عبد الوهاب البياتي في مدريد

مرور 24 عاماً على رحيله

عبد الوهاب البياتي
عبد الوهاب البياتي
TT

عبد الوهاب البياتي في مدريد

عبد الوهاب البياتي
عبد الوهاب البياتي

يصادف غداً مرور 24 سنة على رحيل الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، أحد رواد الشعر العربي الحديث، إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، الذي توفي في العاصمة السورية دمشق عام 1999، ودفن في «مقبرة الغرباء» إلى جانب محمد مهدي الجواهري ومصطفى جمال الدين وغيرهما، بعد حياة قضى نصفها في المنافي.

الكاتب التونسي حسونة المصباحي يروي هنا ذكريات شخصية معه في العاصمة الإسبانية، مدريد، حيث عاش من 1980 إلى 1998:

* كان سلاحه الوحيد التهكّم على أهل الثقافة والسياسة بالخصوص... فلا يكاد أحد من هؤلاء يسلم من لسانه الحادّ

خلال الثمانينات من القرن الماضي، تعوّدتً أن أزور إسبانيا كلّ صيف، خصوصاً الأندلس التي لا أشبع من جمالها، ومن مُتعها، وملذّاتها. وكلّما عدت إليها شعرت كما لو أنّني آتيها للمرّة الأولى. وفي مساء يوم 30 يوليو (تموز) 1999 جلست في مقهى صغير في مدينة «طريفة» في أقصى جنوب إسبانيا، والتي منها يمكن أن ترى جبال الأطلس، وطنجة على الضفّة الأخرى من المضيق، مُنتظراً حلول الليل. جميع الزّبائن شيوخ طاعنون في السنّ. البعض منهم كانوا يلعبون الورق... آخرون كانوا يشربون، ويدخّنون صامتين ينظرون بعيون مُتعبة إلى السّاحة الجميلة أمام المقهى حيث شابّات يتضاحكن زاهيات بجمالهن. في الرّكن القريب من باب الخروج، شيخ في نحو الثمانين من عمره يَنُوسُ أمام كأسه، وبين أصابعه سيجارة تحترق ببطء... وجدتُني أتمعّن فيه لسبب لا أدريه... بعد لحظات انتبهت إلى أنه يشبه عبد الوهّاب البيّاتي بشكل مثير، ومُدهش؛ نفس تسريحة الشّعر، نفس العينين الصّغيرتين حيث يلمع الدّهاء، والفطنة، نفس الأنف الغليظ، نفس الملامح الدّالّة على قوّة داخليّة هائلة، نفس الأصابع، أصابع الفلاّح الذي خبر الحياة، وسبر أغوار الأرض... أنهى الشيخ الإسباني كأسه وحيّا أصدقاءه بحرارة ثم انصرف وهو يعرج قليلاً تماماً مثل البيّاتي عندما تقدّمت به السنّ. عقب ثلاثة أيّام، كنت في طنجة، في شقّة صديقي محمد شكري، وكنت أحدّثه عن العجوز الإسباني في طريفة لمّا رنّ الهاتف، وجاءنا الخبر الفاجع معلناً وفاة عبد الوهّاب البيّاتي في دمشق، لتكون آخر محطّات منافيه الكثيرة...

اللقاء الأول

التقيت عبد الوهّاب البيّاتي أوّل مرّة في مدريد في شتاء 1982، وذلك اللّقاء كان الأساس المتين لعلاقة حميمة امتدّت لعقدين كاملين. في تلك الفترة، كان عبد الوهّاب البيّاتي يعمل ملحقاً ثقافيّاً لبلاده في العاصمة الإسبانيّة، غير أنه لم يكن يذهب للعمل إلاّ نادراً، ومُكرهاً على ذلك. وكان يقضي كامل النّهار في بيته، فلا يخرج إلاّ في الخامسة ظهراً ليجلس في مقهى «الفيّوما» في «الغران فيّا» على مرمى حجر من «بوارتا دال صول»، قلب مدريد النابض بالحياة ليلاً نهاراً. وفي ذلك المقهى يبدأ سهراته التي تنتهي آخر اللّيل. وكان عبد الوهّاب البيّاتي يأتي دائماً إلى المقهى بأناقة أمير... ومنذ البداية زالت حواجز الكُلفة بيننا. ورغم فارق السنّ، كان كلّ واحد منّا يتعامل مع الآخر تعامل صديق مع الصديق الذي معه تقاسم الحلو والمرّ على أرصفة الشّوارع. والحقيقة أن البيّاتي رجل نادر يصعب على مسطّحي الذّهن، وفقراء الخيال، سبْرَ أغوار شخصيّته العذبة، والتقاط المعاني الخفيّة لدعاباته السّوداء، وتهكّمه اللاّذع الذي لا يسلم منه أحد، قريباً كان أمْ بعيداً! فيه شيء من الاعتداد بالنّفس عند المتنبّي، ومن التحدّي عند امرئ القيس، ومن فنّ الهجاء عند الحُطيئة، ومن الإقبال النَّهِم على ملذّات الحياة عند أبي نوّاس، ومن المرارة عند المعرّي. وشخصيّته جذّابة في كلّ الأحوال. وأعتقد أن كثرة أعدائه لا يعود فقط إلى صراحته، وسلاطة لسانه، وإنّما لأنه كان شاعراً أصيلاً وموهوباً... من كلماته البسيطة يشعّ نور الحبّ والحرّية، بعيداً عن الحذلقة، والافتعال. كما أنه كان يرفض دائماً الانتساب إلى ما كان يسميها «المافيات» الثقافيّة التي أفسدت (وتفسد الثقافة العربيّة إلى اليوم) بمؤامراتها، ودسائسها. وبحزم، كان يتصدّى للعقليّات المريضة، وللسلوكيّات القبليّة المتفشية في الذّهنيّة العربيّة. سلاحه الوحيد التهكّم على أهل الثقافة، والسياسة بالخصوص... فلا يكاد أحد من هؤلاء يسلم من لسانه الحادّ مثل سكّين مشحوذ جيّدا.

وفي مدريد كان البيّاتي يقتني كل الصحف والمجلات العربية. ومن خلالها يُتابع مختلف الأحداث التي تجدّ في العالم العربي مشرقاً ومغرباً، مُعلقاً عليها بسخرية مرة. وكان يحتفي بكل أديب عربي يزور العاصمة الإسبانية. كما أنه كان يتردد على النوادي الثقافية الإسبانية رغم أنه لم يكن يعرف من لغة سرفانتس سوى بعض الكلمات. ومرة أخذني إلى حفل الاحتفاء بالشاعر الكبير رافائيل ألبرتي بعد إحرازه جائزة سرفانتس الرفيعة. ورغم أنه كان قد تجاوز سن الثمانين، فإن رافائيل ألبرتي الذي لم يعدْ إلى بلاده إلاّ بعد وفاة الجنرال فرانكو. كان يبدو بشعره الفضّي الطويل، وبملابسه الشبابية أقل من سنّه بعقد أو أكثر من ذلك. وكان مُحاطاً بصبايا جميلات. راح عبد الوهاب البياتي ينظر إليه صامتاً، ثم همس لي باسماً: «أود أن أكون مثله محاطاً بالجميلات بعد أن أبلغ سن الثمانين».

اللقاء الأخير

وكان البياتي يحب أن يحدِّثني في سهراتنا التي تمتدّ إلى الفجر أحياناً عن القاهرة أيّام عبد النّاصر، وعن بيروت قبل حربها الأهليّة. ومن موسكو في فترة ذوبان الجليد الستاليني، يسافر بي إلى باريس التي يعشق شعراءها، أو إلى إسطنبول، مدينة صديقه ناظم حكمت. وفي إحدى السهرات في مقهى «الفيّوما»، حدّثني البيّاتي عن طفولته في بغداد، وعن جدّه الذي كان أوّل من زرع فيه حبّ الشّعر، وعن سنوات الغليان التي سبقت انهيار النّظام الملكي عام 1958، وعن ناظم حكمت في السّنوات الأخيرة من حياته في موسكو. كما روى لي الكثير من مغامراته الغراميّة في مختلف المدن التي عاش فيها، أو عبرها سريعاً.

مطلع شتاء 1999، التقيت البيّاتي في القاهرة في أثناء معرض الكتاب. بدا حزيناً، مُحبطاً، يائساً من نفسه، ومن العالم. وكانت نوبات الرّبو قد اشتدّت عليه مُعكّرةً سهراته مع الأصدقاء... وأكثر من مرّة نام هكذا أمام أعيننا ونحن نلهو، ونغنّي، ونرقص... آخر اللّيل، شاهدته يسير وحيداً متّجها إلى فندق «باراميزا» وهو يعرج قليلاً، مطأطئاً رأسه كأنّه يُعلن عن استسلامه للقضاء والقدر... قلت لصديق كان إلى جانبي: «أظنّ أنّي لن أرى البيّاتي مرّة أخرى».


مقالات ذات صلة

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يوميات الشرق صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يتحوّل كاظم إلى «كظّومة» في صرخات الأحبّة، وتنفلش على الملامح محبّة الجمهور اللبناني لفنان من الصنف المُقدَّر. وهي محبّةٌ كبرى تُكثّفها المهابة والاحترام.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مَنْح هبة القواس درع مئوية الجامعة تقديراً لعطاءاتها (الجهة المنظّمة)

مئوية «اللبنانية – الأميركية» تُحييها الموسيقى والشعر

قرنٌ على ولادة إحدى أعرق المؤسّسات الأكاديمية في لبنان، والتي حملت شعار تعليم المرأة اللبنانية والعربية والارتقاء بها اجتماعياً واقتصادياً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق قضى الأمير بدر بن عبد المحسن خمسة عقود في إغناء الوسط الثقافي وكتابة الشعر وتدبيج القصائد وتزيين خرائط الوجدان (حساب الأمير على «إكس»)

«المختبر السعودي للنقد» يبدأ باكورة أعماله بقراءة جديدة لأعمال الأمير بدر بن عبد المحسن

يبدأ «المختبر السعودي للنقد» باكورة أعماله بتقديم قراءة نقدية جديدة لأعمال وإنتاج الأمير الراحل بدر بن عبد المحسن.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد المحسن خلال مشاركته أمسية شعرية في باريس (الشرق الأوسط)

فنانون وشعراء يودعون أيقونة الشعر بعد خمسة عقود من العطاء

نعى شعراء وفنانون الأمير البدر، وتجربته التي امتدت لـ5عقود، غنى له خلالها نخبة من فناني العالم العربي، وتعاقبت الأجيال على الاستماع والاستمتاع ببراعته الشعرية.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق تجد في الخيبة والهزيمة سرَّ وصول إلى ضياء الحياة (حسابها الشخصي)

سهام الشعشاع لـ«الشرق الأوسط»: أنصاف الموهوبين حاضرون على حساب الأصيل

لا تدّعي سهام الشعشاع أنها قادرة على تنقية شِعر الأغنية من الشوائب، لكنها على الأقل تحاول الانتصار للغة أنيقة، ولفنّ بعيد عن التلوّث، يطرد العتمة ويكسر الكآبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟
TT

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

قلّ أن حملت قصة من قصص الحب ذلك القدر من المفارقات والملابسات الملغزة، كما هي حال القصة التي ربطت بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. ولعل رسوخ تلك القصة في المخيلة الإنسانية الجمعية لا يعود إلى عدِّها جزءاً لا يتجزأ من السردية التوراتية فحسب، خصوصاً أن قصص الحب المتصلة بالخيانة والعشق الشهواني والعلاقات الآثمة في «العهد القديم» أكثر من أن تُحصى، ولكن ما أكسبها طابَعها الشعبي الواسع هو وقوعها على خطوط التماس الفاصلة بين الدين والأسطورة من جهة، وبين الولاء للقلب والولاء للوطن من جهة أخرى.

والواقع أن أي قراءة متأنية لعلاقة شمشون بدليلة لا يمكن أن تتم على أرض العاطفة والحب اللذين تحرص التوراة على استبعادهما عن سياق الأحداث، بل يتضح للقارئ أن الخلفية التي تُروى من خلالها الوقائع هي خلفية المواجهة الضدية بين الخير العبري والشر الفلسطيني. ويكفي أن نعود إلى الجملة التي يستهل بها «سفر القضاة» القصة بقوله: «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، لكي نقرأ المكتوب من عنوانه، إذ ستكون علاقتا الزواج اللتان ربطتا شمشون بامرأتين فلسطينيتين متتاليتين ترجمة بالغة الدلالة لامتداح الذات الجمعية الفحولية، مقابل تأنيث العدو وتشويه صورته، ولو أن العقاب الإلهي قد توزع مناصفةً بين طرفَي الصراع.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن شمشون قد ولد، وفق الرواية التوراتية، بتدخل مباشر من الرب الذي استجاب لرغبة أبيه منوح وأمه العاقر في الحصول على طفل يوفر لهما أسباب السعادة والاستمرار. وبعد تجاوز الفتى سن البلوغ، التقى صدفة بفتاة فلسطينية حازت على إعجابه، فسارع بالطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها زوجة له. وعلى الرغم من أن أبويه واجها طلبه باستنكار بالغ، لأن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا «متسلطين على إسرائيل»، فإنهما أذعنا لطلبه في نهاية الأمر. وبينما كان ذاهباً للزواج التقى شمشون بشبلٍ مفترس فشقّه باليد المجردة كما يُشقّ الجدي. على أن عروسه الفلسطينية ما لبثت أن خانته مرتين؛ الأولى حين أطلعت الفلسطينيين على حل الأُحجية التي طرحها عليهم، والثانية حين تركته بغتةً لترقد في أحضان أحد أصدقائه المقربين.

ومع انتقاله إلى غزة تُنبئنا السردية التوراتية بأن شمشون لم يكد يقع في حب امرأة أخرى اسمها دليلة، حتى «صعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها تملّقيه وانظري بماذا قوته عظيمة»، عارضين عليها مبلغاً مغرياً من المال. على أن شمشون المتوجس من السؤال أعطى دليلة ثلاث إجابات كاذبة حول سر قوته، حتى إذا بالغت في إلحاحها «وضاقت نفسه إلى الموت» أخبرها بأن قوته كامنة في خصل شعره الطويلة، فإن تمّ قصُّها فارقته هذه القوة بالكامل.

وإذ نجحت دليلة في الوقوف على سر بطلها العاشق، أنامته على ركبتيها وطلبت من أحد الرجال قص جدائله السبع، حتى إذا أيقظته وأراد الانقضاض على الفلسطينيين، اكتشف أنه بلا حوْل، وأنه وقع ضحية المرأة المخاتلة التي أسلم لها قلبه. بعد ذلك اقتلع الفلسطينيون عينيه وأوثقوه بالسلاسل وسجنوه، آمرين إياه أن يدير في سجنه حجر رحىً ثقيلاً. وبعد انتشاء الفلسطينيين بالنصر جاءوا بشمشون ليبهجهم بعروضه المسلية في أحد أعيادهم الوثنية، فدعا الأخير الرب ليساعده على الانتقام، وكان شعره قد نما على غفلة من أعدائه، حتى إذا أعاد الرب له قوته هتف من أعماقه «لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين» ثم هدم الهيكل على نفسه، وعلى الآلاف الثلاثة من الفلسطينيين الذين لم ينجُ منهم أحد.

ولم تكن مثل هذه القصة الحافلة بالرموز لتسهوَ عن بال الشعراء والكتاب والفنانين، الذين تناولوها عبر التاريخ من زواياهم المختلفة، وأفردوا لها قصائد ولوحات وأعمالاً إبداعية كثيرة. ولم يَفُت منتجي هوليوود ومخرجيها الكبار استثمار هذه القصة المثيرة في المجال السينمائي، فتم استلهامها مرات ثلاثاً بين مطلع القرن الفائت ومنتصفه، إضافة إلى عشرات العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية.

أما في مجال الشعر فقد استند الشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى قصة شمشون ودليلة في عمله الدرامي «سامسون أغونيستس» الذي استلهم من خلاله التراجيديا الملحمية الإغريقية، مبتعداً عن قواعد المسرح الإليزابيثي وأعرافه. ومع أن ميلتون قد آثر الالتزام بالنص التوراتي، فإنه وهو المصاب بالعمى تماهى من نواحٍ عدة مع البطل العبري الذي سمل الفلسطينيون عينيه. على أن أكثر ما يستوقفنا كقراء هو قول دليلة لشمشون الغاضب والرافض للصفح بأن الفلسطينيين «سيمتدحونها عبر الأجيال»، كما لو أن ميلتون كان يستطلع، بحدسه الشعري الثاقب، مآلات الصراع الوجودي الذي لا نهاية له بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وإذا كانت ثنائية الجمال والموت هي التي حكمت قصائد الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، فقد بدت قصيدته «شمشون» ذروة الديوان وواسطة عقده الأهم. وإذا كان أبو شبكة قد اكتفى بإعادة تظهير الواقعة كما وردت في التوراة، نائياً بنفسه عن أي بعد قومي أو آيديولوجي، فلأن معاناته القاسية مع المرأة لم تمكنه من أن يرى في دليلة سوى واحدة من الرموز الأنثوية الأكثر دلالة على الخيانة والغدر. وهو إذ يتقمص شخصية شمشون المخدوع، يخاطب دليلة قائلاً:

ملّقيهِ بحسنكِ المأجورِ

وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسْن يا دليلةُ أفعى

كم سمعنا فحيحها في سرير

ملّقيهِ ففي ملاغمك الحمرِ

مساحيقُ معدنٍ مصهورِ

وارقصي إنما البراكين تغلي

تحت رجليكِ كالجحيم النذيرِ

وبينما يرى الباحث العراقي فاضل الربيعي، الذي يعمل على تفكيك البنية التاريخية للسرديات الدينية والميثولوجية، أن الحادثة برمتها ذات جذور يمنية سبئية، إذ إن اسم شمشون مشتق من الشمس، واسم دليلة مشتق من الليل، وأن الصراع في عمقه الرمزي هو صراع بين التقويمَين الشمسي والقمري، يرى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو القصة القديمة من منظور معاصر، محولاً عمله المسرحي «شمشون ودليلة» إلى مناسبة لوضع التاريخ على سكته الصحيحة. اللافت في عمل بسيسو أن عنوان المسرحية قد ظل غريباً عن سياقاتها حتى فصلها الأخير، حيث تتم على نحو مفاجئ إماطة اللثام عن الحقيقة المُرة. فالفلسطينيون المحشورون في عربة معطلة لم يعودوا يملكون، وقد أسفرت كل إشارات المرور عن لونها الأحمر، سوى قرارهم بإعلان الثورة دفاعاً عن هُويَّتهم المهددة بالامّحاء. أما سكان العربة الذين يتحكم بهم جبروت سائق حاقد ومبهم الملامح، فبينهم الأم والأب وابناهما عاصم مازن وريم، التي لم تستطع أثناء إجبارها على النزوح أن تميز بين طفلها يونس وصرة ثيابها، فتركت الأول وحملت الثانية، لتربي في داخلها مرارة الفقد وشهوة الانتصار على الجلاد.

وسرعان ما نكتشف أن من يمسك بزمام العربة هو شمشون الإسرائيلي الذي لا يكف عن تجديد وجهه الكالح من عصر إلى عصر، والذي يهتف بالفلسطينيين بنبرة هازئة:

هل تنتظرون دليلة؟

تكشف سرّي وتجزُّ ضفائر شَعري

تفقأ عينيَّ وتربطني كالثور أجرُّ الطاحون

عبثاً تنتظرون دليلة

أنتم في راحة كفّي

كلُّ قنابلكم تتفجر في داخل هذي الخوذة

كصواريخ الأطفال

وإذ يتابع النص المسرحي مفاجآته، تتقمص ريم شخصية دليلة الفلسطينية محذرة شمشون من التمادي في بطشه المتغطرس، ومبلغة إياه بأن دليلة الجديدة ستكون أكثر دهاءً من الأولى وأكثر شراسةً في الدفاع عن حقوق شعبها المهدورة. وفيما يُسمع من وراء العربة دوي الانفجارات وأزيز الرصاص، تتماهى ريم مع صورة الأرض نفسها، هاتفة بشمشون:

صار لنا دفتر يومياتٍ آخرُ يا شمشونْ

صرنا يا شمشونُ نوقّع فوق الأربطة البيضاء على الجرحِ،

الأربطةُ البيضاءُ تغطّي الأرض

فوق جبين الزيتونة صار رباطٌ أبيضُ،

والشمس ممرّضةٌ تسعى بين الجرحى