«ترند» وأخواتها تثير قلق المجامع اللغوية العربية

خبراء لغويات ونقاد مصريون ما بين مؤيد ومعارض

د. خالد فهمي
د. خالد فهمي
TT

«ترند» وأخواتها تثير قلق المجامع اللغوية العربية

د. خالد فهمي
د. خالد فهمي

أثار اعتماد مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة «ترند»، وإدراجها في المعجم العربي، حالةً من الغرابة والجدل في أوساط خبراء اللغويات ومجامع عربية أخرى، عن حدود ومعايير تلاقح اللغة العربية مع اللغات الأجنبية استجابة للتطورات العصرية، وهل ثمة «استسهال» أو «كسل معجمي» باعتماد ألفاظ أعجمية مستوردة، أم أن معايير الدلالة والوظيفية تفرض حاجاتها اللغوية؟

«الشرق الأوسط» طرحت هذه التساؤلات على عدد من المختصين وخبراء في اللغة:

د. خالد فهمي (أستاذ اللغويات والخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة): الدلالة الحضارية

قبل توضيح ما ذهب إليه خبراء مجمع اللغة العربية فيما يخص مفردة «ترند»، تجدر الإشارة لثلاثة أبعاد جوهرية تحكم السياق العام لعملية تلقي أي مستجدات في المعجم العربي؛ البعد الأول هو البعد النفسي، فنحن أمة مأزومة، نعاني من إحباطات حقيقية ووجودية، بعد أن عشنا لحظة تاريخية ممتدة لنحو 8 قرون كانت فيها الأمة العربية هي منتجة العلوم وإبداع المعرفة، حيث اللغة العربية تتلقفها لغات الأرض، وكان هناك وجه آخر للعملة الحضارية وهو «التعجيم»، المُقابل للتعريب، فمعاجم العالم مليئة بالكلمات ذات الأصول العربية، وهذا يأخذنا إلى البعد الثاني، وهو البعد الحضاري، فنحن أمة لا تنتج آلة ولا نظرية، وبالتالي غير منتجين للغة، وهذا ما يمكن وصفه بعافية الأمة الحضارية. أما البعد الثالث فهو فوضى الشارع العربي، فلا توجد ضوابط على أي مستوى، على رأسها الضوابط الأخلاقية والمهنية، وتلك التي تحكم التخصص والعلم.

ويوضح دكتور خالد، أن تلك الأبعاد هي أرضية خصبة لإثارة الأزمات، فطالما ارتبطت عملية التعريب تاريخياً بخطوات إجرائية محددة، بداية من محو أثر الكلمة الأجنبية، حيث يقوم المتخصصون بطرح مفردات خالصة العروبة، كما حدث مع لفظ «سيارة»، وهناك معيار آخر يتم به الاحتكام لوزن عربي للكلمة الأجنبية مثل وزن مفعال فعالة، كما وضع المُعرب القديم لفظ «تلفاز» في تعريبه لكلمة «تلفزيون»، حيث قام بالحفاظ على الأصوات المركزية بها، وتحويلها على وزن «مفعال» فصارت «تلفاز».

أما ما حدث مع كلمة «ترند» وما يدور من جدل حولها، كان بإمكاننا نظرياً تفعيل بدائل عربية مثل «الصدارة» أو «رائج» أو «الأكثر انتشاراً»، لكن المُعرّب المجمعي رأى أن الاحتفاظ بكلمة «ترند» بأصواتها وهيئتها الأجنبية أكثر دلالة على المعنى الحضاري الذي تُعبر عنه في إطار الثقافة الإعلامية ووسائل التواصل. وفي عصور النهضة الإسلامية كانت كتب العلوم لابن سينا وابن رشد تحتوي على كلمات أعجمية «البويوتيكا» مرادفاً للشعر، والعلوم مثل «الميكانيكا» و«الديناميكا»، ووجدوا أن تلك الكلمات أكثر دلالية، ولكن الفرق أن في ذلك الوقت لم تكن هناك أزمة حضارية، وكانوا يعلمون أن استعارة تلك الكلمات الأجنبية لن تضرهم.

هناك قانون راسخ في المجمع اللغوي يُعرف باسم قانون «إجراءات التعريب»، والمجمع رأى أن استعمال «ترند» بصورتها اللفظية الأجنبية دالة دلالة علمية كاملة على السياق العلمي والحضاري الذي تُستعمل به وهو سياق التواصل الاجتماعي.

اللغة تموت عند الاقتراب من النحو والجملة، وليس بالاقتراب من حدود المعجم، فجميع معاجم العالم تتسع وتتلاقح مع لغات أخرى، والمعاجم الأجنبية مليئة بالكلمات العربية الأصل، والمأزق الحضاري، أن العكس هو ما صار يحدث.

د. داليا سعودي

د. داليا سعودي (أكاديمية مُتخصصة في علم دراسات الترجمة واللغويات): الضرورة والترف

علماء اللغة يفرقون بين نوعين من الاقتراض: اقتراض الضرورة واقتراض الترف. اقتراض الضرورة هو ما يصعب التعبير عن الحقيقة التي يصفها بعينها في اللغة المُستقبلة. أما اقتراض الترف فهو ما يمكن إيجاد بدائل له في اللغة المُستقبلة. ويدل الإقدام عليه والإفراط فيه على كسل معجمي وركود في الخيال وعجز في استغلال القدرة الاشتقاقية للغة الأم. وهو ككل اقتراض زائد عن الحد لا يؤدي إلى ثراءٍ بل إلى استلاب. وهو بُعد غير مرحب به اليوم في ظل ما تعاني منه اللغة العربية من مُعضلات بين أبنائها قبل أن تعاني منها على صعيد عالمي. لذلك، فإنني أرى أن «ترند» وأخواتها خطر على اللغة العربية في زمن العولمة، التي يدافع فيها كل قوم عن لغتهم. لقد كانت اللغة العبرية على سبيل المثال لغة ميتة. لكن ديفيد بن جوريون أصر على إحيائها.

المسألة أعمق من مجرد تعريب كلمة... كان المفكر أنطونيو غرامشي يقول: «في كل مرة تُستدعى المسألة اللغوية إلى مقدمة المشهد، فذلك يعني، بصورة ما، أن سلسلة من المشكلات الأخرى ستطفو حتماً على السطح».

مسألة «ترند» تستدعي مسألة الهُوية. البعض علق بالإنجليزية! أن هذه ظاهرة لغوية طبيعية. والبعض هزأ من حالة القلق التي سادت عند سماع قرار المجمع وامتدت لمجامع عربية أخرى. المسألة هي ببساطة: هل نحن في مصر ما زلنا نعد أنفسنا عرباً؟ ما هي مكانة العروبة اليوم في مكونات هويتنا المركبة؟

ثم هل اللغات الأخرى، بالتحديد الإنجليزية، باتت تهدد العربية في بيوتنا ومدارسنا؟ وكذلك اعتماد اللهجات العامية المحلية؟ هل ستموت الفصحى على يد العامية؟ هل الترجمات العامية تختلف أثراً عن «ترند» وأخواتها في مضمار زعزعة الهوية وتشويش لغة الكتابة؟

لا أنفي فكرة التفاعل بين اللغات، فقنوات التلاقح اللغوي عديدة عبر التاريخ؛ التلاقح اللغوي في مصر كان جلياً في بدايات القرن العشرين في وجود الجاليات الأجنبية. هل أثر ذلك على اللغة العربية الفصحى آنذاك؟ كلا لأن الحدود كانت واضحة بين اللغة المكتوبة ولغة التخاطب. ولأن الحرب بين اللغات لم تكن بهذه الضراوة. أما أن يأتي مجمع اللغة العربية في القاهرة اليوم ليضيف إلى المعجم - أي إلى اللغة المكتوبة بالفصحى – كلمات أعجمية يتم تعريبها في عجالة من قبيل «ترند» و«ترندات»، بدعوى التيسير، ففي ذلك خلخلة لأسس اللغة وهدمٌ لثقة أبنائها في قدراتها واعتناق مؤسسي للذهنية التي لم تُفلت من إسار الاستلاب الثقافي.

باختصار، هذا النوع من التعريب الذي لا يتبع قواعد التعريب لا يُوسع معين اللغة، ولا يهبها انفتاحاً على اللغات الأخرى بقدر ما يطمس معالمها التي تصنع خصوصيتها، ويقض أوزانها المتعارف عليها.

د. سيد إسماعيل ضيف الله

د. سيد إسماعيل ضيف الله (أستاذ مساعد النقد الأدبي بأكاديمية الفنون في مصر): تعريب أم تسليم بالواقع؟

عادة ما نُثمن جهود مجامع اللغة العربية حين يظهر خبراؤها وعلماؤها قدرتهم في إيجاد مقابل عربي لكلمات أو مصطلحات صارت على الألسنة ليل نهار ولا يجد الناس بديلاً عن استخدامها، لا سيما إذا قابل الناس المُقابل العربي باستحسان وحل محل الأجنبي تدريجياً. ومن هذه الأمثلة التي يجب أن نتذكرها لاجتهادات المجامع الناجحة: السيارة - الهاتف - البريد الإلكتروني - شبكات التواصل الاجتماعي- المنصات الرقمية... إلخ. وفي الوقت نفسه نثمن عادة قبول المجمعيين الألفاظ الأجنبية والإقرار بأنها صارت من اللغة العربية ولم تعد ألفاظاً دخيلة مطرودة من ساحة الفصحى، ومن ذلك قبول كلمات مثل الكمبيوتر، التليفون.. إلخ. مقصدي من الكلام أن إيجاد بديل عربي جهد مشكور لأنه تعريب عن طريق الترجمة، وإقرار استخدام اللفظ الأجنبي تعريب أيضاً لأنه إدخال للغة العربية بشروطها لا إقراراً بعجزها ولا استسلاماً لهيمنة اللغة الإنجليزية على كل لغات العالم. الإقرار فعل المجمعيين وهم غير مضطرين له مثلما أن الناس غير مضطرين للتخلي عن اللفظ الأجنبي ما دام يؤدي وظيفة حياتية لهم لا يمكنهم أن يجدوا في لفظ آخر القدرة على تأديتها.

مهم أن نتذكر أن اللغويين في التراث العربي منذ الخليل بن أحمد وسيبويه كانوا يُحاصرون الألفاظ الأجنبية ويعزلونها عن الألفاظ العربية ويسمونها الدخيل، وأن هذا العزل لم يكن يعني عدم استخدامها، وإنما يعني الإقرار بوجودها مع التذكير بأصلها غير العربي، والتذكير باشتراط أن تكتسب زياً عربياً كي تصبح مُعرّبة لا يُتهم باللحن من ينطق بها، ومن أهم الشروط تكيفها مع الأوزان العربية وإجراء تغييرات في البنية الصوتية للألفاظ الدخيلة لكي تتواءم مع شروط اللغة العربية لقبول ألفاظ معربة بها. ومن هنا كان وما زال التعريب دليل قوة ووسيلة تقوية في الوقت نفسه، أي دليل على قوة اللغة العربية حين تسيطر على اللفظ الأجنبي وتلبسه لباسها، ووسيلة تقوية للغة العربية في الوقت نفسه لأن إدخال ألفاظ حياتية وعلمية حديثة عبر بوابة التعريب بمثابة ضخ دماء جديدة في شرايين اللغة، فيشعر الناس بأن لغتهم حيّة تستجيب لحاجاتهم اللغوية وليست لغة ميتة كغيرها من اللغات التي تحنطت في النصوص ولم تنزل إلى الشارع وتصارع اللغات الأخرى على ألسنة أبنائها.

وأعتقد أن إقرار كلمة «ترند» مجمعياً هو نوع من الاقتراض الكاشف عن ضعف وتكاسل واستسلام للأمر الواقع. وفي ظني أن التصويت بالأغلبية لقبول اللفظ ببنيته الصوتية ودلالته الشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي هو تصويت مغلوط، لأن الزعم بعدم وجود بديل عربي للكلمة مستند لعدم وجود لفظ فصيح يصلح بديلاً لكلمة «Trends»، بينما المستخدمون للكلمة لا يزعمون أنهم فصحاء ولا أنهم يتكلمون الفصحى، وهم إلى عامية المتنورين أقرب منهم إلى فصحى التراث. وبالتالي تصبح الترجمة المناسبة للكلمة في سياق فصحى التراث هي «اتجاهات» مثلاً، بينما في سياق عامية المتنورين، التي يعاديها المجمعيون ولا يلجأون لها لمواجهة فيضان الألفاظ الأجنبية، نجد الناس يتحدثون إذا أرادوا الدلالة الإيجابية أو المحايدة عن حديث الساعة أو قضايا الساعة، أما إذا أرادوا الدلالة السلبية فيعرفون «الترندات» بأنها «هري»، فنسمع من يقول «الهري على إيه النهاردا؟»، وهو يعني «الترند». أعرف طبعاً أن اقتراض «الترند» أحب إلى قلوب الكثير من المجمعيين من «هري» الكثير من الناس!


مقالات ذات صلة

بأية سوريا نحلم؟

ثقافة وفنون سوريون يحتفلون في ساحة المسجد الأموي بدمشق (أ.ف.ب)

بأية سوريا نحلم؟

في فترة قياسية في التاريخ، لم تتجاوز أحد عشر يوماً، سقط أكثر من نصف قرن من نظام استثنائي بقمعه، وأجهزته الأمنية، وسجونه، وسجل ضحاياه.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون هيثم حسين

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب

هيثم حسين
ثقافة وفنون عتاب حريب

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

عتاب حريب
ثقافة وفنون علياء خاشوق

لن نسمح بعد الآن لأحد أن يسرق الحلم منا

«يسقط الطاغية (الثلج) الآن في مونتريال، والأشجار وقوفاً كالأشجار».

علياء خاشوق
ثقافة وفنون فواز حداد

سوريا بحاجة لاستعادة أبنائها

لدى السوريين عموماً عناوين غير مختلف عليها حول سوريا الجديدة: دولة مدنية. ديمقراطية. سيادة القانون. دستور. انتخابات. تداول السلطة. المواطنة. حرية التعبير والرأي

فواز حداد

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي