ثلاث مدن وأربعة لقاءات

 الشاعر عبد المنعم رمضان
الشاعر عبد المنعم رمضان
TT

ثلاث مدن وأربعة لقاءات

 الشاعر عبد المنعم رمضان
الشاعر عبد المنعم رمضان

تعرضت لفتنة محمود درويش في زمن مبكر، كنت طالبا على حافة الجامعة، بعمر يدور حول الثمانية عشر عامًا مما جعلني رومانسيًا، وبعزلة جعلتني مفردًا بصيغة المفرد، ففى العام 1969، وفى سبيل الانتصار على آثار نكسة 1967، أصدر رجاء النقاش كتابه محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، مازلت أذكر طبعته فى سلسلة كتاب الهلال، كنت قادمًا من شعر المدارس الذي ألزمونا بدراسته بدعوى أنه شعر كل العصور، وبسببه وبسبب عزلتي وبسبب عمري أصبحت أسيرًا لشعر الرومانسيين، لولا وقوعي على بعض شعر التالين عليهم والذين كانوا يحاولون البحث عن أرض جديدة، مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى، كلاهما كان يحاول إسدال الستائر على الباقي فيهما من الرومانسية، كلاهما كان يحاول أن ينتقل من عامه السادس عشر، إلى عامه التاسع عشر وما بعده، لذلك فوجئت مرتين، مرة ذكراها مشوشة في رأسي، وذلك عندما قرأت ديوان "آخر الليل" لمحمود درويش ضمن مواد أحد أعداد مجلة الهلال، كان عنوان الديوان مضخة تفاؤل مطلوب بعد نكسة 67، آخر الليل نهار، وفيه قرأت قصائد درويش عن ريتا، بين ريتا وعيوني بندقية، وريتا سوف تظل فى ذاكرتي إلى أن رأيت صورة لها منذ وقت قريب، فى إحدى الصحف، لكنني رغم حرصي على الاحتفاظ بالصورة فقدتها للأسف.

أعود إلى ما سبق أن قلته، فوجئت مرتين، فبعد ديوان آخر الليل، صدر كتاب رجاء النقاش عن محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، في سلسلة كتاب الهلال، الحقيقة أننى لا أذكر أيهما سبق الآخر، سيغريني الشعر المضموم في كتاب رجاء بتكرار قراءته، وسيغرينى أكثر بمحاولة الخروج على ما أكتبه من شعر عمودي، مثلما أغراني شعر صلاح وحجازي وأدونيس، فيما بعد، وعندما دعاني غالى شكري إلى منزله في سهرة على شرف محمود درويش، الذي سبق أن التقيت به، سألته عن المدعوين، فذكر لى اسم رجاء النقاش وزوجته واكتفيت، فى بيت غالي أتى آخرون، سمير سرحان، والسيدة بروين حبيب، فيما أذكر، وأظنها كانت مذيعة تليفزيونية، وصديقي الشاعر محمد سليمان، طوال السهرة كان الأكثر أناقة بيننا جميعًا وربما الأكثر حيوية هو محمود درويش، ولما اقترح أحدهم أن نسمع شعرًا، وطولبت بالقراءة، لم أعتذر، لكننى اشترطت أن يقرأ محمود درويش أيضًا، الذي بلغة قاطعة، بدت وكأنها قاطعة دائمًا، قال لي: لا حقًّ لك في ذلك، لأنك كنت منذ يومين مدعوًا إلى منزل حسن طلب بمناسبة وجودي، لكنك لم تحضر، هناك أنا قرأت، وهنا عند غالي أنت ستقرأ، فانحنيت أمام بلاغته، وقرأت ما قرأت، وهكذا تواددنا، حتى أنه دعاني لحضور ندوته بعد أيام بالجامعة الأمريكية، أذكر أنني عندما أوشكت على دخول القاعة لمحته جالسًا على المنصة.

كان الجمهور غفيرًا، في صفه الأول يجلس محمد حسنين هيكل، بعدما جلست نظرت فى اتجاهه، أعني في اتجاه درويش، فوجئت به يومئ لي برأسه، فأحطت بمهارة جديدة من مهاراته، مهارة اللياقة الاجتماعية واليقظة، صحيح أنه كانت على رأس هذه المهارات قدرته على حشد المفردات الجميلة إلى حد أنني كنت أتمنى أحيانًا وأنا أقرأه أن ينخدش هذا الجمال ببذاءة ما، ذات زيارة تالية أخرى لمحمود درويش، وفى القاهرة، اصطحبتني صديقة صحافية إلى شقة السيدة منى أنيس بوسط البلد، حيث سيكون محمود درويش هناك، وفور دخولي أحسست بأنني غريب حقًا على العائلة، فأجبرت نفسى على الانصراف السريع بعد أن رأيت (محمود) منسجمًا وسط لفيف من يساريين ويساريات كانوا يدللونه، قلت لنفسي: لم يبق إلا الانصراف، وذلك خشية أن أفسد علاقتي بمحمود وبصاحبة المكان وبالصديقة التي اصطحبتني معها، الغريب أنني لا أذكر الآن اسمًا واحدًا ممن رأيتهم، كأن ذاكرتي أصرت على نسيان هذا اللقاء، عمومًا هذان اللقاءان في بيت غالي شكري الذي تبعته ندوة الجامعة الأمريكية، وبعده فى شقة منى أنيس، يجبراننى على أن أتذكر المرة الأولى التي التقيته فيها.

في سنة 1993، كانت وزارة الثقافة الفرنسية قد دعت وفدًا أدبيًا مصريًا مكونًا من تسعة روائيين وثلاثة شعراء، الروائيون هم لطيفة الزيات وإدوار الخراط وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى وجمال الغيطانى وإبراهيم عبد المجيد ونبيل نعوم وسلوى بكر، والشعراء أحمد عبد المعطى حجازى ومحمد عفيفى مطر وعبد المنعم رمضان، الشعراء دائمًا أقلية، وكانت التظاهرة هذه ذات اسم لافت، "المغتربات الجميلات"، والمقصود بالمغتربات آداب اللغات الأخرى غير الفرنسية، ولأن العام السابق على تظاهرتنا، أى عام 1992، كانت حفاوته معقودة للأدب الإسرائيلي، هكذا أبلغونا، لذا فإن فرنسا الحريصة دائمًا على إحكام توازناتها السياسية، اختارت الأدب المصري، أيامها كان محمود درويش يقيم في فرنسا، يقيم كشاعر نجم فوق العادة، لذا زارنا في فندق الإقامة ليرحب بنا، وبعفوية غالبًا مقصودة، أبلغنا اعتذاره عن عدم حضور حفل الافتتاح، لأنه فى الوقت ذاته، سيكون على منصة مركز اليونسكو، يقرأ بعضًا من شعره، بينما كانت احتفاليتنا في مكان بعيد عن قلب المدينة، كانت في مركز بومبيدو، المقام حديثا، عمومًا المنظمون الفرنسيون خصصوا لنا قاعة صغيرة متوقعين أن الحضور سيكون محدودًا، لكن حمّى "الإجيبتومانيا"هزمت توقعاتهم، فأتى الفرنسيون بأعداد أجبرت المسئولين على تأجيل الافتتاح لساعة أو أكثر، ربما ساعتين، حتى يتم تجهيز أكبر قاعة.

الحضور كلهم تقريبًا كانوا فرنسيين وفرنسيات، بعض شعراء الوفد المصري وبعض روائييه الذين يعرفون محمود درويش معرفة أوثق من معرفتي، غضبوا، بعضهم رأى ندوة درويش فعلا مقصودًا، أعترف أنني غضبت مثلهم، لكنني فيما بعد، سوف أراجع نفسي واضعًا في اعتباري أن السنة السابقة على سنتنا كانت "المغتربات الجميلات" تحتفل بالأدب الإسرائيلي، وأن لعبة التوازنات الفرنسية المعهودة، ألزمتهم باستضافة مصر في العام التالي مباشرة، عندها قلت لنفسي، لابد أن درويشًا رأى وجوب التزام اللعبة الفرنسية باستضافة الأدب الفلسطيني، فهو المعادل اللازم للأدب الإسرائيلي، كما يرى هو لا كما يرى الغرب، عند ذاك همست لنفسي، ثم جهرت لها ولبعض زملائي، وقلت: معه كل الحق، لو أنني مكانه لفعلت ما فعله، لو أنني مكانه لغضبت من مصر والمصريين، لو أنني مكانه لغضبت من الغرب، والغريب أنني تماديت وأكبرت فعل درويش، مما أثار إعجاب لطيفة الزيات كما أخبرتني فيما بعد. في برلين التقيت للمرة الثانية مع درويش، كانت الشاعرة العراقية أمل جبوري وراء تنظيم مهرجان للشعر العربي ببرلين، على أن ينقسم إلى أمسيتين في يومين متتاليين، الأولى ستضم محمود درويش وأمجد ناصر ووديع سعادة وأمل جبوري وفقرة غنائية من الطبيعي أن تكون من شعر درويش، والثانية ستضم أدونيس ولميعة عباس عمارة وعباس بيضون وعبد المنعم رمضان وفقرة غنائية من الطبيعى أيضًا أن تكون من شعر أدونيس، كنت سعيدًا جدًا بمصادفة رؤيتي للميعة عباس عمارة، واستعادة ذكرى أنها أولى محبوبات بدر شاكر السياب، وأنها من الصابئة، في الأمسية الأولى، كنت أجلس خلف درويش وأمجد، وذات لحظات مال أمجد على أذن درويش وأسرّ له بشيء، بعدها هب درويش واقفًا وغادر الأمسية، بالطبع لحقت به أمل جبوري بصفتها المنظمة، علمنا فيما بعد أن (درويش) كان ثائرًا بسبب ما بلغه فورًا عن أن الفقرة الغنائية ستكون من شعر أمل جبوري، وتمت تسوية الأمر وإعادته إلى صوابه، فالغناء لابد أن يقترن بنجم الأمسية، ودرويش نجم الأمسية وكل أمسية، في أثناء ذلك لم أستطع تحديد موقفى من درويش، هل أنا معه، أم أنه كان من الواجب أن يتعفف، هل فعله ينتسب إلى خفة الكائن التي لا تحتمل، أم هو فعل مشروع.

وفى هذه الرحلة الألمانية زارنا نصر حامد أبو زيد شبه المنفى في هولندا بسبب قضية تكفيره، وكانت حواراته مع أدونيس في الموضوع ذاته، في رؤية نصر ورؤياه هو، بينما كانت حواراته مع درويش فيما يحيط الموضوع من قضايا ومخاوف سياسية، وكمصريين، نصر وأنا، انشغلنا بمراجعة موقف جابر عصفور من قضية نصر بصفته صديقنا المشترك، وبصفته اتخذ موقفا يستحق المراجعة، رأيناه نحن الاثنين موقفا مائعًا، بقيت مناسبة أخرى جمعت بينى وبين ظلال محمود درويش، وذلك عندما قررت مجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها آنذاك محمود درويش أن تخصص عددها رقم 14 للأدب المصري، على أن يرأس تحرير هذا العدد إدوار الخراط، كان إدوار أيامذاك "عراب الحداثات المتتالية" وكاهنها، منذ الستينيات حتى التسعينيات، وكان كذلك صاحب" رامة والتنين" التي أحاطتها نميمة لطيفة حول رامة ومحمود، وكأن (محمود) هو الشاعر الذي غلب إدوار في علاقته برامة، عمومًا جاء العدد ممثلًا في الأغلب لحداثيي: 1- الستينيات التى يغلبها السرد الروائي والقصصي، 2- السبعينيات التي يغلبها الفعل الشعري بجناحيه "إضاءة وأصوات "، ولأن سليم بركات، كما أشيع، كان المسئول الفعلي عن المجلة، بينما درويش كان السيد الرئيس، فإن ثمة تدخلات من سليم أدت إلى إصدارنا بيانا يندد بخروج "الكرمل" على آداب النشر المعهودة عندنا كعرب، مثل تدخلات سليم بركات بالحذف والتعديل فى بعض النصوص دون حتى مراجعة أصحابها، لم يكن نصي ضمن هذه النصوص، أيامها شاركت في التوقيع على البيان غير أنني حافظت على إعجابي بما يكتبه سليم، مع العلم أن البيان صادف هوى الإذاعة في إسرائيل، فأذاعته أكثر من مرة مما أدى إلى غضب درويش وسليم، وغضب إدوار الخراط أيضًا، المهم أن موت درويش المبكر حرمنا من إكمال ما كانت كتاباته الأخيرة تدلنا عليه، فقد فطن متأخرًا إلى ضرورة أن تكون حركته الشعرية رأسية تجتهد في الحفر، بدلًا من كونها أفقية - في الغالب- تجتهد في الاتساع، كما فطن أيضًا إلى أن المسافات الشعرية بينه وبين الباقين آنذاك من رفاقه مثل سميح القاسم لابد أن تجعله في مكان بعيد وتبقيهم في أماكنهم، فالأخوة الإنسانية ليست الأخوة الشعرية، ورسائل محمود درويش وسميح القاسم عجزت عن تصويرهما كندين أو كأخوين، وحافظت على التفاوت الواسع مثلما حدث في حوار المشرق والمغرب، بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي، حيث بدا التفاوت لصالح عابد الجابري. مات محمود درويش قبل أن يستمتع طويلًا بجحيمه الخاص وجنته الخاصة، وبخصومة محبيه، مات محمود درويش وهو على بُعد خطوات من فرادة حقة كان ينبغي أن تليق به، لولا أنه ظنها حياة وحشية، مع ضرورة الاعتراف بأن ما سيبقى من شعره كاف لدوام وجوده، كاف للسفر عبر الأزمنة.


مقالات ذات صلة

مصر تتابع التحقيقات في مقتل أحد مواطنيها بإيطاليا

شمال افريقيا مقر وزارة الخارجية المصرية في العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة (الخارجية المصرية)

مصر تتابع التحقيقات في مقتل أحد مواطنيها بإيطاليا

تتابع مصر التحقيقات التي تجريها السلطات الإيطالية في ميلانو حول ملابسات واقعة مقتل شاب مصري (19 عاماً).

أحمد عدلي (القاهرة )
شمال افريقيا السيسي مستقبلاً عباس في القاهرة 8 يناير (كانون الثاني) 2024 (إ.ب.أ)

السيسي: القضية الفلسطينية ستظل على رأس أولوياتنا

قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن «القضية الفلسطينية ستظل على رأس أولوياتنا»، معرباً عن «تضامن مصر الثابت مع الفلسطينيين في ظل الأزمات المتلاحقة».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي مقر وزارة الخارجية المصرية وسط القاهرة على ضفاف نهر النيل (الخارجية المصرية)

مصر: نتابع من كثب مع السلطات الإيطالية حادثة مصرع أحد مواطنينا في ميلانو

قالت وزارة الخارجية المصرية، الجمعة، إنها تتابع من كثب مع السلطات الإيطالية حادثة مصرع شاب مصري في ميلانو، أثارت وفاته احتجاجات عنيفة.

شمال افريقيا المتهم داخل القفص خلال جلسة محاكمته في جلسة سابقة (الشرق الأوسط)

مصر: إحالة أوراق «سفاح التجمع» إلى المفتي تمهيداً لإعدامه

أحالت محكمة «الجنايات المستأنفة» في مصر، الخميس، أوراق المتهم كريم محمد سليم، المعروف إعلامياً بـ«سفاح التجمع»، إلى مفتي الديار المصرية لأخذ الرأي في إعدامه.

أحمد عدلي (القاهرة)
شمال افريقيا أحد السائحين الناجين في حادث غرق المركب السياحي «سي ستوري» خلال إنقاذه (المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية)

مصر تواصل البحث عن 7 مفقودين في حادث «مركب البحر الأحمر»

لليوم الثالث على التوالي، تواصلت عمليات البحث والإنقاذ عن 7 مفقودين في حادث غرق المركب السياحي «سي ستوري»، قبالة سواحل مدينة مرسى علم بمحافظة البحر الأحمر.

محمد عجم (القاهرة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!