قراءة في مجلة أميركية مختلفة

فصلية «لافام» تختزل الأنواع الكتابية المعروفة كلها تقريباً

نور الدين فرح
نور الدين فرح
TT

قراءة في مجلة أميركية مختلفة

نور الدين فرح
نور الدين فرح

أتابع هذه الفصلية أو المجلة التي تصدر أربع مرات في العام منذ صدورها في نيويورك عام 2007. استرعت انتباهي لسبب رئيس هو معرفتي باسم لافام الذي تنسب إليه، فقد كنت وما زلت أحد المتابعين لمجلة «هاربرز» التي كان الكاتب والمؤرخ الأميركي لويس لافام يرأس تحريرها لعدة سنوات، قبل أن أعرفها. ولأن «هاربرز»، المجلة الثقافية الشهرية العريقة، في طليعة المجلات الثقافية التي تصدر بالإنجليزية في أي مكان (تصدر منذ مائة وسبعين عاماً دون توقف)، فكان من الطبيعي أن يسترعي انتباهي اعتلاء اسم رئيس تحريرها على مطبوعة أخرى بعد أن ترك رئاسة التحرير.

نوال السعداوي

فما الذي يختلف في «فصلية لافام»، «لافامز كوارترلي» (Quarterly Lapham’s)؟

إنها مجلة لا تقبل المساهمات المقالية، فهي ليست مفتوحة للنشر خارج هيئة تحريرها، وتختلف عن غيرها أيضاً، وهذا هو الأهم، في أن كل عدد من أعدادها يتمحور حول قضية أو ظاهرة أو موضوع كبير: الطبيعة، الحب، الحرب، المال، الشباب، الطب، الحرية، الشبق، إلخ. موضوعات شائعة وأحياناً غريبة، لكن المهم أيضاً ليس في الموضوعات أو القضايا بحد ذاتها وإنما في كيفية عرضها وما يقال حولها. «فصلية لافام» مجلة تعنى بالتاريخ تبعاً لتخصص صاحبها، ولكن التاريخ هنا حاضر بصورة غير معتادة: في كل عدد يختار محررو المجلة نصوصاً من عصور ولغات مختلفة تتمحور حول القضية المحورية. النصوص إما بالإنجليزية أساساً أو مترجمة إليها، ومع أن الثقافات الغربية، الأوروبية والأمريكية، تحظى بنصيب الأسد أو ما يتجاوزه بقليل، فإن في كل عدد نصوصاً من لغات غير غربية، مثل: الصينية واليابانية والفارسية والعربية وغيرها. هناك كتاب من العصر اليوناني ومن العصور الوسطى ومن القرن السادس قبل الميلاد ومن القرن الثامن عشر ومن الوقت الحاضر. كلها تتمحور حول قضية واحدة. «الفكرة» أو الهدف، كما صرح لافام لـ«نيويورك تايمز» في 2009، «هي الإتيان بأصوات الماضي لتتحدث في ميكرفون الحاضر»، ذلك أن التاريخ يعلم الحاضر ويضيئه، أو هكذا تفترض المجلة.

جورج أورويل

ربما يعرف البعض المجلة الأميركية الشهيرة «ريدرز دايجست» التي ترجمت عربياً إلى «المختار»، التي تأسست على فكرة اختيار بعض ما ينشر في المجلات الأخرى واختصاره وتقديمه للقارئ. لكن فصلية لافام تختلف كثيراً سواء في عمقها أو في طبيعة اختياراتها أو اتساع أفقها. الفرق كبير، لكن الفكرة ليست بعيدة: هي فكرة المختارات، أو المقابسات بتعبير أبي حيان التوحيدي، التي تختصر العالم في قشرة جوز، كما يقول الأميركيون. والاختصار بطبيعة الحال يأتي من زاوية يورو - أميركية ومن رؤية غربية، لأن كل اختيار متلون برؤية صاحبه، انتقاؤه مؤسس على قناعاته بالموضوع المحوري وبأهمية النص وأهمية اللغة وما إلى ذلك. وتظل «فصلية لافام» متميزة مع كل ذلك بشموليتها وسعة إحاطتها بتراث عالمي لا يكاد يدري عنه أو يأبه له. والجميل في نهاية المطاف هو الائتلاف، ائتلاف النصوص حول مركز موضوعي، لقاء كاتب صيني من القرن العاشر الميلادي بكاتب يوناني من العصر اليوناني القديم بكاتب عربي من القرن الثاني عشر بشاعرة أميركية سوداء من القرن الثامن عشر، بكاتب مكسيكي من القرن العشرين وهكذا. والكتاب، أو بالأحرى النصوص، ليست نثرية كلها بل إن منها المنظوم، وهي تكاد تختزل الأنواع الكتابية المعروفة كلها تقريباً: السرد والشعر والسيرة والتاريخ والوصف الجغرافي والنص العلمي الفيزيائي والتحليل النقدي والفني، إلى غير ذلك. عمل موسوعي ومن نوع خاص.

يضاف إلى ذلك كله أن الفصلية هذه تعنى بالفنون وتتزين أعدادها بلوحات وصور أغلفة ورسومات توضيحية وغيرها مما يتصل بموضوع العدد، ويتضح أنها حريصة على ذلك لأسباب موضوعية وفنية كما لجذب القراء، فالصور بطبيعتها مغرية بالمطالعة. والفصلية دقيقة جداً في نسبة كل ما تتضمنه إلى مصادره وذكر أذونات النشر التي حصلت عليها في نهاية كل عدد وبحرف بالغ الصغر لكثرتها. ولتتضح الصورة أكثر سآخذ عددين من أعداد هذه الفصلية الفريدة من نوعها بغرض التمثيل.

المثال الأول هو العدد الرابع من المجلد الرابع عشر الصادر عام 2022. محور العدد التعليم أو التربية (كلمة education تختصر المفردتين). تتصدر العدد عبارة لأرسطو هي «جذور التعليم مرة لكن ثماره حلوة» (330 قبل الميلاد). وتبلغ مواد العدد حوالي ثمانين مادة متنوعة ومختلفة الأحجام من الطويل الممتد لصفحتين وأكثر قليلاً إلى الفقرة القصيرة والعمود الصغير (سياسة المجلة لا تسمح بالنصوص الطويلة).

يتصدر قائمة المواد نص للفيلسوفة الأميركية المعاصرة أغنيس كالارد ويتلوه مباشرة نص لقس إنجليزي هو جون أوف سالزبري من القرن الثاني عشر بعد نص للألماني رودولف شتاينر يعود لعام 1924 ثم نص لكاتب فرنسي يعود لأواخر القرن الثامن عشر ثم نص ياباني يعود لعام 1936، وهكذا تسير القائمة. لكن سيهم القارئ العربي بصفة خاصة أن يعلم أن القائمة تتضمن نصاً لأبي حيان التوحيدي يعود للعام 985 ميلادي تقريباً. النص من كتاب «المقابسات»، ويتضمن كلاماً لأبي سليمان المنطقي حول التعليم والعلوم في مجلس حضره أبو حيان على طريقته المعتادة في كتب أخرى مثل «الإمتاع والمؤانسة». وفي منتصف الصفحة التي حملت نص التوحيدي اقتباس من المفكر والناشط الأميركي الأسود فريدرك دوغلاس حول جريمة حرمان أحد من التعليم (1894). وإلى جانب التوحيدي نجد نصاً قصيراً للشاعر الفارسي سعدي الشيرازي حول ملك عهد إلى معلم بتعليم ابنه.

العدد الآخر الذي أمثل به للفصلية هو العدد الأخير الذي صدر في ربيع 2023 والذي يتمحور حول الحرية. هنا نجد أيضاً عدداً كبيراً من النصوص الممتدة من العصر السومري في العراق وتنسب لشوروباك الملك السومري، حسب تعريف المجلة، الذي عاش حوالي 2400 قبل الميلاد ويشار إليه أحياناً بعصر ما قبل الطوفان. وفي قائمة المصادر تعريف بأن النص استقي من نص إلكتروني تم الوصول إليه من خلال جامعة أكسفورد. والنص حول نوع الخادم الذي ينصح الأب ابنه بالحصول عليه، والخادم من الرقيق. يقول احصل عليه من منطقة بعيدة تقع وراء الجبال لكي تأمن شره ويكون مطيعاً لك.

لكن القائمة تتضمن ما هو أحدث بكثير، فهناك نصوص للمكسيكي أوكتافيو باث والبريطاني سي. إس. لويس والجنوب إفريقية نادين غورديمير إلى جانب جورج أورويل وآخرين.

اللافت لنا في العالم العربي وجود نص لنوال السعداوي من كتابها «مذكراتي في سجن النساء» يعود لمطلع الثمانينات من القرن الماضي. كما أن في العدد نصوصاً للمناضل والمفكر المارتينيكي فرانتز فانون يعود لعام 1952 ولحنة أرنت (1960) ولنيتشه (1888) وللفيلسوف الإنجليزي هوبز من كتابه المعروف «ليفاياثان» (الوحش أو التنين) يعود لعام 1651، وهو كتاب تأسيسي في الفلسفية السياسية كتبه دفاعاً عن سلطة الملك تشارلز الأول ليقول إن القوة ضرورة لاستتباب الأمن. والنص تعريف لمعنى الحرية التي يستخدم لها المفردتين الأجنبيتين «ليبرتي» و«فريدوم» اللتين تعنيان الحرية في مناقشة لدلالات المفهومين.

وهناك نص للروائي الصومالي المعاصر نور الدين فرح الذي يكتب بالإنجليزية، وللروائي والشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا (القرن العشرين) إلى جانب الشاعرة الأميركية فيليس ويتلي التي تعد أول شاعرة أميركية سوداء نشرت أعمالها في القرن الثامن عشر. عدد غني دون شك ويوفر قراءة بالغة الإثراء لمن لديه الوقت والاستعداد. لكن كونه مختارات، مثل غيره من أعداد المجلة، يجعل القراءة ميسورة وأكثر إمتاعاً.

وأضيف وأنا أقترب من نهاية هذه المقالة أن فصلية لافام تصدر عن مؤسسة غير ربحية أسسها لافام، وهو نفسه ثري ومن أسرة يهودية ثرية، فجده مؤسس شركة تكساكو للنفط. وتجد المجلة التمويل في المبيعات (حوالي 60 بالمئة) وفي التبرعات (النسبة الباقية). توزيع المجلة محدود بطبيعة الحال لذا توفر التبرعات مصدراً لا غنى عنه وهو يأتي في الغالب من أصدقاء للافام نفسه، ومنهم مثلاً رئيس مجلس إدارة مكتبة «بارنز آند نوبل» وهي أكبر مكتبة لبيع الكتب في الولايات المتحدة، فالمجلة تتصدر واجهة قسم المطبوعات الدورية في جميع فروع المكتبة المنتشرة في كل الولايات والمدن الأميركية الكبيرة والمتوسطة وأحياناً الصغيرة. لنا أخيراً أن نتخيل ذلك الفريق من الباحثين في مؤسسة لافام الذين يحفرون في المصادر وينتقون ويحررون ويختصرون ويترجمون النصوص. عمل جبار دون شك كم تمنيت أن يتوفر ما يشبهه في اللغة العربية وكم حاولت أن أستنهض همم بعض المؤسسات لكني لم أجد أذناً تصغي لأهمية وقيمة مثل هذا العمل لو تحقق للثقافة العربية. نشرت الفصلية في عددها الأخير عدداً كبيراً من النصوص الممتدة من العصر السومري في العراق وتنسب للملك شوروباك



«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية
TT

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

«عملية تجميل»... فانتازيا سردية على وتر الثورة العلمية

من خلال رؤية فانتازية تطرح رواية «عملية تجميل» للروائية المصرية زينب عفيفي مفهوم الجمال من خلال لعبة مع الزمن، حيث العُمر يعود أدراجه الأولى، مخالفاً سنن الحياة، وهو يُراوغ الكمال وأساطيره، فتنطلق الرواية من مدينة تتبدّل وجوه أصحابها ليصبحوا جميعاً في عمر الشباب، كأنما تم صبهم في قالب عمري واحد، لتجمعهم تجربة جماعية أقرب في تأثيرها لما يفعله الوباء.

صدرت الرواية أخيراً عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة، وفيها تبدو البطلة العجوز كأنما تم استثناؤها من هذا الوباء الذي أصاب الطبيعة البشرية وتفاعلها مع الزمن، حيث يعود الناس لسن الشباب بدلاً من التقدم في العُمر، كأن البطلة بتجاعيد وجهها تقف خارج أسوار هذا الزمن الجديد، فيما يقف طبيب التجميل «الساحِر» كما يُطلق عليه الأهالي، في بؤرة تلك المدينة بتكوينها الإنساني والنفسي الجديد، في ثنائية تصنعها الرواية عبر بطليها الرئيسين؛ التمسّك بالحقيقة من جهة، واحتراف صناعة الزيف من جهة أخرى. كما أنها تروج للجمال وتقدمه منزوع التجاعيد، بينما تقف آثار الزمن على أعلى سلم المُغريات، فيُسلّم أهل المدينة وجوههم سواء كانوا نساء أو رجالاً مسلوبي الإرادة إلى يد «الطبيب» الذي يصطفون أمام عيادته بالطوابير ليهبهم ذوات جديدة، بوجوه بلاستيكية لامعة تتمرد على الشيخوخة العالقة في خلاياهم، وتترك كل واحد منهم في صراع عنيف بين صورته الخارجية وشعوره الداخلي بالعُمر، مما يُحرك دوافع أبطال العمل في اتجاهات متباينة.

تفريغ المدينة

تربط الكاتبة بين الثورة العلمية التي تركت بصمتها على وجوه أهل المدينة والتغييرات التي بدأت تمسخ وجه المدينة نفسها من تغييرات في معمارها، وتجريد لأشجارها، وعبث بدروبها القديمة، فيما تبدو كأنها «استراتيجية» كاملة لتخليص البشر والحجر من هُويتهم، وتفريغ التاريخ الحيّ من جوهره: «عادت الاحتجاجات إلى شوارع المدينة وعلى منصات التواصل الاجتماعي تهاجم بشكل ساخر طرق التشويه التي عَلَت الوجوه، مثلما نالت من جمال المدينة بتحويل بعض الحدائق العامة إلى ميادين خالية من الأشجار، أو تقاطِع التراجع للخلف للسيارات في الاتجاه العكسي، وغاب اللون الأخضر الذي ظلّ يميزها منذ سنوات طويلة».

وتكشف شخصيات الرواية عن وجهات النظر التي تتراوح بين دعاوى التغيير والتحديث، وكثير من المجادلة حول مفهوم «الجمال»، و«القبح»، و«التجميل» الذي تتمسك بطلة الرواية وراوِيتها الرئيسية «شيريهان» بنظرتها «المثالية» حياله، متجردةً من ماديته، والانحياز للزمن ورومانسيته، وجماليات مروره: «تجاعيد جبيني هي دهشتي أمام الحياة، وتلك المحيطة بفمي لأنها تُظهر كم ضحكت وكم قبّلت».

يفرض هذا الواقع «العبثي» الجديد بصمته على تلقي أهل المدينة للحياة والحب، فتسود حالة من الاختلاط والتشويش، التي تجعل الشباب ينجذبون لسيدات في عمر أمهاتهن بعد أن صرن يُشبهن بناتهن، فتختلط التركيبة العمرية للمدينة، ويبدو «التصابي» أسلوب الحياة الاصطناعي المهيمن، حيث الصور «الكاذبة» تبدو بمثابة واجهة مجتمعية جديدة، ويبدو الدكتور «ماهر» طبيب التجميل وصاحب الاختراع الذي يُعيد الكهل شاباً، يبدو أقرب إلى صورة «المُخلّص» الذي يتدافع الناس في طوابير من أجل «إكسير» الشباب الذي قام باختراعه، ثم سرعان ما ينفض يديه من التبعات الكارثية التي تحلّ على أهل هذه المدينة نتيجة تشويه هذا الإكسير لطبيعتهم البشرية.

تجربة جماعية

تضع الرواية هذا الاختراع الطبي المستخدم في عمليات التجميل التي يتسارع من أجلها الناس، معادلاً للتخريب التكنولوجي والرأسمالي الذي يتهرب من مسؤوليته الأخلاقية، وذلك بعد أن تجعل المدينة تخوض «التجميل» بوصفه تجربة جماعية كبرى، بدأت كتجربة مُغوية، وانتهت بالعبث بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، علاوة على تفجير الجنون والصراع النفسي العنيف لدى أصحابه، وجعلت الرواية الطبيب «الساحِر» ممثلاً لهذا التهرب من المسؤولية الأخلاقية، وهو الطبيب الذي يخطو نحو الستين من عمره فيما وجهه في الثلاثين، ويتحدث عن اختراعه على أنه انتصار لم يتم تقديره من سكان المدينة: «نيتي كانت نشر الجمال والسعادة، عيوب التطبيق ليست من شأني، لم يكن هدفي تدمير المدينة وتحويلها إلى مشفى للأمراض النفسية».

ومن ثم، يبرز «الهروب» من العُمر، والحقيقة، والذاكرة، بوصفه أحد مرتكزات الرواية، في مقابل ما بدا كأنه مزاد على «الحق في الحياة» حيث تسود الفوضى، مع تمسك «المتصابين» بعد عمليات التجميل، بالخروج إلى ساحة ميدان المدينة للمطالبة بحقهم في الاستمرار في وظائفهم ما داموا شباباً، فيما الشباب يرفعون صور هؤلاء المتصابين قبل وبعد تناولهم إكسير الشباب في احتجاج على حقهم في «فرص الحياة»، أما بطلة الرواية التي تجاوزتها الحياة والحُب فتطل على هذا المشهد الجمعي المستعِر، عبر صوتها «الفرد» في مواجهة جنون الخارج: «ما أجده غريباً ليس تقدمي في السن، ليس أنني صرت عجوزاً، ولا تحوّل كل صديقاتي إلى شابات... ما يزعجني أنني أشعر بالحزن لأنني تقدمت في العمر بنفس الطريقة التي تقدم بها من حولي وصاروا كلهم شباباً، ومات الحلم بداخلي أن أعيش حياة طبيعية».