ثلاث مدن وأربعة لقاءات

 الشاعر عبد المنعم رمضان
الشاعر عبد المنعم رمضان
TT

ثلاث مدن وأربعة لقاءات

 الشاعر عبد المنعم رمضان
الشاعر عبد المنعم رمضان

تعرضت لفتنة محمود درويش في زمن مبكر، كنت طالبا على حافة الجامعة، بعمر يدور حول الثمانية عشر عامًا مما جعلني رومانسيًا، وبعزلة جعلتني مفردًا بصيغة المفرد، ففى العام 1969، وفى سبيل الانتصار على آثار نكسة 1967، أصدر رجاء النقاش كتابه محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، مازلت أذكر طبعته فى سلسلة كتاب الهلال، كنت قادمًا من شعر المدارس الذي ألزمونا بدراسته بدعوى أنه شعر كل العصور، وبسببه وبسبب عزلتي وبسبب عمري أصبحت أسيرًا لشعر الرومانسيين، لولا وقوعي على بعض شعر التالين عليهم والذين كانوا يحاولون البحث عن أرض جديدة، مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى، كلاهما كان يحاول إسدال الستائر على الباقي فيهما من الرومانسية، كلاهما كان يحاول أن ينتقل من عامه السادس عشر، إلى عامه التاسع عشر وما بعده، لذلك فوجئت مرتين، مرة ذكراها مشوشة في رأسي، وذلك عندما قرأت ديوان "آخر الليل" لمحمود درويش ضمن مواد أحد أعداد مجلة الهلال، كان عنوان الديوان مضخة تفاؤل مطلوب بعد نكسة 67، آخر الليل نهار، وفيه قرأت قصائد درويش عن ريتا، بين ريتا وعيوني بندقية، وريتا سوف تظل فى ذاكرتي إلى أن رأيت صورة لها منذ وقت قريب، فى إحدى الصحف، لكنني رغم حرصي على الاحتفاظ بالصورة فقدتها للأسف.

أعود إلى ما سبق أن قلته، فوجئت مرتين، فبعد ديوان آخر الليل، صدر كتاب رجاء النقاش عن محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، في سلسلة كتاب الهلال، الحقيقة أننى لا أذكر أيهما سبق الآخر، سيغريني الشعر المضموم في كتاب رجاء بتكرار قراءته، وسيغرينى أكثر بمحاولة الخروج على ما أكتبه من شعر عمودي، مثلما أغراني شعر صلاح وحجازي وأدونيس، فيما بعد، وعندما دعاني غالى شكري إلى منزله في سهرة على شرف محمود درويش، الذي سبق أن التقيت به، سألته عن المدعوين، فذكر لى اسم رجاء النقاش وزوجته واكتفيت، فى بيت غالي أتى آخرون، سمير سرحان، والسيدة بروين حبيب، فيما أذكر، وأظنها كانت مذيعة تليفزيونية، وصديقي الشاعر محمد سليمان، طوال السهرة كان الأكثر أناقة بيننا جميعًا وربما الأكثر حيوية هو محمود درويش، ولما اقترح أحدهم أن نسمع شعرًا، وطولبت بالقراءة، لم أعتذر، لكننى اشترطت أن يقرأ محمود درويش أيضًا، الذي بلغة قاطعة، بدت وكأنها قاطعة دائمًا، قال لي: لا حقًّ لك في ذلك، لأنك كنت منذ يومين مدعوًا إلى منزل حسن طلب بمناسبة وجودي، لكنك لم تحضر، هناك أنا قرأت، وهنا عند غالي أنت ستقرأ، فانحنيت أمام بلاغته، وقرأت ما قرأت، وهكذا تواددنا، حتى أنه دعاني لحضور ندوته بعد أيام بالجامعة الأمريكية، أذكر أنني عندما أوشكت على دخول القاعة لمحته جالسًا على المنصة.

كان الجمهور غفيرًا، في صفه الأول يجلس محمد حسنين هيكل، بعدما جلست نظرت فى اتجاهه، أعني في اتجاه درويش، فوجئت به يومئ لي برأسه، فأحطت بمهارة جديدة من مهاراته، مهارة اللياقة الاجتماعية واليقظة، صحيح أنه كانت على رأس هذه المهارات قدرته على حشد المفردات الجميلة إلى حد أنني كنت أتمنى أحيانًا وأنا أقرأه أن ينخدش هذا الجمال ببذاءة ما، ذات زيارة تالية أخرى لمحمود درويش، وفى القاهرة، اصطحبتني صديقة صحافية إلى شقة السيدة منى أنيس بوسط البلد، حيث سيكون محمود درويش هناك، وفور دخولي أحسست بأنني غريب حقًا على العائلة، فأجبرت نفسى على الانصراف السريع بعد أن رأيت (محمود) منسجمًا وسط لفيف من يساريين ويساريات كانوا يدللونه، قلت لنفسي: لم يبق إلا الانصراف، وذلك خشية أن أفسد علاقتي بمحمود وبصاحبة المكان وبالصديقة التي اصطحبتني معها، الغريب أنني لا أذكر الآن اسمًا واحدًا ممن رأيتهم، كأن ذاكرتي أصرت على نسيان هذا اللقاء، عمومًا هذان اللقاءان في بيت غالي شكري الذي تبعته ندوة الجامعة الأمريكية، وبعده فى شقة منى أنيس، يجبراننى على أن أتذكر المرة الأولى التي التقيته فيها.

في سنة 1993، كانت وزارة الثقافة الفرنسية قد دعت وفدًا أدبيًا مصريًا مكونًا من تسعة روائيين وثلاثة شعراء، الروائيون هم لطيفة الزيات وإدوار الخراط وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد البساطى وجمال الغيطانى وإبراهيم عبد المجيد ونبيل نعوم وسلوى بكر، والشعراء أحمد عبد المعطى حجازى ومحمد عفيفى مطر وعبد المنعم رمضان، الشعراء دائمًا أقلية، وكانت التظاهرة هذه ذات اسم لافت، "المغتربات الجميلات"، والمقصود بالمغتربات آداب اللغات الأخرى غير الفرنسية، ولأن العام السابق على تظاهرتنا، أى عام 1992، كانت حفاوته معقودة للأدب الإسرائيلي، هكذا أبلغونا، لذا فإن فرنسا الحريصة دائمًا على إحكام توازناتها السياسية، اختارت الأدب المصري، أيامها كان محمود درويش يقيم في فرنسا، يقيم كشاعر نجم فوق العادة، لذا زارنا في فندق الإقامة ليرحب بنا، وبعفوية غالبًا مقصودة، أبلغنا اعتذاره عن عدم حضور حفل الافتتاح، لأنه فى الوقت ذاته، سيكون على منصة مركز اليونسكو، يقرأ بعضًا من شعره، بينما كانت احتفاليتنا في مكان بعيد عن قلب المدينة، كانت في مركز بومبيدو، المقام حديثا، عمومًا المنظمون الفرنسيون خصصوا لنا قاعة صغيرة متوقعين أن الحضور سيكون محدودًا، لكن حمّى "الإجيبتومانيا"هزمت توقعاتهم، فأتى الفرنسيون بأعداد أجبرت المسئولين على تأجيل الافتتاح لساعة أو أكثر، ربما ساعتين، حتى يتم تجهيز أكبر قاعة.

الحضور كلهم تقريبًا كانوا فرنسيين وفرنسيات، بعض شعراء الوفد المصري وبعض روائييه الذين يعرفون محمود درويش معرفة أوثق من معرفتي، غضبوا، بعضهم رأى ندوة درويش فعلا مقصودًا، أعترف أنني غضبت مثلهم، لكنني فيما بعد، سوف أراجع نفسي واضعًا في اعتباري أن السنة السابقة على سنتنا كانت "المغتربات الجميلات" تحتفل بالأدب الإسرائيلي، وأن لعبة التوازنات الفرنسية المعهودة، ألزمتهم باستضافة مصر في العام التالي مباشرة، عندها قلت لنفسي، لابد أن درويشًا رأى وجوب التزام اللعبة الفرنسية باستضافة الأدب الفلسطيني، فهو المعادل اللازم للأدب الإسرائيلي، كما يرى هو لا كما يرى الغرب، عند ذاك همست لنفسي، ثم جهرت لها ولبعض زملائي، وقلت: معه كل الحق، لو أنني مكانه لفعلت ما فعله، لو أنني مكانه لغضبت من مصر والمصريين، لو أنني مكانه لغضبت من الغرب، والغريب أنني تماديت وأكبرت فعل درويش، مما أثار إعجاب لطيفة الزيات كما أخبرتني فيما بعد. في برلين التقيت للمرة الثانية مع درويش، كانت الشاعرة العراقية أمل جبوري وراء تنظيم مهرجان للشعر العربي ببرلين، على أن ينقسم إلى أمسيتين في يومين متتاليين، الأولى ستضم محمود درويش وأمجد ناصر ووديع سعادة وأمل جبوري وفقرة غنائية من الطبيعي أن تكون من شعر درويش، والثانية ستضم أدونيس ولميعة عباس عمارة وعباس بيضون وعبد المنعم رمضان وفقرة غنائية من الطبيعى أيضًا أن تكون من شعر أدونيس، كنت سعيدًا جدًا بمصادفة رؤيتي للميعة عباس عمارة، واستعادة ذكرى أنها أولى محبوبات بدر شاكر السياب، وأنها من الصابئة، في الأمسية الأولى، كنت أجلس خلف درويش وأمجد، وذات لحظات مال أمجد على أذن درويش وأسرّ له بشيء، بعدها هب درويش واقفًا وغادر الأمسية، بالطبع لحقت به أمل جبوري بصفتها المنظمة، علمنا فيما بعد أن (درويش) كان ثائرًا بسبب ما بلغه فورًا عن أن الفقرة الغنائية ستكون من شعر أمل جبوري، وتمت تسوية الأمر وإعادته إلى صوابه، فالغناء لابد أن يقترن بنجم الأمسية، ودرويش نجم الأمسية وكل أمسية، في أثناء ذلك لم أستطع تحديد موقفى من درويش، هل أنا معه، أم أنه كان من الواجب أن يتعفف، هل فعله ينتسب إلى خفة الكائن التي لا تحتمل، أم هو فعل مشروع.

وفى هذه الرحلة الألمانية زارنا نصر حامد أبو زيد شبه المنفى في هولندا بسبب قضية تكفيره، وكانت حواراته مع أدونيس في الموضوع ذاته، في رؤية نصر ورؤياه هو، بينما كانت حواراته مع درويش فيما يحيط الموضوع من قضايا ومخاوف سياسية، وكمصريين، نصر وأنا، انشغلنا بمراجعة موقف جابر عصفور من قضية نصر بصفته صديقنا المشترك، وبصفته اتخذ موقفا يستحق المراجعة، رأيناه نحن الاثنين موقفا مائعًا، بقيت مناسبة أخرى جمعت بينى وبين ظلال محمود درويش، وذلك عندما قررت مجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها آنذاك محمود درويش أن تخصص عددها رقم 14 للأدب المصري، على أن يرأس تحرير هذا العدد إدوار الخراط، كان إدوار أيامذاك "عراب الحداثات المتتالية" وكاهنها، منذ الستينيات حتى التسعينيات، وكان كذلك صاحب" رامة والتنين" التي أحاطتها نميمة لطيفة حول رامة ومحمود، وكأن (محمود) هو الشاعر الذي غلب إدوار في علاقته برامة، عمومًا جاء العدد ممثلًا في الأغلب لحداثيي: 1- الستينيات التى يغلبها السرد الروائي والقصصي، 2- السبعينيات التي يغلبها الفعل الشعري بجناحيه "إضاءة وأصوات "، ولأن سليم بركات، كما أشيع، كان المسئول الفعلي عن المجلة، بينما درويش كان السيد الرئيس، فإن ثمة تدخلات من سليم أدت إلى إصدارنا بيانا يندد بخروج "الكرمل" على آداب النشر المعهودة عندنا كعرب، مثل تدخلات سليم بركات بالحذف والتعديل فى بعض النصوص دون حتى مراجعة أصحابها، لم يكن نصي ضمن هذه النصوص، أيامها شاركت في التوقيع على البيان غير أنني حافظت على إعجابي بما يكتبه سليم، مع العلم أن البيان صادف هوى الإذاعة في إسرائيل، فأذاعته أكثر من مرة مما أدى إلى غضب درويش وسليم، وغضب إدوار الخراط أيضًا، المهم أن موت درويش المبكر حرمنا من إكمال ما كانت كتاباته الأخيرة تدلنا عليه، فقد فطن متأخرًا إلى ضرورة أن تكون حركته الشعرية رأسية تجتهد في الحفر، بدلًا من كونها أفقية - في الغالب- تجتهد في الاتساع، كما فطن أيضًا إلى أن المسافات الشعرية بينه وبين الباقين آنذاك من رفاقه مثل سميح القاسم لابد أن تجعله في مكان بعيد وتبقيهم في أماكنهم، فالأخوة الإنسانية ليست الأخوة الشعرية، ورسائل محمود درويش وسميح القاسم عجزت عن تصويرهما كندين أو كأخوين، وحافظت على التفاوت الواسع مثلما حدث في حوار المشرق والمغرب، بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي، حيث بدا التفاوت لصالح عابد الجابري. مات محمود درويش قبل أن يستمتع طويلًا بجحيمه الخاص وجنته الخاصة، وبخصومة محبيه، مات محمود درويش وهو على بُعد خطوات من فرادة حقة كان ينبغي أن تليق به، لولا أنه ظنها حياة وحشية، مع ضرورة الاعتراف بأن ما سيبقى من شعره كاف لدوام وجوده، كاف للسفر عبر الأزمنة.


مقالات ذات صلة

تفاعل مصري مع بكاء السيسي خلال لقائه قادة القوات المسلحة

شمال افريقيا السيسي أكد أن المنطقة تمر بظروف صعبة ومصر تعد عامل استقرار مهماً في ظل الأحداث الراهنة (الرئاسة المصرية)

تفاعل مصري مع بكاء السيسي خلال لقائه قادة القوات المسلحة

تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع لحظات بكاء وتأثر للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقائه، الخميس، مع قادة القوات المسلحة المصرية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
شمال افريقيا تسعى الحكومة لتوفير بيئة عمل مناسبة للأطباء (وزارة الصحة المصرية)

مصر للحد من «فوضى» الاعتداء على الطواقم الطبية

تسعى الحكومة المصرية للحد من «فوضى» الاعتداءات على الطواقم الطبية بالمستشفيات، عبر إقرار قانون «تنظيم المسؤولية الطبية وحماية المريض».

أحمد عدلي (القاهرة )
شمال افريقيا مشاركون في ندوة جامعة أسيوط عن «الهجرة غير المشروعة» تحدثوا عن «البدائل الآمنة» (المحافظة)

مصر لمكافحة «الهجرة غير المشروعة» عبر جولات في المحافظات

تشير الحكومة المصرية بشكل متكرر إلى «استمرار جهود مواجهة الهجرة غير المشروعة، وذلك بهدف توفير حياة آمنة للمواطنين».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
خاص عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

خاص كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

تسبب الوجود السوري المتنامي بمصر في إطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد مشروعاتهم الاستثمارية.

فتحية الدخاخني (القاهرة )

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.