رسائل شتاينبك تكشف انضباطه الشديد في الكتابة وشغفه بـ«أقلام الرصاص»

في كواليس روايته الشهيرة «شرق عدن»

رسائل شتاينبك تكشف انضباطه الشديد في الكتابة وشغفه بـ«أقلام الرصاص»
TT

رسائل شتاينبك تكشف انضباطه الشديد في الكتابة وشغفه بـ«أقلام الرصاص»

رسائل شتاينبك تكشف انضباطه الشديد في الكتابة وشغفه بـ«أقلام الرصاص»

بعد أكثر من خمسين سنة على صدور النسخة الأصلية لـ«رسائل شتاينبك لناشره»، أصدرت دار نشر «سيغرس»، ولأول مرة، طبعة مترجمة إلى الفرنسية بقلم المختص في الأدب الأميركي بيار غوغليمينا. الكتاب عبارة عن مراسلات من شتاينبك إلى ناشره باسكال كوفيتشي المدعو «بات». نوع من الروتين حافظ عليه الكاتب الأميركي الكبير من أول يوم بدأ فيه الكتابة في 29 من يناير (كانون الثاني) 1951 إلى الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس السنة. في كل يوم وقبل الشروع في العمل، كان المؤلف الأميركي يكتب لصديقه «بات» ما يعادل الرسالة.

في دفتر كبير من جزأين خصّ فيه اليمين إلى الرواية واليسار إلى الرسائل، خطابات لم يكن ينتظر منها إجابة بما أنه كان ينوي تسليمها لصديقه الناشر بعد الانتهاء من الكتابة كما أوضح له منذ البداية: «لن تتسلمها قبل عام... »، فهي لم تكن تُكتب بغرض التراسل، بل لتوثيق أهم خطوات العمل الإبداعي وكنوع من التحضير الجسدي والعقلي قبل الشروع في الكتابة. توثيق التجربة الإبداعية تقليد بدأه الكاتب الأميركي مع روايته الشهيرة «عناقيد الغضب»؛ إذ كتب «أيام العمل» أو (دايز أوف ورك) عام 1938، وكانت مذكرات دوّن فيها بدقّة بالغة تطور تجربته الكتابية من أول صفحة، بالتواريخ، وعدد الساعات التي كان يقضيها في الكتابة، والمشاكل التي واجهته لتطوير شخصياته وحبكته الروائية، إلى لحظات الشّك والعزلة التي كان يعيشها في فترة كانت فيها ميوله الاشتراكية المزعومة مصدر متاعب.

التجربة نفسها كرّرها مرة ثالثة مع «برقيات من الفيتنام» التي كتبها على هامش تحقيقاته خلال الحرب الأميركية في فيتنام عام 1966. في «رسائل شتاينبك إلى ناشره» التي كتبها بأسلوب أكثر إسهاباً من «أيام العمل» يخبرنا شتاينبك بأن الكتابة هي «نشاط جسدي مرهق»؛ أولاً لأنه يكتب بخطّ يده ولا يستخدم الآلة الكاتبة، وثانياً لأنه يكتب دون هوادة من الصباح إلى المساء ومن الاثنين إلى الجمعة، فارضاً على نفسه وتيرة عمل قوية، إلى رسم أهداف معينة كالوصول إلى كتابة 2000 كلمة في اليوم. فلا الجروح الكثيرة التي أصابت يده من فرط الكتابة ولا وجع الأسنان الذي أصابه فجأة قد نالا من «العزيمة الفولاذية» التي عُرف بها الكاتب الأميركي، التخلي عن شخصيات روايته ولو لمدة أسبوع أمر مرفوض تماماً، كما يكتب لصديقه. مثل هذا الانضباط في العمل كان قد مكّنه في الماضي من إنهاء روايته «عناقيد العنب» في وقت قياسي: مائة يوم فقط رغم عدد صفحاتها الذي يفوق ستمائة!

نحن في 1951، شتاينبك على مشارف الخمسين وهو متزوج منذ أسبوعين من إيلين، الزوجة رقم ثلاثة. في رسائله إلى صديقه الناشر «بات» يصف هذه الأخيرة بـ«الصبورة المتفهمة» وتمنى لو فاجأها برحلة استجمام جميلة: «حبذا لو أستطيع الحصول على شيء من الراحة...»، قبل أن يضيف واضعاً مشروع الرواية الجديدة نصب عينيه: «كل ما أعرفه هو أنه شيئاً فشيئاً سيتّسع الكتاب ويكبر حتى يصبح كالمنزل، فإما أن يكون بيتاً قائماً على أسس صلبة، وإما أن يكون بيتاً هشاً ينهار تحت وطأة ثقله... ».

«شرق عدن» كانت الرواية العاشرة لشتاينبك، بدأها بكثير من الحماس، «قد تكون... كما يكتب لصديقه (بات) رواية العمر... وهي بالتأكيد الرواية الأكثر طموحاً والأقرب إلى سيرتي الذاتية...»؛ ولذا فقد اختار رسم مشاهدها في مسقط رأسه بمقاطعة ساليناس بكاليفورنيا والاستعانة ببعض الشخصيات التي رافقت طفولته كشخصية سامويل هاملتون المزارع الفقير الذي هو في الواقع جدّه المهاجر الآيرلندي (من أمه).

بين السطور التي توثّق تعاقب الفصول وتطور الرواية وشخصياتها، يتجلى واقع الحياة اليومية بكل بساطته؛ فنقرأ عن مأدُبات العشاء، وبالأخص تلك التي ألهمته عنوان الرواية، فمن «وادي ساليناس» الذي اقترحه أول مرة على أحد أصدقائه فلم يعجبه، إلى «الوادي باتجاه البحر»، ثم «علامة قابيل»، إلى العنوان النهائي «شرق عدن». كما نقرأ عن الحفلات المدرسية لولديه التي سيحضرها أكثر؛ لأنه على وشك الانتقال إلى الشقة الجديدة بحي مانهاتن بمدينة نيويورك على بعد أمتار من مسكن طليقته غواندولين كونجر وأم ولديه توماس وجون.

عن هذين الأخيرين يكتب شتاينبك لصديقه الناشر: «ماذا لو كان إهداء الرواية الجديدة موجهاً إليهما؟ عندما يصلان إلى العمر الذي يستطيعان فيه القراءة سيتمكنان بفضل هذه الرواية من معرفة من أين أتيا ومن هما؟ سأروي لهما قصّة البلدة التي نشأت فيها، على امتداد النهر الذي أعرف والذي لم أعد أحبه كثيراً؛ لأني اكتشفت وجود أنهار أخرى. سأروي لهما قصّة الخير والشّر، القوة والضعف، الحب والحقد، الجمال والقبح...». الأحداث كشفت لاحقاً أن إهداء الكاتب لن يكون لولديه، وإنما لصديقه الناشر باسكال كوفيتشي.

من أطرف الفقرات وأغربها تلك التي يروي فيها شتاينبك لصديقه الناشر قصّة ولعه بأقلام الرصاص التي كان يستهلك منها يومياً نحو ستين! فنقرأ مثلاً أنه بحث طويلاً عن القلم «المثالي» الذي سيكون رفيقه في ساعات الكتابة الطويلة إلى أن وجد نموذجاً معيناً هو القلم من فئة «المغول 2 3/8 إف» الذي يعده بمثابة «سيد الأقلام»؛ فإن القلم في اعتقاد الكاتب هو أكثر من مجرد أداة عمل، هو المرآة التي تعكس نبض إنتاجه الأدبي، فإذا ما أحسّ بأنه رفيع وخفيف في يده، فهذا يعني أنه يكتب بسلاسة وسهولة، وأن يومه سيكون «يوماً جيداً»، وإذا ما انكسر، فهذا يعني أنه متوتر وعالق في مشهدٍ ما أو مع شخصيات معينة... لا يستطيع التقدم لدرجة تجعله يضغط على القلم بشدة وكأنه يطعن الأوراق طعناً، كما يكتب. وفي صورة شديدة الإيحاء يصف الكاتب مجموعة الأقلام التي يضعها على مكتبه كل صباح بـ«جنوده الصغار» الذين يقفون في الصّف بكل إخلاص وانضباط تأهباً لدخول المعركة. يصف شتاينبك مجموعة الأقلام التي يضعها على مكتبه كل صباح بـ«جنودي الصغار» الذين يقفون في الصّف

بكل إخلاص وانضباط تأهباً لدخول المعركة



«أولمبياد 2024»... هل تنجح فرنسا في بناء قوتها الناعمة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«أولمبياد 2024»... هل تنجح فرنسا في بناء قوتها الناعمة؟

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ليست دورة الألعاب الأولمبيّة لعام 2024، التي ستنطلق في باريس في السادس والعشرين من يوليو (تموز) الحالي، بأولى الدّورات التي ستستضيفها العاصمة الفرنسية، بل الثالثة؛ إذ حظيت بشرف تنظيم أول دورة في القرن العشرين (1900)، ولاحقاً دورة عام 1924، ما يجعلها المدينة الأكثر استضافة للألعاب تساوياً مع العاصمة البريطانية لندن.

وعلى الرّغم من كل الضّجيج الذي سعت الدّولة الفرنسيّة إلى إطلاقه حول كيف ستجعل من «باريس 2024» مختلفة عن الدورات السابقة لتعكس موقع الريادة الفرنسية في العالم كما في خطاب توني إستانغيه، رئيس اللجنة المنظمة، العالي النبرة: «نريد أن نعرض أفضل ما في فرنسا. لدينا الكثير لنقدمه، وسنثبت أن هذا البلد لديه كل القوة والإمكانات للتأكد من أن هذه الألعاب ستبقى في الذاكرة إلى الأبد»، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضاً سعى إلى أن تكون احتفالاً صاخباً في عهده بينما يدخل النصف الثاني من ولايته الأخيرة، بينما فرنسا تخطو نحو يوم الافتتاح في لجج من أزمات سياسيّة متعددة، ويعتريها قلق من أن يجعل المعارضون من «الألعاب» منصّة لتسجيل مواقفهم ضدّ السلطة؛ لا سيما موقفها المدان من الحرب على غزّة، والأسوأ أن الهيئة المنظمة اختارت، على خلاف المعتاد، أن تجري الأنشطة الأساسية للدورة في قلب المدينة لا على أطرافها (كما في دورتي لندن عام 2012، وريو دي جانيرو في 2016، مثلاً)، مما يهدد بتحديات لوجيستية وأمنية جمّة بدأت إرهاصاتها في الظهور منذ اليوم، فيما الجمهوريّة على موعد مع وزير داخلية جديد سيتسلم مسؤولياته قبل أسبوعين فقط من ليلة الافتتاح، بينما نصف سكان العاصمة باريس يعتقدون أن استضافتها الحدث الرياضي الأهم «فكرة سيئة للغاية».

وكانت باريس قد تعهدت بخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري إلى النصف مقارنة بمستوياتها في دورتي «لندن» و«ريو دي جانيرو»، وتبنت لذلك إجراءات غير مسبوقة؛ إذ لن يسمح مثلاً باستخدام مولدات الديزل لتشغيل عربات البث المباشر، وهناك كميات أقل من اللحوم على قوائم إطعام الرياضيين، وعدد محدود للغاية من أعمال بناء منشآت جديدة، وذلك في استعراض لمؤهلات الدّولة الفرنسية بيئياً، وأيضاً لتحقيق طموح «اللجنة الأولمبية الدولية» في إثبات أن أكبر حدث رياضي في العالم يمكن أن يصبح صديقاً للبيئة. لكن أكاديميين ونشطاء بيئيين شككوا في إمكانية تحقيق ذلك، وسط تساؤلات حول الحجم الإضافي للسفر الجوي الذي تتطلبه دورة بهذا الحجم، والضغط الذي ستضيفه على قدرة قلب المدينة لضمان ديمومة حركة النقل وانسيابها؛ الأمر الذي دفع بـ«منظمة مراقبة الكربون» إلى الزعم أن «خطط العاصمة الفرنسية لخفض الانبعاثات لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية، وستكون دورة الألعاب دون مساهمة فعلية في مواجهة تغير المناخ».

وقد عاندت باريس بشدة دعوات مزدادة لإعادة التفكير في الحدث، وتحويله إلى سلسلة أحداث محلية يمكن توزيعها على مناطق عدة عبر فرنسا وربما جيرانها أيضاً؛ لأنه يفقد حينئذ ميزة العملقة التي تخدم أغراض الاستعراض السياسي وبناء القوة الناعمة. ويتهم البعض الحكومة باستغلال المناسبة العالمية لتمكين مشروع ضخم للمراقبة المكثفة في فرنسا عبر نشر شبكة هائلة من كاميرات الرقابة في بلد ظل حساساً دائماً لناحية الحق في الخصوصية.

فهل خلط الفرنسيون رياضة العالم بسياستهم؟

إن تاريخ الأولمبياد، منذ استعاد العالم مزاج الألعاب الرياضية الإغريقية القديمة في ثوب عصري بداية من عام 1896 (دورة أثينا)، ظلّ دائماً شديد الارتباط بالسياسة وموازين القوى بين الأمم، وعكست مسائل اختيار المدن المضيفة، والدول التي تُدعى فرقها للمشاركة فيها، المزاج السياسي والتحالفات الدّولية في وقتها، وتداخلت مع توجهات الأمم الرائدة والصاعدة لبناء مصادر قوتها الناعمة.

يقول المؤرخون مثلاً إن باريس عندما نظّمت «أولمبياد 1900» كانت تمور بالأفكار التي وجدت قنوات لها للتجسد في مختلف مجالات الفنون والعلوم والصناعة، وتلازم تنظيم دورة الألعاب حينها مع استضافتها المعرض الدّولي الذي كان يستقطب الزائرين من مختلف أرجاء العالم للاطلاع على أحدث الاختراعات والإنجازات الصناعيّة المبهرة، فأصبحت الدورة الرياضية كأنّها مجرد نشاط ترفيهي ملحق بالمعرض. ولا شكّ في أن فرنسا استخدمت نفوذها السياسيّ الطاغي حينئذ لفرض أجندتها على «اللجنة الأولمبيّة الدّولية» ووضع الدورة في خدمة أولويات الدولة الفرنسية اقتصادياً وسياسياً.

وتصف صحافة تلك الفترة ضخامة الحدث؛ الذي استمر لما يزيد على 5 أشهر - من منتصف مايو (أيّار) إلى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) - بمشاركة 59 ألف رياضيّ حضروا للمنافسة من مختلف أرجاء العالم، وجمع لحمايتهم وإسنادهم أكثر من 10 آلاف رجل من الإطفائيين والمسعفين والصيادين، وهؤلاء شاركوا في منافسة لصيد الأسماك من نهر السين سعياً لتوفير الأموال التي تدفع لاستيراد الأسماك البحرية من دول مجاورة، ناهيك بعدد هائل من موظفي الحكومة الفرنسية الذين أداروا الأنشطة المرافقة للدورة عبر شبكة ضخمة من لجان فرعية توجهها لجنة تنظيم مركزية تتبع وزير التجارة الفرنسي.

ويقول المؤرخ البريطاني ديفيد أوين في كتابه «القوات الأخرى: الرياضة عند الفرنسيين من وجهة نظر إنجليزية (2024)» عن دورة عام 1900 إن التقرير النهائي الذي صدر عن وزارة التجارة والصناعة الفرنسية - لا عن جهة رياضيّة - أفاض في وصف العربات والآليات التي تنتجها المصانع الفرنسية - سواء للأغراض المدنية والعسكرية - والتي شاركت في أنواع مختلفة من رياضات السباق، إضافة إلى وصفه المكثف نشاطات موازية استعرضت كفاءة تلك العربات وغيرها من الآليات الثقيلة وسيارات النقل ومعدات القتال أمام الجماهير على هامش سباقات الأولمبياد. ويلاحظ كذلك أن أنشطة الرّماية وسباقات المناطيد (وصل أحدها إلى جوار كييف على بعد 1900 كيلومتر من باريس) والمنافسات بين وحدات المدفعية (هذه الأخيرة اقتصرت المشاركة فيها على الفرنسيين) شكلت في مجموعها الجزء الأهم من الفعاليات التي نظمت تحت مظلّة الدّورة بما يخدم توجهات العسكرة للدولة الفرنسية حينها.

وهكذا؛ بين «باريس 1900» و«باريس 2024» تغيرت أولويات الدولة الفرنسية، وتفاوتت الرياضات المشمولة بالأولمبياد، ولكن مبدأ اختلاط السياسة بالرياضة ظل ثابتاً لا يتبدل.