وإنما أيضاً في «رسالة الغفران» التي تُعدّ جوهرة الجواهر الأدبية والفكرية العربية، بحياته كلها لم يستطع الخيال الإبداعي العربي التوصل إلى هذا المستوى المذهل من الابتكار الخلّاق الذي استعصى على الجميع.