«ترند» وأخواتها تثير قلق المجامع اللغوية العربية

خبراء لغويات ونقاد مصريون ما بين مؤيد ومعارض

د. خالد فهمي
د. خالد فهمي
TT

«ترند» وأخواتها تثير قلق المجامع اللغوية العربية

د. خالد فهمي
د. خالد فهمي

أثار اعتماد مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة «ترند»، وإدراجها في المعجم العربي، حالةً من الغرابة والجدل في أوساط خبراء اللغويات ومجامع عربية أخرى، عن حدود ومعايير تلاقح اللغة العربية مع اللغات الأجنبية استجابة للتطورات العصرية، وهل ثمة «استسهال» أو «كسل معجمي» باعتماد ألفاظ أعجمية مستوردة، أم أن معايير الدلالة والوظيفية تفرض حاجاتها اللغوية؟

«الشرق الأوسط» طرحت هذه التساؤلات على عدد من المختصين وخبراء في اللغة:

د. خالد فهمي (أستاذ اللغويات والخبير بمجمع اللغة العربية بالقاهرة): الدلالة الحضارية

قبل توضيح ما ذهب إليه خبراء مجمع اللغة العربية فيما يخص مفردة «ترند»، تجدر الإشارة لثلاثة أبعاد جوهرية تحكم السياق العام لعملية تلقي أي مستجدات في المعجم العربي؛ البعد الأول هو البعد النفسي، فنحن أمة مأزومة، نعاني من إحباطات حقيقية ووجودية، بعد أن عشنا لحظة تاريخية ممتدة لنحو 8 قرون كانت فيها الأمة العربية هي منتجة العلوم وإبداع المعرفة، حيث اللغة العربية تتلقفها لغات الأرض، وكان هناك وجه آخر للعملة الحضارية وهو «التعجيم»، المُقابل للتعريب، فمعاجم العالم مليئة بالكلمات ذات الأصول العربية، وهذا يأخذنا إلى البعد الثاني، وهو البعد الحضاري، فنحن أمة لا تنتج آلة ولا نظرية، وبالتالي غير منتجين للغة، وهذا ما يمكن وصفه بعافية الأمة الحضارية. أما البعد الثالث فهو فوضى الشارع العربي، فلا توجد ضوابط على أي مستوى، على رأسها الضوابط الأخلاقية والمهنية، وتلك التي تحكم التخصص والعلم.

ويوضح دكتور خالد، أن تلك الأبعاد هي أرضية خصبة لإثارة الأزمات، فطالما ارتبطت عملية التعريب تاريخياً بخطوات إجرائية محددة، بداية من محو أثر الكلمة الأجنبية، حيث يقوم المتخصصون بطرح مفردات خالصة العروبة، كما حدث مع لفظ «سيارة»، وهناك معيار آخر يتم به الاحتكام لوزن عربي للكلمة الأجنبية مثل وزن مفعال فعالة، كما وضع المُعرب القديم لفظ «تلفاز» في تعريبه لكلمة «تلفزيون»، حيث قام بالحفاظ على الأصوات المركزية بها، وتحويلها على وزن «مفعال» فصارت «تلفاز».

أما ما حدث مع كلمة «ترند» وما يدور من جدل حولها، كان بإمكاننا نظرياً تفعيل بدائل عربية مثل «الصدارة» أو «رائج» أو «الأكثر انتشاراً»، لكن المُعرّب المجمعي رأى أن الاحتفاظ بكلمة «ترند» بأصواتها وهيئتها الأجنبية أكثر دلالة على المعنى الحضاري الذي تُعبر عنه في إطار الثقافة الإعلامية ووسائل التواصل. وفي عصور النهضة الإسلامية كانت كتب العلوم لابن سينا وابن رشد تحتوي على كلمات أعجمية «البويوتيكا» مرادفاً للشعر، والعلوم مثل «الميكانيكا» و«الديناميكا»، ووجدوا أن تلك الكلمات أكثر دلالية، ولكن الفرق أن في ذلك الوقت لم تكن هناك أزمة حضارية، وكانوا يعلمون أن استعارة تلك الكلمات الأجنبية لن تضرهم.

هناك قانون راسخ في المجمع اللغوي يُعرف باسم قانون «إجراءات التعريب»، والمجمع رأى أن استعمال «ترند» بصورتها اللفظية الأجنبية دالة دلالة علمية كاملة على السياق العلمي والحضاري الذي تُستعمل به وهو سياق التواصل الاجتماعي.

اللغة تموت عند الاقتراب من النحو والجملة، وليس بالاقتراب من حدود المعجم، فجميع معاجم العالم تتسع وتتلاقح مع لغات أخرى، والمعاجم الأجنبية مليئة بالكلمات العربية الأصل، والمأزق الحضاري، أن العكس هو ما صار يحدث.

د. داليا سعودي

د. داليا سعودي (أكاديمية مُتخصصة في علم دراسات الترجمة واللغويات): الضرورة والترف

علماء اللغة يفرقون بين نوعين من الاقتراض: اقتراض الضرورة واقتراض الترف. اقتراض الضرورة هو ما يصعب التعبير عن الحقيقة التي يصفها بعينها في اللغة المُستقبلة. أما اقتراض الترف فهو ما يمكن إيجاد بدائل له في اللغة المُستقبلة. ويدل الإقدام عليه والإفراط فيه على كسل معجمي وركود في الخيال وعجز في استغلال القدرة الاشتقاقية للغة الأم. وهو ككل اقتراض زائد عن الحد لا يؤدي إلى ثراءٍ بل إلى استلاب. وهو بُعد غير مرحب به اليوم في ظل ما تعاني منه اللغة العربية من مُعضلات بين أبنائها قبل أن تعاني منها على صعيد عالمي. لذلك، فإنني أرى أن «ترند» وأخواتها خطر على اللغة العربية في زمن العولمة، التي يدافع فيها كل قوم عن لغتهم. لقد كانت اللغة العبرية على سبيل المثال لغة ميتة. لكن ديفيد بن جوريون أصر على إحيائها.

المسألة أعمق من مجرد تعريب كلمة... كان المفكر أنطونيو غرامشي يقول: «في كل مرة تُستدعى المسألة اللغوية إلى مقدمة المشهد، فذلك يعني، بصورة ما، أن سلسلة من المشكلات الأخرى ستطفو حتماً على السطح».

مسألة «ترند» تستدعي مسألة الهُوية. البعض علق بالإنجليزية! أن هذه ظاهرة لغوية طبيعية. والبعض هزأ من حالة القلق التي سادت عند سماع قرار المجمع وامتدت لمجامع عربية أخرى. المسألة هي ببساطة: هل نحن في مصر ما زلنا نعد أنفسنا عرباً؟ ما هي مكانة العروبة اليوم في مكونات هويتنا المركبة؟

ثم هل اللغات الأخرى، بالتحديد الإنجليزية، باتت تهدد العربية في بيوتنا ومدارسنا؟ وكذلك اعتماد اللهجات العامية المحلية؟ هل ستموت الفصحى على يد العامية؟ هل الترجمات العامية تختلف أثراً عن «ترند» وأخواتها في مضمار زعزعة الهوية وتشويش لغة الكتابة؟

لا أنفي فكرة التفاعل بين اللغات، فقنوات التلاقح اللغوي عديدة عبر التاريخ؛ التلاقح اللغوي في مصر كان جلياً في بدايات القرن العشرين في وجود الجاليات الأجنبية. هل أثر ذلك على اللغة العربية الفصحى آنذاك؟ كلا لأن الحدود كانت واضحة بين اللغة المكتوبة ولغة التخاطب. ولأن الحرب بين اللغات لم تكن بهذه الضراوة. أما أن يأتي مجمع اللغة العربية في القاهرة اليوم ليضيف إلى المعجم - أي إلى اللغة المكتوبة بالفصحى – كلمات أعجمية يتم تعريبها في عجالة من قبيل «ترند» و«ترندات»، بدعوى التيسير، ففي ذلك خلخلة لأسس اللغة وهدمٌ لثقة أبنائها في قدراتها واعتناق مؤسسي للذهنية التي لم تُفلت من إسار الاستلاب الثقافي.

باختصار، هذا النوع من التعريب الذي لا يتبع قواعد التعريب لا يُوسع معين اللغة، ولا يهبها انفتاحاً على اللغات الأخرى بقدر ما يطمس معالمها التي تصنع خصوصيتها، ويقض أوزانها المتعارف عليها.

د. سيد إسماعيل ضيف الله

د. سيد إسماعيل ضيف الله (أستاذ مساعد النقد الأدبي بأكاديمية الفنون في مصر): تعريب أم تسليم بالواقع؟

عادة ما نُثمن جهود مجامع اللغة العربية حين يظهر خبراؤها وعلماؤها قدرتهم في إيجاد مقابل عربي لكلمات أو مصطلحات صارت على الألسنة ليل نهار ولا يجد الناس بديلاً عن استخدامها، لا سيما إذا قابل الناس المُقابل العربي باستحسان وحل محل الأجنبي تدريجياً. ومن هذه الأمثلة التي يجب أن نتذكرها لاجتهادات المجامع الناجحة: السيارة - الهاتف - البريد الإلكتروني - شبكات التواصل الاجتماعي- المنصات الرقمية... إلخ. وفي الوقت نفسه نثمن عادة قبول المجمعيين الألفاظ الأجنبية والإقرار بأنها صارت من اللغة العربية ولم تعد ألفاظاً دخيلة مطرودة من ساحة الفصحى، ومن ذلك قبول كلمات مثل الكمبيوتر، التليفون.. إلخ. مقصدي من الكلام أن إيجاد بديل عربي جهد مشكور لأنه تعريب عن طريق الترجمة، وإقرار استخدام اللفظ الأجنبي تعريب أيضاً لأنه إدخال للغة العربية بشروطها لا إقراراً بعجزها ولا استسلاماً لهيمنة اللغة الإنجليزية على كل لغات العالم. الإقرار فعل المجمعيين وهم غير مضطرين له مثلما أن الناس غير مضطرين للتخلي عن اللفظ الأجنبي ما دام يؤدي وظيفة حياتية لهم لا يمكنهم أن يجدوا في لفظ آخر القدرة على تأديتها.

مهم أن نتذكر أن اللغويين في التراث العربي منذ الخليل بن أحمد وسيبويه كانوا يُحاصرون الألفاظ الأجنبية ويعزلونها عن الألفاظ العربية ويسمونها الدخيل، وأن هذا العزل لم يكن يعني عدم استخدامها، وإنما يعني الإقرار بوجودها مع التذكير بأصلها غير العربي، والتذكير باشتراط أن تكتسب زياً عربياً كي تصبح مُعرّبة لا يُتهم باللحن من ينطق بها، ومن أهم الشروط تكيفها مع الأوزان العربية وإجراء تغييرات في البنية الصوتية للألفاظ الدخيلة لكي تتواءم مع شروط اللغة العربية لقبول ألفاظ معربة بها. ومن هنا كان وما زال التعريب دليل قوة ووسيلة تقوية في الوقت نفسه، أي دليل على قوة اللغة العربية حين تسيطر على اللفظ الأجنبي وتلبسه لباسها، ووسيلة تقوية للغة العربية في الوقت نفسه لأن إدخال ألفاظ حياتية وعلمية حديثة عبر بوابة التعريب بمثابة ضخ دماء جديدة في شرايين اللغة، فيشعر الناس بأن لغتهم حيّة تستجيب لحاجاتهم اللغوية وليست لغة ميتة كغيرها من اللغات التي تحنطت في النصوص ولم تنزل إلى الشارع وتصارع اللغات الأخرى على ألسنة أبنائها.

وأعتقد أن إقرار كلمة «ترند» مجمعياً هو نوع من الاقتراض الكاشف عن ضعف وتكاسل واستسلام للأمر الواقع. وفي ظني أن التصويت بالأغلبية لقبول اللفظ ببنيته الصوتية ودلالته الشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي هو تصويت مغلوط، لأن الزعم بعدم وجود بديل عربي للكلمة مستند لعدم وجود لفظ فصيح يصلح بديلاً لكلمة «Trends»، بينما المستخدمون للكلمة لا يزعمون أنهم فصحاء ولا أنهم يتكلمون الفصحى، وهم إلى عامية المتنورين أقرب منهم إلى فصحى التراث. وبالتالي تصبح الترجمة المناسبة للكلمة في سياق فصحى التراث هي «اتجاهات» مثلاً، بينما في سياق عامية المتنورين، التي يعاديها المجمعيون ولا يلجأون لها لمواجهة فيضان الألفاظ الأجنبية، نجد الناس يتحدثون إذا أرادوا الدلالة الإيجابية أو المحايدة عن حديث الساعة أو قضايا الساعة، أما إذا أرادوا الدلالة السلبية فيعرفون «الترندات» بأنها «هري»، فنسمع من يقول «الهري على إيه النهاردا؟»، وهو يعني «الترند». أعرف طبعاً أن اقتراض «الترند» أحب إلى قلوب الكثير من المجمعيين من «هري» الكثير من الناس!


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.