قصيدة العبور الدائم

غلاف جدارية
غلاف جدارية
TT

قصيدة العبور الدائم

غلاف جدارية
غلاف جدارية

في 8 أغسطس (آب) 2023 من هذا الشهر تحلُّ الذكرى الخامسة عشرة لوفاة الشاعر محمود درويش، الشاعر الذي أخذ القصيدة إلى حداثتها شكلاً ومضموناً دون أن يعطي هذه الحداثة شرعية التنظير كما فعل الكثير من الشعراء الحداثيين الذين ارتبطت أسماؤهم بها.

وبهدوء الواثق أعطى درويش قصيدته كل السمات الفنية التي ورثتها القصيدة الكلاسيكية، وكل السمات الفنية التي جاءت بها القصيدة الحديثة، وكأن ما كان يقترحه درويش على الشعراء هو سؤال الفضاء الشعري بدلاً من فضاء القصيدة فقط، والأول أكثر رحابة وأعمق من الثاني، وهو السؤال الذي تجاوز فيه صاحب ديوان (لا تعتذر عما فعلت) كل التنظيرات التي ارتبطت بحداثة القصيدة العربية، منذ المقترح الذي اختزل من خلاله أصحابه الحداثةَ الشعرية في الجماليات الشكلية، مرتكزين في ذلك على حداثة أدبية أوروبية مجتزأة من سياقاتها التاريخية.

إن هذا التجاوز الذي حققه شاعر (سرير الغريبة) هو مكمن أهمية درويش الذي فتح الباب على مصراعيه على القصيدة نفسها بوصفها المقترح الشعري للحداثة فقط.

وهذا معناه أن قصيدته في حالة عبور دائم، لا تجرب في الشكل إلا بالقدر الذي تعطي المعنى العميق للإنسان والحياة والعالم. وعيه بهذا الشرط أخذ قصيدته إلى أقصى نقطة التقاء بين النظم والنثر دون أن يغلّب أحدهما على الآخر، هذا الوضوح نراه بارزا في مجموعة (كزهر اللوز أو أبعد) أو (في حضرة الغياب) أنه مؤشر على رغبة درويش في الانفتاح على (قصيدة النثر) دون التخلي عن الوزن والإيقاع. ألم يضمّن في أحد نصوصه مقطعاً من قصيدة لبسام حجار؟!

وليس بعيداً من قصيدة درويش قصيدة سعدي يوسف؛ إذ كلاهما أخذ من النثر ما يعزز قصيدة التفعيلة، ويجعلها أكثر خفوتاً وأقل صخباً، وكأن نثر الحياة الذي ارتبط بالشأن اليومي في قصيدة النثر، جدد نفسه من خلال عالمهما الشعري، وهذه إحدى السمات الكبرى في حداثتهما.

لكن ما يمتاز درويش عن غيره من الشعراء الذين كانوا رواداً لحركة الحداثة منذ الأربعينات والخمسينات الميلادية هو أن عمقه الإنساني تأسس على بُعدين اثنين: الأول هويته الفلسطينية التي قد كان وعاها منذ أن هُجّر وعائلته من قريته (البروة) في الجليل وهو بعمر لا يتجاوز السابعة، والعودة لها بعد هدنة 48، وكما يقول في أحد حواراته بما معناه: «لقد شعر أنه انقطع فجأة عن طفولته قسراً»، وكان التعويض لاحقا هو الوعي مبكراً بقضية شعب هُجّر بأكمله من وطنه.

ولولا موهبته الشعرية الفذة وحساسيته الجمالية لما استطاع أن ينفك من هذا الوعي، خصوصاً أنه في مراحله الشعرية الأولى كان هو صوت القضية الفلسطينية وإنسانها الفلسطيني المهجر، وقد كانت ملاحمه الشعرية الغنائية في ديوان (أرى ما أريد) أو (أحد عشر كوكباً) في فترة التسعينات، تشهد على ذروة تألق هذا الصوت.

لكن انفكاكه عن هذا الوعي لصالح وعيه الذاتي بوصفه شاعراً إنسانياً بالدرجة الأولى لم يمنعه من وضع قضية الشعب الفلسطيني في إطارها الإنساني الأشمل، خصوصاً في مرحلته الباريسية التي بدأ يكتشف فيها بعده العالمي بوصفه شاعراً ينتمي إلى شعراء العالم، وكما يقول لقد تأثر بـلوركا ونيرودا وت.س إليوت وآخرين.

لذلك كان البُعد الثاني من هويته تجسد بشكل كبير رغم التحولات التي عاشها بين المنافي وتحولاته الفكرية والثقافية والسياسية تمثل في هذا الإنسان نفسه الذي هو جزء من واقعه اليومي الذي كما يلمح في إحدى قصائده أنه هو الذات والآخر معاً، وهذه في ظني أعمق نقطة وصل إليها درويش في فهمه للإنسان، وجدارياته تشهد على هذا العمق الذي تجاوز فيه الموت إلى ما وراءه.

لقد كان رهانه أن يكون شاعراً أولاً ثم سمّه ما شئت: شاعر المقاومة أو شاعر الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني، وهو ما حققه بامتياز، وأزعم أن وضعه الاستثنائي في علاقته بالأرض والإنسان الفلسطيني وبالأمكنة التي تهجّر إليها وإحساسه العميق بذاته الشاعرة، هو ما جعله شاعرا استثنائيا على خريطة الشعر العربي المعاصر، ومؤثرا بالتساوي على جيل من الشعراء والقراء معا.

الشاعر المشاء

هل قلتُ الشاعر بـ(بأل التعريف) دون أن يسبقها أو يلحقها ألقاب تليق بصاحب الاسم؟!

نعم هو كذلك، فالأمر يبدو وكأن هناك الشاعر الذي يقف في طرفٍ وحدَه، وهناك في الطرف الآخر يقف شعراء كثيرون، يأتون ويذهبون لا آثار أقدامهم تبقى، ولا أصواتهم تعلق في المكان.

وحده الشاعر الذي لا يذهب ولا يقف أيضاً، فهو الواقف في ذهابه، والذاهب في وقوفه، وما بينهما يتراءى للعالم أن منحوتات يديه تمضي في كل اتجاه. لكنها في واقع الأمر محفورة في المكان، راسخة في جذور اللغة، شاخصة أبصارها إلى الأفق البعيد، وكأنها تفتح طريقاً آخر للكلمات كي تضيء العبور.

هكذا هو محمود درويش الشاعر المشّاء الذي لا يغيب إلا ليحضر، ولا يحضر إلا ليقول للغياب أنت في حضرت أيّما نظرتَ أو ابتعدت.

هو الشاعر المشاء في دروب قرائه حين يفتحون أبواب قصائده كي يختطفوا الزمن العابر بين كلماتها، ويتركوا غزلانها ووعولها تسرح في وديان حياتهم وسهولها.

وطالما كان هؤلاء القراء يصغون وكأنهم في حضرة ملاك، فإن الغزلان والوعول ستتكاثر وتنمو مثل شجر الغابات الكثيفة، وإذا ما توقفوا عند الحافة من قصائده، فإنهم سيطلقون الزمن من قبضتها حتى يعود إلى عبوره ثانية.

لكن المفاجأة التي تنتظرهم هي أن الغزلان والوعول قد سبقتهم إلى تلك الحافة، وحوّلتها إلى أحلام وأنهار وحدائق وغابات.

يقول (الشاعر) الذي جاءهم على ظهر ملاك من الجنة: إن إصغاءكم هو بطاقة عبور إلى مخيلة الله.

هناك حيث الزمن مقيد بحبال الكلمات، هناك حيث قصائدي تقول لكم: «لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء».

هناك حيث القصيدة ملاك ضائع في الكون، بينما ألسنة القراء بوصلة تعود به جهة السماء.

* شاعر وناقد سعودي


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.