«زهر القطن»... تضاد ساخر بين كاتب كهل لم يتغير وطفل تغيَّر

خليل النعيمي يعود ليستلهم البادية السورية في روايته الجديدة

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«زهر القطن»... تضاد ساخر بين كاتب كهل لم يتغير وطفل تغيَّر

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تبدو مقولة «الرواية فن مديني» سليمة تماماً إذا كنا نقصد بصفة المدينية وعي كاتبها، وليس عالمها؛ فكم من الروايات الكبيرة في تاريخ هذا الفن تجري في عوالم غير مدينية، ويكفي أن نتذكر أن أم الروايات «دون كيخوتي» تنطلق من قرية، ويتنقل بطلها الشريف العبقري مع تابعه سانشو من استراحة مسافرين بائسة إلى أخرى.

أحدث برهان على هذه الفرضية رواية خليل النعيمي «زهر القطن»، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وتجري جل أحداثها في الجزء السوري من صحراء الحماد العربية التي تتصل على مساحة من السعودية، الأردن، العراق، وسوريا. بيئة شحيحة وبشر بسطاء. لا أحداث جليلة ولا شخصيات عظيمة بأعمالها، لكن البناء والوعي والتصاق الكاتب بموضوعه جعلت من قراءة الرواية تجربة ممتعة، وصار الشيء غير المهم مهماً، وجعلنا نتابع بشغف ما يجري داخل خيمة قديمة تشدها إلى الأرض أوتاد ضعيفة، تخلعها الريح الشديدة عندما تهب من الفضاء أو من داخل صدر ساكنيها فيقررون خلع الأوتاد والرحيل، لكي يحطوا على أطراف تجمع بشري آخر.

في الرواية العربية تجارب عديدة من كتابة الريف والصحراء. وربما تفوق روايات المدينة عدداً، بسبب مصادفة أن الكثير من الكتاب العرب نشأوا في الأرياف والبوادي، لكنهم جميعهم لم يواصلوا الحياة في تلك الأماكن، بل غادروها إلى المدينة، ولتجربة كل منهم حظها من النجاح، حسب معايير النقد الأدبي، لكن يظل هناك معيار شبه خفي يحدد حظ الكتابة من الأصالة، وهو علاقة الكاتب بموضوعه والمكان الذي ينظر منه إلى شخصياته.

هذه العلاقة مع الموضوع يحددها ما حدث للكاتب بعد رحيله عن مرابع طفولته، هل غادر بكامله نفسيّاً وطبقيّاً أم لا يزال ذلك الفلاح وذلك البدوي يقيمان في داخله؟ جواب هذا السؤال هو المعيار الخفي الذي يساهم في تحديد أصالة التجربة الأدبية، ويضع الحدود بين كاتب وآخر. البعض يُقدِّم هذا العالم ببشره البسطاء كـ«فُرجة» يُرضي بها متلقياً مدينياً يتماهى معه أو متلقياً أجنبياً يتطلع إلى إبهاره، والبعض يُرضي نفسه بكتابة متعاطفة مع عالم غادره ويحب أن يسدد له ديناً عليه، وهناك أخيراً كاتب يكتب «تجربة روحية» تخصه، ويتوخى من كتابتها متعة شخصية بالعودة إلى عيش ما عاشه واستدراك ما حلم به ولم يعشه.

لا أعرف كيف اقتنعنا في وقت من الأوقات بفرضية فصل الكاتب عن كتابه (موت المؤلف)، وهي فرضية مضللة بالكامل؛ فليس بوسعنا تجاهل سيرة خليل النعيمي، ابن البادية السورية، لكي نفهم هذا الذي كتبه في «زهر القطن». تجاوزت إقامة النعيمي الباريسية ضعف عيشه السوري، وأضعاف حياته في البادية، صار جرَّاحاً مرموقاً لكنه لم يزل ذلك البدوي البسيط. نستدل من كتابته على بداوته ومن حياته على كتابته. ومن هذه الوحدة بين الكاتب والمكتوب تبدو «زهر القطن» واحدة من الأعمال الأكثر أصالة في التعبير عن المكان، ومحطة مميزة في كتابة الصحراء العربية.

تقدِّم الرواية سيرة طفل يضربه هوى «التعليم» المستحيل في مجتمع البادية الفقير، لكن حلمه يتحقق ويصل إلى الجامعة، ويتخرج متخصصاً في الطب والفلسفة، ثم يهاجر إلى خارج حدود سوريا والعالم العربي، تفلتاً من الحدود السورية اللبنانية ثم هروباً في بطن سفينة بفضل تسامح الشرطي مدقق الأوراق على باب السفينة، وتنتهي الرواية بصافرة الإبحار. هذا الإفشاء للموضوع لا يضر «زهر القطن» في شيء؛ فالطريق من بادية الحماد إلى مرفأ بيروت حيث تنتهي الرواية أهم من الوصول إلى المرفأ، والأحلام الجليلة أهم من الأعمال الجليلة.

هناك تضاد ساخر بين الكاتب الكهل الذي لم يتغير، وطفل الرواية الذي تغيَّر بمجرد أن نطق بجملته المتقشفة «أريد أروح على المدرسة»، وتلقى وعداً غير أكيد من أبيه. أحس أن عصيدة الذرة لم تعد تليق به كمشروع متعلم؛ فطلب من أمه الطلب المستحيل: «أريد خبزاً»، وهكذا بدأت ملحمة للحصول على رغيف، من أين وكيف وهل تجرؤ على طلب قليل من الدقيق من الجيران، لكنها تتذكر حفنة دقيق كانت قد خبأتها، وسرعان ما تبددت الفرحة بهزيمة الأم لأنها لم تجد حفنة الدقيق، بل نثاراً منها مع فضلات الفئران ونسل قماش، هو بقايا ثوب الابن الأكبر الميت فهاجت دموعها.

سيتسلى الصغير بالكلام مع صغيرة الجيران التي يعشقها، وتنجو الأم من قرصة الضيق مرة، لكنه في المرة الثانية سيطلب «بصلية». ربما هي حساء البصل، والأم لديها القليل من الماء والزيت، لكن ليس لديها بصلة، وتقرر أن تطلبها من الجارة، فتتوجه إليها، تجلسان وقتاً طويلاً، ويلوح لها بين وقت وآخر أنها استطاعت أن توجه الحوار نحو الطعام، لتصل بشكل طبيعي إلى طلب البصلة، لكنها بعد كل اقتراب تتراجع خجلاً إلى أن تنصرف دون الحصول على البصلة التي ستتمم حلم صبيها.

معاناة الخبزة والبصلة استدعت لديَّ معاناة الصبي المترف في «البحث عن الزمن المفقود» من أجل الحصول على قبلة ما قبل النوم التي اعتاد تلقيها من الأم، لكن دوران الكوكب يختل وتستعصي تلك القبلة في الأمسيات التي تستقبل فيها الأم الأصدقاء. المسافة بين عالم النعيمي المتقشف وعالم مارسيل بروست الباذخ، لا قيمة لها. الكلمة للصدق الفني والتوتر الذي يخلقه الكاتب في انتظار البصلة أو القبلة!

لا يخلو عالم الصحراء الخشن من حب يتضافر بتلقائية مع القسوة والنقص في كل شيء، حتى أن الكثير من الأشياء لا تجد أسماء تحددها، البشر أنفسهم بلا أسماء!

الاسم دليل الوجود في المجتمع المديني، وفي الحضارات التي تراكم أعمالاً جليلة، لكن البدوي المرتحل يشبه ذرة رمل في الفضاء الفسيح ليس بحاجة إلى اسم. لا أحد في الرواية يحمل اسماً، باستثناء أنثى التقاها الولد الذي صار شاباً في بيروت وأنعم عليها بحرف «سين»! غير ذلك لا اسم للصبي ولا لوالده ولا لأحد من الجيران المؤقتين ولا الحبيبات العابرات. بعضهم يبدأ مجرد ظل يثير كل التهديد والوعود، حتى يقترب فيسفر عن مرتحل ينبغي مد يد العون إليه أو أنثى تمنح لقاء حب عاصف وصامت عند الغروب ينتهي بانفصال سريع وتفرق، حيث يبتلع الظلام كلاً منهما.

الصحراء بالنسبة للبدوي ليست مجرد مكان يعيش فيه، بل جزء من كينونته، لا يدرك نفسه إلا من خلاله، لا يحبه أو يكرهه، لكن يحذره. كان الأب اليتيم يقترب من الموت جوعاً فيحتال بصب الماء فوق الجرابيع في غيرانها فتخرج مذعورة، يلتقطها ليأكلها. لكن اليقظة واجبة، فقد تخرج له الأفاعي الصفر ألسنتها الطويلة التي تكنس الفضاء بحثاً عن فريسة بدلاً من أن يرى بوز الجربوع المتطاول. لا ينظر إلى سعي الأفعى بضغينة؛ فهي مثله، لابد أن تأكل لتعيش، فقط يحذرها ويفر منها ليبحث عن غار جديد.

الرواية هي واحدة من الأعمال الأكثر أصالة في التعبير عن المكان ومحطة مميزة في كتابة الصحراء العربية

الحذر قانون البادية. حذر من شح الطبيعة، حذر من مخاطرها، وحذر حتى من الكلام. لا تتردد كلمة بالرواية بقدر ما ترددت كلمتا الحذر والصمت. ولا يتبدى الصمت فضيلة وعقيدة يؤمن بها البدوي فحسب، لكن استراتيجية في الخطاب. جمل الحوار بالرواية مبتورة، وكثير من الأسئلة ردها نظرة.

الكلام أضخم المسئوليات، وإذا ما تكلم المرء فكلامه جزء منه: «إذا اعتدى أحد على كلامه، كأنه يعتدي على كيانه. الحذر، إذن، هو المطلوب. والحذر هو الخط الفاصل بين السفاهة والنباهة». هذه الخطورة التي يُمثلها الكلام هي التي جعلت الصبي يتطلع إلى حلم التعليم الغريب على أسرته، حيث برر طلبه الذهاب إلى المدرسة بـ«أريد أن أتعلم الحكي».

الحذر الذي يحمل البشر على الصمت، ليس نافعاً على الدوام، حيث: «لا جدران تستر أحداً، ولا حواجز تمنع الحس أو النظر من الوصول إلى مداهما. كل كائن فيها، من الأحياء البرية المقيمة إلى البشر العابرين، أيّاً كان نوعه، وجنسه، مكشوف. مكشوف في هيئته وفي فعله. السري فيها، هو فقط ما لا يستطيع الكائن أن يشارك الآخرين في إنجازه. إنه العدم».

تكثر في الرواية التأملات حول الحياة والموت، العلاقة بالزمان والمكان، الحب، والتسامح. وقد وسَّع الكاتب على نفسه، باستخدام الراوي المستقل، فبدا المضمون الفلسفي مقنعاً بغض النظر عن وعي الشخصيات، لكنها تتمتع هي الأخرى بحكمتها البسيطة العميقة التي تعلمتها من الحياة. يقول الأب: «الدنيا مثل الخانات المنثورة على الدروب. يلجها العابرون ليقضوا حاجاتهم، قبل أن يتركوها. والأريب هو من يجد له داراً أينما حل»، وأما فضاء الحماد بالنسبة له فيحوي أسباب البقاء، وأسباب الموت، «وما عليَّ إلا أن أختار ما أريد».


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.