أمجد ريان: لست «أباً روحيّاً» لأحد وأعيش الحياة بقوة الحلم

الشاعر المصري يصف علاقته بالكتابة بأنها «جوع مستعر»

 الشاعر أمجد ريان
الشاعر أمجد ريان
TT

أمجد ريان: لست «أباً روحيّاً» لأحد وأعيش الحياة بقوة الحلم

 الشاعر أمجد ريان
الشاعر أمجد ريان

بشاربٍ كثٍ وصوت جهوري ونبرة ما أسهل أن تختنق بالعبرات من فرط سرعة التأثر، يطل الشاعر المصري أمجد ريان، على الحياة من «خلف شرفة الحنين والامتنان للماضي». يكتب قصيدة تشبهه تماماً ببساطته وعفويتها وخلوها من الزخرف. الحياة اليومية بتفاصيلها البسيطة والروح المصرية الحميمة تشكلان ركيزة أساسية في إبداعاته. ويصف علاقته بالكتابة بأنها «جوع مستعر». من دواوينه الشعرية: «الخضراء»، «البيوت الصغيرة»، «لا أحد للصباح» و«تي شيرت واسع بكل الألوان». فيما يبدو النقد الوجه الآخر لحضوره في المشهد الثقافي عبر عدد من المؤلفات منها: «غالى شكري بين الحداثة وما بعد الحداثة»، «تبادلات الذات والواقع في التجربة الرومانتيكية»، «صلاح فضل والشعرية العربية»، و«حيوية الوجود في رواية عطلة رضوان لعبده جبير».

هنا... حوار معه حول ديوانه الجديد، وهموم الشعر والكتابة.

* في أحدث دواوينك «تي شيرت واسع بكل الألوان» تتبدى التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية مثل الشارع والميدان وبطاقة شحن الموبايل كما لو كانت «جحيماً» يعيشه الشاعر؟

- ليست التفاصيل الصغيرة جحيماً، بل هي طبيعة الحياة التي نعيشها اليوم. لا يمكن أن نتصور الحياة جحيماً بقدر ما هي المجال الذي تتحقق فيه أحلامنا وأفكارنا، كما أنها المجال الذي تتحقق فيه الأحداث اليومية التي تحيط بنا. والشيء الثابت عندي مهما تغيرت الأشياء ما بين جنة أو جحيم من حولي هو عشقي للكتابة وانشغالي بها طوال اليوم منذ استيقاظي صباحاً ما لم يشغلني عنها شاغل قهري.

* في الديوان نفسه تقول: «نحن المساكين نتصور أن اللغة ستصل بنا إلى بر الأمان... فإذا بنا في قلب المتاهة»، هل تخونك اللغة؟

- وصف اللغة هنا بأنها خائنة يعني أنها متعددة الدلالات إلى أقصى درجة. وكثيراً ما نتصور دلالة محددة، نبحث عنها، لكننا نفاجأ بأنها تفتقت عن دلالات أخرى لم تكن في الحسبان. اللغة غنية للغاية وثرواتها الدلالية مضطردة النمو في كل الاتجاهات. وهذا بالضبط ما يجعل الإبحار معها أشبه بمغامرة تقود نحو اكتشافات مدهشة، المصب يختلف عما كان في حسباننا ونحن في المنبع.

* بدأت مسيرتك الشعرية بقصيدة «التفعيلة» ثم اتجهت نحو «قصيدة النثر»... ما مبررات هذا «التحول» فنياً وإبداعياً؟

- أخشى أن يُفهم من السؤال وكأن اهتمامي بقصيدة النثر جعلني «أهجر» قصيدة التفعيلة. ليست المسألة هجرة بل تطور طبيعي لثقافتي وأفكاري. هذا بالضبط ما يبرر هذا التحول، مع العلم بأنني كنت أكتب قصيدة التفعيلة وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وأنا الآن تجاوزت السبعين.

* كان والدك صاحب رؤية محافظة وتلقيت على يديه تربية تراثية صارمة، لكنك اتجهت رغم ذلك إلى الثقافة والتجريب والرؤية الحرة في الشعر والحياة... كيف تنظر لهذه المفارقة؟

- أنتمي إلى أسرة بسيطة بالمعيار الاقتصادي، لكن حدث أن اقتني أبي بعد حصوله على الميراث شقة جيدة في حي منشية البكري، الذي كان لا يزال عريقاً ويسكنه علية القوم من أصحاب الفيلات. وكان أبي يعمل مدرساً بمدرسة «سراى القبة الثانوية للبنات» التي لا تزال قائمة حتى اليوم. تخرج أبي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب وهو القسم نفسه الذي تخرجت فيه. كان أبي عاشقاً للغة ورباني وفق منظور كلاسيكي محافظ، لكنه كان أيضاً تلميذاً للدكتور طه حسين وعاشقاً للشعر القديم. وعندما رأى ميولي تجاه الثقافة والأدب وأنا في سنوات الصبا، تحولت العلاقة بيننا إلى ما يشبه الصداقة. أخذ أبي يشرح لي وأنا في تلك السن الصغيرة عيون الشعر العربي، لا سيما شاعره الأثير طرفة بن العبد.

* ألم تحدث خلافات بينكما؟

- بالطبع كانت توجد خلافات بيننا، فعلى سبيل المثال في المرحلة الثانوية أصر والدي أن ألتحق بالقسم العلمي بما فيه من رياضيات وعلوم وكنت لا أطيقه. وكانت النتيجة أن حصلت على مجموع ضعيف في امتحان نهاية العام، ثم أعدت العام الدراسي، وتكرر حصولي على مجموع ضعيف. وعندما انتقلت إلى القسم الأدبي تفوقت والتحقت بقسم اللغة العربية التي كان الطلبة يهربون منه، وحصلت على الدكتوراه في النقد الأدبي.

*ماذا عن المفارقة الأخرى التي تنطوي عليها تجربتك الإبداعية والتي قد لا يعرفها كثيرون وهى أنك بدأت مسيرتك كاتباً للقصة القصيرة؟

- كنت عضواً بالنادي الأدبي بقصر ثقافة «الريحاني» وكان يشرف على النشاط الثقافي به الروائي المعروف إبراهيم عبد المجيد. وكان من عادة النادي إقامة ندوة شهرية يستضيف فيها أحد النقاد المهمين للتعليق على نصوص إبداعية لأحد أعضاء النادي من الشباب. وقد وقع علىّ الاختيار باعتباري قاصاً وليس شاعراً، حيث كانت بداية معرفة الوسط الأدبي بي أنني كاتب قصة قصيرة. وكان حظي أن ناقش أعمالي القصصية الناقد سامي خشبة الذي أعجب بما قرأه حتى أنه قال كلاماً أخجل من تكراره الآن وتنبأ لي بأن أصبح أحد فرسان القصة في مصر. وكان عمري يتراوح ما بين 19 أو 20 عاماً بحد أقصى.

* كيف جاء التحول إلى الشعر إذن؟

- لم يكن قراراً عقلياً أو اختياراً واعياً. ما أعرفه هو أنه بعد تراكم مشاعر وخبرات عاطفية وتوالي محطات من المعاناة وجدت الشعر مبتغاي ووجهتي وملاذي. أصبحت الكتابة بشكل عام أحد أشكال الهوس في حياتي. أعاني جوعاً مستعراً للكتابة على مدار اليوم. الكتابة صارت بالنسبة لي هي الحياة. كثيراً ما أذهب للفراش وفي عيني دمعة نتيجة الغيظ لأن فكرة أو معنى عنّ لي ولم أستطع تدوينه.

أذكر أن التقيت الناقد عبد الفتاح الجمل الذي كان مشرفاً على الملحق الأدبي بصحيفة «المساء» وأعطيته وأنا طالب جامعي إحدى قصائدي ليطلع عليها. كان متجهماً ولم يقم معي حواراً. طلب فقط أن أدع القصيدة على مكتبه. غادرت المكان وأنا حزين، وفي الأسبوع التالي كنت أتعرض مرة أخرى للاختيار الصعب، هل أشتري بما عندي من مال قليل صحيفة «المساء» لأطالع الملحق الذي أعشقه أم أشترى وجبة عشاء ساخنة. اشتريت الصحيفة لأجد قصيدتي منشورة على ثلاثة أرباع صفحة فشعرت بفرحة زلزلت كياني. إنها ذكرى مدهشة تأسرني حتى الآن. أيضاً كان ينشر لي الناقد فاروق عبد القادر في مجلة «الطليعة» التي كان يرأس تحريرها المفكر لطفي الخولي.

* الآن وبعد كل هذه السنوات من العطاء شعراً ونقداً، كيف تنظر إلى تجربة جيل السبعينات، هل لا يزال يشكل بئرك الأولى؟

- كنت أشارك في الكثير من الندوات والأنشطة الأدبية ضمن مجموعة من الشباب المتحمسين للثقافة والإبداع وحلم تغيير العالم عبر النص الأدبي. لم تكن ملامحنا كجيل قد تشكلت بعد. وفي إحدى الندوات، تعرفت على كل من الشاعرين حلمي سالم وعلي قنديل. مات قنديل في عز شبابه وبقى سالم بحماسه وطاقته. سهرنا في ذلك اليوم في مقهى بميدان التحرير حتى الساعات الأولى من الصباح ونحن نشتعل بالأحلام. في تلك الليلة ولدت فكرة مجلة «إضاءة 77» التي كان سالم الدينامو المحرك لها. لم أحضر صدور العدد الأول من المجلة بسبب خدمتي العسكرية لكن شاركت في تحرير كل الأعداد التالية. شارك في المجلة التي كانت غير دورية وتصدر بقروش زهيدة من جيب مبدعين شبان شعراء ما سيطلق عليهم فيما بعد «جيل السبعينيات الأدبي» مثل جمال القصاص وحسن طلب ورفعت سلام وحلمي سالم.

* يبدو حضورك خافتاً بين أقرانك من جيل السبعينيات، لا سيما في العشرين سنة الأخيرة، هل هو زهد في الأضواء أم ظلم وقع عليك؟

- بشكل شخصي لم يقع عليّ أي ظلم إعلامي وأنشر قصائدي، غالباً، في المكان الذي أجده مناسباً وأحس بأهميته الثقافية في حياتنا. أما شعراء جيل السبعينيات فقد قاموا بدور مهم في تأكيد تجربة «المجاز اللغوي» لتقوم بدورها التاريخي تجاه القصيدة العربية، حتى سلم جيل السبعينيات الراية لأجيال جديدة أقدر على مواصلة القيام بأدوار تالية.

* البعض يعدك أحد «الآباء الروحيين» لشعراء جيل التسعينيات الذين راهنوا على قصيدة النثر في مصر، إلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟

- لا أحب أبداً تعبير «الأب الروحي»، خصوصاً فيما يتعلق باهتمام شاعر بتجربة شعراء من جيل تالٍ. وأنا لم أقم بدور أب روحي، بل لم أساعد في الأصل شعراء جيل التسعينيات، والحقيقة هي أنني أنا الذي استفدت من الكثير من رؤى هذا الجيل الطليعي الرائد.

* يرى البعض أن قصيدة النثر استنفدت جميع طاقاتها التعبيرية والجمالية، وآن لها أن تتنحى جانباً وتفتح الطريق لشكل فني يعيد للشعر حيويته بعيداً عن النمطية والتكرار... كيف ترى الأمر؟

- على العكس من ذلك، أعتقد أن قصيدة النثر لم تبدأ بعد لأنها قدمت حتى الآن أقل إمكاناتها الجمالية والتعبيرية والرؤيوية. وأعتقد أنه بداية من الزمن القريب القادم ستبدأ قصيدة النثر في تفجير طاقاتها الهائلة التي تزداد ثراء في كل يوم، والتي ستبهرنا بما كنا لا نتوقع.


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.