درويش عقبة وجدار أم نافذة على المستقبل؟

بعد 15 عاماً من الغياب

درويش عقبة  وجدار أم نافذة على المستقبل؟
TT

درويش عقبة وجدار أم نافذة على المستقبل؟

درويش عقبة  وجدار أم نافذة على المستقبل؟

على مدار مسيرته الشعرية، تحوَّل محمود درويش (1941- 2008) إلى أيقونة، إلى رمز ثقافي، وناطق شعري باسم الفلسطينيين، رغم العدد الكبير من الشعراء الذين أسهموا في تشكيل المشهد الشعري، على أرض فلسطين التاريخية أو في المنافي القريبة أو البعيدة. لقد تفرَّد درويش، وصار اسمه الشعري كناية عن فلسطين وقضيتها، رغم غنى التجربة الشعرية الفلسطينية، والتنوع والتعدد اللذين وسما هذه التجربة، حتى كثر الحديث عن حجب اسمه لعدد كبير من الأسماء الشعرية اللامعة في هذا المشهد الشعري المتعدد، الذي استهله شعراء فلسطينيون بارزون في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، ونخصُّ بالذكر ابراهيم طوقان (1905- 1941) وأبو سلمى - عبد الكريم الكرمي (1909- 1980) اللذين دشَّنا التجربة الشعرية الفلسطينية المتطورة قبل حلول نكبة فلسطين عام 1948. ورغم أن البعض، من حاسدي درويش ، والغيارى من حضوره الشعري والإعلامي البارز والمستمر، يعيدون هذا الحضور إلى ارتباط اسمه بالفضية الفلسطينية، وقربه من قيادة منظمة التحرير، ومن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصيًّا، إلا أن هذه الأصوات، التي ما زالت تبث في الإعلام، وعبر صفحات التواصل الاجتماعي، ما يسعى إلى تقويض مكانة درويش الشعرية، وتشويه صورته الإنسانية، وتلويث سمعته الأخلاقية، تضرب صفحًا عن حقيقة أساسية في تجربة هذا الشاعر العربي، والعالمي الكبير، وهي قدرته على التطور، والتحوُّل، وبناء عالم شعري يتصادى مع التجارب الشعرية الكبيرة في التراث، كما في الحاضر، وكذلك مع الشعريات العالمية، والمتعددة، الآتية من لغات مختلفة. إنه يبني من هذه التأثيرات، التي تسربَّت إلى تجربته، منذ أن نشر قصائده الأولى في فلسطين المحتلة، قبل خروجه منها، وعلى مدار مسيرته الشعرية، شعرًا مختلفًا، يمزج بين العمومي والشخصي، بين عذابات الفلسطينيين ورغبته في التعبير عن الوجود الإنساني، وهموم الشخص، والفرد فيه، في تجربة متفردة في الشعرية العربية المعاصرة.

لم يكن محمود درويش مجرد ناطق شعري باسم الفلسطينيين، أو صدى للحدث الفلسطيني اليومي، بل كان مهمومًا بتطوير تجربته الشعرية، وأخذها إلى مسارب جديدة، والتأمل في عذابات الكائن، فرحه وبؤسه، انتصاره وهزيمته، والبحث الشعري في تجربة الوجود البشري. ونحن نقع على هذا البحث، بصوره البدائية البسيطة، في قصائده الأولى، لكننا نشهد نضج هذا البحث في شعره الذي كتبه بعد خروجه من فلسطين، ووصول تجربته الشعرية إلى معانقة حقائق الوجود والحب والموت، والعدم والفناء، وتضافر الشخصي بالجماعي، والمحلي بالكوني، واليومي بالأسطوري، في مجموعاته "أحد عشر كوكبًا"، و"ورد أقل"، و"لماذا تركت الحصان وحيدًا"، و"سرير الغريبة"، و"جدارية"، وصولًا إلى مجموعته الأخيرة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي". ولعلَّ الواقعة المتكررة في أمسياته الشعرية، خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، التي كان يعاند فيها جمهوره الذي يطالبه بقراءة قصيدته "سجل أنا عربي"، دلالة على رغبة الشاعر أن يغادر صورته النمطية التي حاول جمهوره المحبُّ سجنه في إطارها. كانت تلك القصيدة بنت زمانها، وأسيرة ظرفها الموضوعي، ورغبتها في مقارعة السجان، وإعلان الشاعر انتماءه لمحيط عربي واسع، وتجربة جماعية كبرى. وهي أيضًا نتاج تمارين كتابية أولى، ولم تعد صالحة للتعبير عن تطور تجربة درويش، وخبراته الثقافية، والوجودية، ورؤيته للعالم، في زمن شهدت فيه القضية الفلسطينية، كما التجربة الشخصية للشاعر، تعرجات، وانحناءات، وانكسارات، وآفاقًا مسدودة. ولقد أثبت درويش، في مجموعاته الشعرية التي نشرها بعد خروج الفلسطينيين من بيروت، قدرته على التعبير المركَّب عن تراجيديا الفلسطينيين، ورحيلهم الأبدي في عالم لم يعد يكترث بهم. في هذا الشعر الذي بدأنا نرى تباشيره الأولى في مجموعتيه "أحبك أو لا أحبك" (1972)، و"محاولة رقم 7" (1973)، نعثر على أعماق تجربة درويش، وقدرتها على التعبير عن الإنساني العميق، والكوني، في تجربة الفلسطينيين. ولعلَّ هذا ما يجعل تجربته متفردة في إطار المشهد الشعري الفلسطيني، وكذلك العربي، ويدفعها لتصطف إلى جانب شعريات عالمية عديدة، استطاعت أن تجتاز حدود اللغات والثقافات، لتصبَّ في نسيج الشعريَّات الكونيَّة، وتعبر عن تجارب الوجود الكبرى، متجاوزة محليَّتها، وسجنها اللغوي، لتصير تعبيرًا عن الإنسان، مطلق إنسان، ومأساة وجوده في هذا العالم.

لكن، إذا كان مستهجنَا النظر إلى شهرة درويش وانتشار شعره، وتحوله إلى رمز شعري لفلسطين، بوصفه نتاج الظرف السياسي، وقرب الشاعر من النخبة السياسية الفلسطينية العليا، فإن من المرفوض، من وجهة نظري، أن نفكَّ ارتباطه بالقضية الفلسطينية، والنظر إليه بوصفه شاعرًا متفردًا، هو نتاجُ اختباره للشكل الشعري، وإلحاقه بالشعريات العالمية، دون الاعتراف بأنه كتب في سياق أنساق شعرية طالعة من الشعرية العربية المعاصرة، ومن كونه فلسطينيًّا بالأساس يكتب عن عذابات شعبه المتواصلة مع عذابات الشعوب الأخرى في التاريخ وفي الحاضر. فالشاعر هو ابن زمانه، وثقافته ولغته، ونتاج المكان الذي طلع منه ونشأ فيه. ولو لم يكن درويش فلسطينيًّا، لقرأنا له شعرًا مختلفًا، وعاينَّا تجربة مغايرة لما كانت عليه تجربته.

كانت غاية درويش أن يكتب شعرًا يحكي عن الجرح الفلسطيني دون صخب؛ وكان حلمه أن يكتب شعرًا صافيًا لا ضجيج فيه ولا إيقاعات عالية. ويتمثَّل موقعه على خارطة الشعر العربي في قدرته على تزويج الإيقاع للمعاني والتجارب الوجودية العميقة، في تلقيح هذا الشعر بغبار طلع الكتابات الشعرية العالمية المميزة؛ بشعر فيدريكو غارسيا لوركا ووليم بتلر ييتس وبابلو نيرودا ويانيس ريتسوس، وغيرهم من الشعراء الكبار الذين تتألق قصائدهم في ذاكرة الشعر العالمي. ولأنه عرف كيف يطعِّم شعره بشعرهم، ويزوِّج التراجيديا الفلسطينية لتراجيديات البشرية وعذابات الإنسان في كل زمان ومكان، فقد أصبح، قبل وبعد رحيله، واحدًا من شعراء العالم الكبار.

ثمَّة في شعر محمود درويش علامات كبرى تدلُّ القارئ على تطور تجربته الشعرية، ونضوجه الثقافي والفكري والوجداني والسياسي، وعلى قدرته، كمبدع خلاق، على تحويل الفردي والشخصي، في حياته وحياة الفلسطينيين، إلى تجربة جماعية كبرى تضيء القضية الفلسطينية وتضعها في وجدان العرب المعاصرين، كما في ضمير العالم ووعيه. ففي رحلته من "سجِّل أنا عربي"، التي كانت صرخته للتعبير عن الهُويَّة الفلسطينية – العربية التي سعت الحركة الصهيونية والدولة العبرية إلى محوها، إلى قصائده التي كتبها في أيامه الأخيرة، نعثر على منحنى صاعدٍ، عمومًا، في هذه التجربة الشعرية الغنية التي أصبحت، سنةً بعد سنةً، دلالةً ساطعة على اسم فلسطين ومأساتها ومقاومتها، وتحولها إلى قضية إنسانية كبرى.

يبقى محمود درويش حاضرًا بقوة في المشهدين الشعري والعام، رغم مرور 15 سنة على غيابه. إنه حاضر من خلال ما أنجزه من كتابة شعرية، ورؤيةٍ للشعر ودوره منبثة في كتاباته النثرية، والحوارات التي أدلى بها. كما أنه حاضر في التأثير الشعري، على شعراء ينتمون إلى أجيال مختلفة، ومن ضمنهم جيله هو، ومن خلال الصخب الذي دار، وما زال يدور حول التأثيرات والمطابقات والتناصَّات التي ينطوي عليها شعره. كلُّ ذلك يجعل من درويش طاقة شعرية خلاقة تتجدد من خلال قوة تأثيرها، وعبر العودة إلى نصها الشعري على نحو دائم، كما يجعل منه عقبةً وتجاوزًا في آن، جدارًا يحجب التطور، ونافذة تطل على مستقبل يأتي؛ نهايةً وكذلك بداية.


مقالات ذات صلة

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

الوتر السادس مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

مصطفى الجارحي: أغنياتي مُحمّلة بطاقات شعرية لا تخضع لحسابات السوق

كان لأغنيات الشاعر مصطفى الجارحي التي لحنها وغناها الفنان مصطفى رزق، مطرب الجاز المصري، حضور كبير في النسيج الدرامي لمسلسل «ولاد الشمس».

حمدي عابدين (القاهرة)
كتب ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

ركائز الخطاب الشعري في أعمال الأبنودي

صدر حديثا عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر كتاب «عبد الرحمن الأبنودي: شاعر الهوية المصرية» للناقد الدكتور رضا عطية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

«تجرحني بخفة وتعلو» مراوغة الوجود في فضاء القصيدة

يبدو ديوان «تجرحني بخفة وتعلو»، للشاعر المصري جمال القصاص، منذ عنوانه مفتوحاً على احتمالات تأويلية متعددة.

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر ناصر بن جرّيد (صور متداولة للراحل)

الشاعر ناصر بن جرّيد… عبَر سكة التائهين ثم رحل

فقد الوسط الفني والثقافي والأدبي والرياضي في السعودية، الشاعر والأديب ناصر بن جرّيد، بعد معاناة مع المرض، تاركاً إرثاً لافتاً جمع بين الموهبة والإبداع.

بدر الخريف (الرياض)
ثقافة وفنون سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.