الغرب في مرايا أدباء المغرب العربي

زاهية صالحي ترصد افتتان الجيل الأول من المغاربة المتعلمين بفرنسا {لكن ذلك لم يدم طويلاً}


رشيد بو جدرة
رشيد بو جدرة
TT

الغرب في مرايا أدباء المغرب العربي


رشيد بو جدرة
رشيد بو جدرة

لكلمة «الاستغراب» (Occidentalism)، حسب قاموس «النفيس» (إنجليزي- عربي) للدكتور مجدي وهبة، معانٍ عدة، يعنينا منها هذا المعنى: «دراسة الحضارة الغربية من قِبَل من ليسوا غربيين». فالاستغراب هو الوجه المقابل للاستشراق (Orientalism) الذي هو دراسة الحضارة الشرقية من قِبَل من ليسوا بشرقيين. وإلى المفكر المصري الراحل، أستاذ الفلسفة، الدكتور حسن حنفي، يرجع الفضل في إذاعة مصطلح الاستغراب (وإن لم يكن هو من نحته) وذلك في كتابه «مقدمة في علم الاستغراب» (2000) الذي أراد به إقامة علم نرد به على الغرب، الغرب الذي طالما استذل الشرق ونظر إليه بعين الاحتقار، أو على أحسن تقدير بعين العطف المنطوي على استصغار: عطف القوي على الضعيف، والكبير على الصغير، والعالم على الجاهل. فكأنما نحن نقول للغرب: عين بعين، وكيل بكيل، وصاع بصاع. أو كما أتخيل أن الأديب يحيى حقي كان -بفكاهته- خليقاً أن يقول للغرب: لا تعيِّرني ولا أعيِّرك، فإنما نحن في السراء والضراء سواء.

مالك حداد

و«الاستغراب» عنوان كتاب باللغة الإنجليزية، صادر عن مطبعة جامعة إدنبره في 2019، من تأليف الدكتورة زاهية صالحي، رئيسة قسم الدراسات العربية بجامعة مانشستر، ونائبة رئيس الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط. وهي مؤلفة كتاب سابق عنوانه «السياسة وأصول الفن في الرواية الجزائرية» (1999).

يتناول كتاب «الاستغراب» اللقاء بين الشرق والغرب كما تمثل في الأدب المغاربي (الجزائري بخاصة) في حقبة ما قبل عام 1945، وموقف المثقفين الجزائريين من لغة فرنسا وثقافتها، وأثر الحركة النسوية الفرنسية في الحركة النسوية الجزائرية. ومن الأعمال الأدبية التي تسلط عليها المؤلفة الضوء: نصوص لشكري خوجة، وسعد بن علي، وجميلة دبيش، وفاطمة عمروش، ومولود فرعون، وفرحات عباس، وألبير ميمي، وغيرهم.

تنظر المؤلفة إلى موضوعها في إطاره الحضاري الواسع، ومنظوره التاريخي، مبرزة العلاقة بين المسلمين والغرب المسيحي في عصر الإمبراطور شارلمان (القرن الثامن الميلادي)، والحروب الصليبية، والحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801)، وسياسة التمثل والاستيعاب التي عمد إليها الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس ومراكش، ومن أدواتها نشر اللغة الفرنسية والمذهب الكاثوليكي.

مولود فرعون

ومن الأطر المرجعية التي تتكئ عليها المؤلفة، حديث ابن خلدون في مقدمته عن ولع المغلوب بمحاكاة الغالب، وكتابا فرانز فانون: «معذبو الأرض»، و«بشرة سوداء، أقنعة بيضاء».

افتتن الجيل الأول من المغاربة المتعلمين بفرنسا بوصفها «الوطن الأم». ويعبر عن هذا الافتنان «مأمون»، بطل أول رواية (1928) لشكري خوجة (1891- 1967)، إذ يقول: «لأني أعرف العلماء الفرنسيين ومنجزاتهم واكتشافاتهم، ولأني أعرف أمثال فولتير ودي بوالو وبسكال وموسيه وكثيرين غيرهم، لا يسعني إلا أن أعشقهم جميعاً عشقاً حاداً. وبعشقي لهم أفلا يعني ذلك عشق أمتهم؟». ويضيف: «إني أحب فرنسا بعمق، وقد ازداد حبي لها منذ زرتها. اكتشفت مناظرها الجميلة وسكانها الفاتنين وكل الأشياء رائعة المظهر فيها».

لكن هذه الصورة الوردية لم تدم طويلاً. فقد بدأت –وهو ما كان محتوماً- مصادمات بين المستوطنين الأوروبيين والأهالي، وارتفع منسوب العنف، ولجأت السلطات الفرنسية إلى القمع الوحشي، متوجة ذلك بمذبحة الفرنسيين ضد الأهالي في 8 مايو (أيار) 1945، فحل انقشاع الأوهام، والشعور بالاغتراب، وازدواج المشاعر الوجدانية محل حلم التعايش. ووجدنا هذا الاختلاط الشعوري لدى كتاب لا شك في نبل مقاصدهم، مثل ألبير كامي وإيمانويل روبلس.

غلاف الكتاب

وتقول المؤلفة إن رواية مولود فرعون (1913- 1962) «نجل الفقير» عُدت عند صدورها في 1950 إيذاناً بمولد أدب صادق معبر عن الجماهير المغاربية؛ ذلك أنها عزفت نغمة جديدة على الأدب المغاربي بعامة، والأدب الجزائري بخاصة. فعلى النقيض من كُتاب حقبة ما قبل عام 1945، كان فرعون –مثل «فورولو» الشخصية الرئيسية في الرواية- ابناً لفقراء، وقد منحت الرواية صوتاً للمسحوقين في مجتمع يحكمه الاستعمار، مجتمع كان الغرب يتجاهله. ويصور فرعون قريته في صورة بقعة بعيدة عن الحضارة بلا طرق ولا مستشفى، وكل ما تملكه مدرسة صغيرة بها فصلان، يديرها اثنان من الأهالي. ولأن القرية على هذا النحو البدائي لا يعيش فيها أوروبيون. ويوجه فرعون إصبع الاتهام إلى قرائه الفرنسيين، وكأنه يقول: أنتم تدَّعون أنكم جئتم برسالة حضارية، فأين هي هنا؟ وفي رسائله إلى أصدقائه الفرنسيين لا يترك مجالاً للشك في أن أبناء البلد الجزائريين والمستوطنين الأوروبيين يعيشون في عالمين منفصلين لا صلة بينهما، وأن حيواتهم بالغة الاختلاف. وفي رسالة منه إلى صديقه ألبير كامي يعاتب فرعون هذا الأخير لأن روايته «الطاعون»، وإن كان مسرحها مدينة وهران، لا تضم شخصيات جزائرية.

وفي أول رواية لمحمد ديب (1920- 2003) وهي «الدار الكبيرة» (1952) نجد أن سكان دار كبيرة -ترمز إلى الجزائر المحتلة- يصارعون الفقر والجوع (ترجم محمد البخاري ثلاثية ديب -وهي تبدأ بـ«الدار الكبيرة»- إلى العربية، في سلسلة «روايات الهلال»).

وفي رواية مولود معمري (1917- 1989) «التل المنسي» (1952) نلتقي بتل نسيته الحضارة، وصار أناسه على حافة الانفجار. ويتنامى الشعور بالاغتراب في رواية معمري الثانية «نوم الأبرار» (1955) إذ ترتمي الشخصية الرئيسية «أرزقي» في أحضان فرنسا، وتتنكر لأهلها وموروثها. ويحل المعلم الفرنسي «مسيو بواريه» محل أبي «أرزقي» مرشداً وموجهاً. ويسافر «أرزقي» إلى أوروبا ليحارب ضد النازي، ولكنه يصدم؛ إذ يجد أن الأوروبيين الذين يحارب في صفوفهم ينظرون إليه بعين عنصرية استعلائية، ويعدونه جزائرياً مسلماً لا يحمل الجنسية الفرنسية. يتولاه الغضب فيعود إلى الجزائر نادماً على ما فرط منه في حق وطنه، فيضرم النار في كتبه الفرنسية، ويبول عليها، وهي إيماءة رمزية يريد بها أن يتطهر من عبث هذه الكتب بعقله ووجدانه.

والشخصية الرئيسية في رواية معمري التالية «الأفيون والعصا» (1965) طبيب جزائري يدعى «بشير» يترك حياة المدينة وبيئتها الأوروبية، لكي ينضم إلى المجاهدين في حرب استقلال الجزائر، وبذلك يتم الطلاق البائن بينه وبين الغرب.

محمد ديب

وكان مصرع ألبير كامي -الداعي إلى تعايش المستوطنين الفرنسيين والأهالي الجزائريين- في حادث سيارة مأسوي عام 1960، ثم اغتيال فرعون على يد المنظمة السرية للجيش الفرنسي في مارس (آذار) 1962، قبل إعلان استقلال الجزائر بأشهر قليلة، رمزين لنهاية حقبة وتبدد حلم التعايش بين الجزائر وفرنسا، وتمزق الأواصر بينهما على نحو آلم كثيراً من أصحاب الضمائر من الفريقين.

ولم تكن حرب التحرير هي ميدان المواجهة الوحيد بين فرنسا والجزائر، فقد كانت هناك أيضاً حرب اللغة: العربية في مواجهة الفرنسية. وتمثل هذا الصراع على أوضح الأنحاء في حالة مالك حداد (1927- 1978) الروائي الفرانكفوني صاحب المقولات المشهورة: «اللغة الفرنسية سجني ومنفاي»، و«اللغة الفرنسية تفصلني عن وطني أكثر من البحر المتوسط». وفي مقالته الطويلة المسماة «الأصفار تدور في حلقة مفرغة» (1961) (ترجمها إدوار الخراط إلى العربية) دعا أقرانه من الكتاب الجزائريين إلى اطراح اللغة الفرنسية أداة للتعبير، وذلك حتى تستكمل الجزائر استقلالها الثقافي عن فرنسا.

وإذ أدرك كتاب آخرون مثل كاتب ياسين (1929- 1989) أنه لا سبيل للوصول إلى جمهرة القراء بكتابة روايات فرنكوفونية، عمدوا إلى الكتابة للمسرح، مستخدمين لغة الناس العاديين، والعامية الجزائرية، مطعِّمين إياها بموروثات الثقافة الشعبية، ومدمجين الجمهور في العرض المسرحي، وبذلك رووا عطش الجمهور (وكثير من أفراده أميون لا يقرأون ولا يكتبون) إلى المتعة والمشاركة.

ونجد أن روائياً آخر هو رشيد بو جدرة (1941-) بعد أن كتب أعماله الأولى باللغة الفرنسية، فاجأ قراءه بأن أصدر في 1982 رواية باللغتين الفرنسية والعربية، هي «التفكك». على أنه ما لبث أن عاد إلى الكتابة بالفرنسية في تسعينات القرن الماضي، لا باعتبارها لغة المستعمر، وإنما باعتباره أقدر على التعبير بها.

والنتيجة التي تنتهي إليها زاهية صالحي، هي أن العلاقة بين الشرق والغرب علاقة معقدة وإشكالية. وتورد قول جبرا إبراهيم جبرا في مقالته عن «الأدب العربي الحديث والغرب» (1971): «العرب والغرب. إنها قصة طويلة معقدة، وكمثل القصص الجيدة المعقدة تشتمل على كثير من الصراع، كثير من الحب والكراهية. العلاقة قديمة قدم الإسلام: الانجذاب والنفور بينهما قد تعايشا جنباً إلى جنب أحياناً إلى درجة منتشية، وأحياناً إلى درجة فاجعة».

والكتاب إضافة علمية مهمة إلى جهود سابقة، مثل كتاب إبراهيم الكيلاني «أدباء من الجزائر» (دار المعارف، مصر، 1958)، و«موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين» (دار الحضارة، الجزائر، 2003)، ومواد الأدباء الجزائريين التي أسهم بها محمد حفيظ في «قاموس الأدب العربي الحديث» (إعداد وتحرير الدكتور حمدي السكوت، دار الشروق، القاهرة، 2009). والكتاب أيضاً مكمل لكتاب الدكتور رشيد العناني المهم «تمثيلات عربية للغرب: لقاءات الشرق والغرب في القصة العربية» (2006)، إذ على حين يركز العناني اهتمامه على أدباء المشرق العربي تركز زاهية صالحي اهتمامها على أدباء المغرب العربي، وبذلك تكتمل أركان الصورة ويحل –كما يقول التعبير الإنجليزي- لغز الصور المقطعة؛ إذ تسقط كل جزيئات الصورة في مكانها المعلوم.


مقالات ذات صلة

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

ثقافة وفنون هاني نديم

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري.

رشا أحمد ( القاهرة)
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
الوتر السادس أبناء منصور الرحباني يطلقون فعاليات مئوية والدهم (الشرق الأوسط)

أبناء منصور الرحباني يُطلقون مئويته ووزارة التربية تتعاون لترسيخ إرثه في المدارس

بحضور حشدٍ من الشخصيات الثقافية والفنية والإعلامية، أطلق أبناء منصور الرحباني برنامج مئويته من بيروت.

كريستين حبيب (بيروت)
خاص الفنان السوري دريد لحّام (فيسبوك)

خاص دريد لحّام لـ«الشرق الأوسط»: انقضت سنوات القهر وأنا لم أكن مع النظام بل ضد الفوضى

يتحدث الفنان السوري المخضرم دريد لحّام إلى «الشرق الأوسط» عن ارتياحه لنهاية نظام الرأي الأحادي في سوريا ويسترجع السنوات التي مُنعت فيها أعماله بسبب الرقابة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي