العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة

البشر أدمنوا عليها فأصبحت أول ما يبتدئون به نهاراتهم وآخر ما ينهونها به

العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة
TT

العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة

العبوديّة الرقميّة... وهزيمة الثقافة

خلال أقل من 24 ساعة على إطلاق تطبيق «ثريدز» الجديد المنافس لـ«تويتر» التحق به ثلاثون مليون مشترك يعتقد أن غالبيتهم الساحقة من مشتركي تطبيق «تويتر» أصلاً. وتطمح شركة «ميتا»؛ صاحبة التطبيقات الشهيرة «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب»، إلى إزاحة تطبيق «تويتر» عن عرشه الذي بقي عليه دون منافس جديّ بعدد مشتركين يصل اليوم إلى نحو 370 مليوناً.

ولعّل اللافت في هذا الإقبال الهائل أن التطبيق الجديد لا يقدّم أي ميزات نوعيّة عن تطبيق «تويتر»، فيبدو كأنه نسخة مقلدّة من موقع التغريد الأزرق، ولا يمنح مشتركيه منصّة أقل انحيازاً بحكم خبرتنا الطويلة مع «فيسبوك» الذي يماثل؛ إن لم يفق، «تويتر» في الفجاجة في مصادرة الآراء؛ بل والصور أحياناً، كما أن أحداً لم يترك «تويتر» فيما يبدو ليلتحق بـ«ثريدز»؛ بل استمر التطبيقان؛ كل إلى جوار الآخر، على الأجهزة الذكيّة لملايين البشر. ولذلك يحق لنا التساؤل عن دافع هذه الملايين لإضافة «تويتر» آخر جديداً إلى جانب «تويتر» الأصلي؟ لقد أحدث ظهور الإنترنت وما لحق بها من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي ثورة معرفيّة عبر تعميم وسائل استعادة المعلومات إلى أعداد غير مسبوقة في التاريخ البشري وتسهيل صيغ التواصل فيما بينهم؛ الأمر الذي دفع ببعض المتفائلين منا لتوقع قيام «يوتوبيا رقميّة»، تعوض أحلامهم المنكسرة بعدما تعثرت كل المحاولات لتأسيس «يوتوبيات ماديّة» على الأرض، فتكون بمنزلة فضاء معولم للحريّة والمساواة. لكن هذه التوقعات الساذجة لم تلبث - خلال وقت قصير لا يتجاوز عمر جيل أو جيلين - أن تحطمت على جدار «ديستوبيا مريرة ساخرة»؛ إذ إن عدداً محدوداً من شركات التكنولوجيا المتطورة عززت هيمنتها على العالم السيبراني، وحوّلت منصاتها إلى آلات لانتزاع الأموال من المستهلكين؛ إنْ ليس مباشرة، فمن خلال بيع معلومات الاستعمال لمن يرغب من الشركات والحكومات، بل ولمنظمات مشبوهة أيضاً، في اعتداء سافر على خصوصية المشتركين، ومعلوماتهم، ووقتهم. وتآكلت لاحقاً الآمال في إنترنت مجانيّ يتيح للبشر التلاقي على صعيد واحد بغض النظر عن قدرتهم الماليّة، بعدما أصبح الوصول إلى كثير من التطبيقات والمواقع متعذراً دون دفع بدل ماديّ، فيما يتطلّب بعضها مقابل الاستعمال المجانيّ التعرّض الطوعيّ لغسل دماغ من قبل شركات الاستهلاك، ومشاهدة دفق إعلانات متكرر بين الفينة والأخرى.

لكن ذلك لم يكن كافياً لتنفير مستخدمي هذه المواقع والتطبيقات التي أصبح بعضها عملاقاً مؤثراً أكثر بكثير من حكومات أغلب دول العالم، حتى بدا خلال أقل من عقدين كأن البشر مشوا بأقدامهم نحو عبوديّة رقميّة، فتقبلوها دون مقاومة تذكر، وأدمنوا عليها، فأصبحت سيّدة أوقاتهم، وخصوصاً نشاطهم، وأول ما يبتدئون به نهاراتهم، وآخر ما ينهونها به. وهكذا يمكن لشركة «ميتا» أن تطلق تطبيقاً يلتحق به عشرات ملايين البشر خلال ساعات، ولشركة «أبل» أن تستقطب صفوفاً طويلة أمام محلاتها من الساعين لشراء أحدث تكنولوجياتها...

إن هذا الزحف نحو العبودية الرقمية؛ في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت، ستكون له تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة، وضغوط إضافيّة على ميزانياتهم، ولا بدّ من أنه سيخلق نوعاً من تفاوت طبقي في القدرة على الوصول للمعلومات بين الشعوب وداخل المجتمعات السكانيّة أيضاً، مما قد يعوق تشكيل ثقافات منسجمة على المستوى الوطني، لمصلحة ثقافات بديلة افتراضيّة عابرة للحدود تجمع بين فئات الميسورين دون غيرهم.

هذا الفصل الرقمي سيدفع بالمتضررين إلى محاولة عبور الأسوار عبر المواقع والبرامج المقرصنة التي تحمل في طياتها غالباً مخاطرات التعرض إلى الفيروسات والبرمجيّات الضارة، وربما تتسبب لهم في خسائر مادية تضاعف من الفجوة الرقميّة، وتكرّس تهميش الذين يقفون على الجانب الخاسر من الصحراء السيبرانيّة الممتدة. وتهدد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعيّ اليوم، مع تسارع اندماجها في مختلف جوانب الحياة، بتوسيع تلك الفجوات الرقميّة بشكل أكبر، وربما خلق أشكال أكثر جبروتاً مما عرفناه حتى وقتنا الرّاهن من عبوديّة رقميّة.

ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أن كل تعاطٍ لنا مع الإنترنت وعبر مختلف التطبيقات يعني تسليم مزيد من المعلومات عنّا لهذه الشركات الكبرى؛ حيث جميع محادثاتنا ومراسلاتنا الإلكترونية، ومعاملاتنا التجارية والبنكيّة، والصور التي نتشاركها، ومجمل تعاملنا مع مواقع التواصل الاجتماعي، تتم إضافته إلى تجمّع هائل مما تسمى «البيانات الكبيرة»، التي عندما تتوفر للذكاء الاصطناعي فستمكنه من لعب دور «الأخ الأكبر» الذي يتربع على قمة الهرم، ويسيطر على أقدار البشر.

سبق الروائيون غيرهم إلى التحذير من «ديستوبيا» تقودنا نحوها مثل هذه التكنولوجيا؛ فبين «1984» لجورج أورويل، و«عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، تسيطر على العالم طبقة معينة من الميسورين الذين يُسقطون القوميّة والسيادة الوطنية ونظام العائلة من حساباتهم، ويستعينون بتكنولوجيّات متقدمة لتكريس هيمنتهم على بقيتنا، مع فرق شكلي ربّما بين الصيغتين المقترحتين؛ فيتم استعباد الناس قهراً عند أورويل، بينما هم يحبّون عبوديتهم وفق هكسلي.

فأي إنسان جديد ينشأ في ظل هذه العبوديّة؛ قسرية كانت أم طوعيّة، في أغلب الأحوال سينتهي بمنزلة رقيق رقميّ عند الشركات والجهات الأخرى التي تمتلك أي جزء من هويتنا الرقمية؛ إذ إن نظامها التشغيلي قائم على أساس إساءة استغلال خصوصيتنا واهتمامنا... فلا نحن نمتلك هوياتنا الافتراضية، التي يمكن لأصحاب الشركات إلغاءها في أي وقت، ولا نحقق بصفتنا أفراداً أيّ فائدة تذكر من تراكم مشاركتنا بياناتنا الشخصية وعلاقاتنا واهتماماتنا، فيما تتحول هذه إلى مادة خام ذهبيّة يبيعها عمالقة التكنولوجيا لمن يرغب من التجار والحكومات. فبينما نحن أحرار جسدياً، فلسنا كذلك رقمياً؛ إذ نتعرّض لشكل قاسٍ من العبوديّة الافتراضيّة.

العبودية الرقمية في موازاة سقوط مجانيّة الإنترنت ستكون لها تداعيات طويلة المدى على صحة الأفراد العقليّة

ولعل الأخطر في هذه العبوديّة أننا نسقط فيها رويداً رويداً دون أن ندرك، تماماً مثل الضفدع الذي يوضع في دورق ماء وتوقد تحته النار، فيقضي دون أن ينتبه إلى أن درجة حرارة الماء تزداد حوله باطراد... فنحن مستمرون في إثراء بصمتنا الرقميّة على الإنترنت يوماً بيوم لمصلحة «الأخ الأكبر»، بينما ليس لدى أغلبنا أي خطط للتحرر، ولا حتى الرّغبة فيه.

وبالطبع؛ فإن واقع الحال يشير إلى أن معظم الأفراد لا يتوقع منهم إدارة مواجهتهم مع هذا «الأخ الأكبر» وحيدين، إذ لا بدّ من هيئات عامّة توعيهم، وتسندهم، وتتولى المهمة عنهم، أقلّه في الحدود الدنيا. لكن التجارب الحاليّة في هذا الإطار - وربّما باستثناء محاولات أوليّة عند الاتحاد الأوروبي لحماية مواطني دوله الأعضاء من التغوّل الكليّ لشركات التكنولوجيا - تبدو إلى الآن غير مبشّرة، بعدما تحوّلت أنظمة الحماية التي بنتها الدول الكبرى، مثل روسيا والصين وإيران، إلى مجرد «تطبيقات تويترات أخرى» بنسخ رديئة أحياناً، مع انعزال مستخدميها فيما تشبه «غرف صدى» ضخمة نسبياً على وسع البلد الواحد، لكنها أقرب إلى سجن جماعي لا يسهل لأبناء الثقافات الأخرى؛ بمن فيهم الأصدقاء والمتعاطفون، عبور أسواره.


مقالات ذات صلة

كيف تمنع «ميتا» من استخدام صورك على «فيسبوك» و«إنستغرام» لتدريب الذكاء الاصطناعي؟

تكنولوجيا لوغو «ميتا» (د.ب.أ)

كيف تمنع «ميتا» من استخدام صورك على «فيسبوك» و«إنستغرام» لتدريب الذكاء الاصطناعي؟

يمكن للمستخدمين من الاتحاد الأوروبي طلب استبعاد بياناتهم لدى شركة «ميتا» من استخدامها لتدريب الذكاء الاصطناعي، لكن هذه الخاصية غير متاحة للمستخدمين الآخرين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مناصرون لترمب يتظاهرون في فلوريدا في 2 يونيو 2024 (أ.ف.ب)

أميركا: تنافس شرس على تسخير «منصات التواصل» في الحملات الانتخابية

يتزايد نفوذ وسائل التواصل الاجتماعي ويتصاعد تأثيرها في الانتخابات الأميركية، وسط تنافس شرس بين المرشحين الديمقراطي والجمهوري لاستمالة عقول الناخبين وقلوبهم.

رنا أبتر (واشنطن)
تكنولوجيا أطلقت الشركة في الأصل القدرة على إخفاء علامة تبويب الإعجابات كميزة لمشتركي «X Premium» العام الماضي (شاترستوك)

«إكس» تبدأ ميزة إخفاء الإعجابات الخاصة لحماية تفضيلات المستخدمين

«إكس» تعلن بدء إخفاء إعجابات المستخدمين تلقائياً هذا الأسبوع بهدف السماح لهم بالتفاعل مع المنشورات دون خوف من التدقيق العام، وفق تعبيرها.

نسيم رمضان (لندن)
الولايات المتحدة​ بنيامين نتنياهو يتحدث أمام الكونغرس في 3 مارس 2015 (أ.ف.ب)

إسرائيل تستهدف سراً النواب الأميركيين بالذكاء الاصطناعي لدعم حربها في غزة

كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أن إسرائيل نظمت حملة تأثير، نهاية عام 2023، استهدفت من خلالها المشرعين الأميركيين والجمهور الأميركي برسائل مؤيدة لإسرائيل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق شعار منصة إكس (أ.ب)

رسمياً... «إكس» تسمح بالمحتوى الإباحي

أعلنت منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي أنها باتت تسمح رسمياً بنشر أي محتوى جنسي أو إباحي على منصتها.

«الشرق الأوسط» (كاليفورنيا)

شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
TT

شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية. تحضر المرأة بقوة في هذا الميدان، وتتجلّى في نماذج ثابتة تتشابه في قالبها الثابت الجامع، وتختلف في عناصر تفاصيلها المتعدّدة المتحوّلة. يظهر هذا القالب الواحد بشكل جلي في شاهد خرج من مقبرة المقشع، يمثّل سيدة ترتدي اللباس التقليدي المتعارف عليه. ويبرز هذا التباين بشكل خاص في شاهد آخر خرج من مقبرة الشاخورة، يُمثّل سيدة تتميّز بأناقتها المترفة.

بين عام 1992 وعام 1993، أجرت بعثة محلية حملة تنقيب واسعة في مقبرة أثرية تقع في الشمال الشرقي من مملكة البحرين، تجاور قرية المقشع وتُعرف باسمها. أدّت تلك الحملة إلى الكشف عن مجموعة من اللقى المتعددة الأنواع، منها شاهد قبر عمودي من الحجر الجيري يبدو أقرب إلى منحوتة ثلاثية الأبعاد، عُرض للمرة الأولى في باريس ضمن معرض مخصص لآثار البحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في ربيع 1999. يبلغ طول هذه المنحوتة 37 سنتمترا، وعرضها 17 سنتمترا، وتُمثّل سيدة منتصبة ترتدي عباءة طويلة تلتف حول رأسها وجسدها على شكل المعطف اليوناني التقليدي. يعلو هذا المعطف ثوب من قطعة واحدة يظهر منه طرفه الأسفل، وفقاً للقالب الكلاسيكي المعهود الذي عُرف في سائر الشرق الهلنستي.

يوحي طول المنحوتة بأنها تجسّد تمثالاً نصفياً، مع ظهور إضافي للقسم الأعلى من الساقين المتمثّل في الوركين. يبدو القالب في ظاهره يونانياً تقليدياً، غير أن الأسلوب المتبع في نقش ثنايا العباءة الملتفّة حول القامة يعكس أسلوباً شرقياً مغايراً يظهر في اعتماد شبكة من الخطوط المتوازية هندسياً تنسكب حول القامة وتحجب مفاصل البدن بشكل كامل. تُمسك السيدة بيدها اليسرى طرف العباءة الأوسط، وترفع ذراعها اليمنى نحو أعلى صدرها، باسطة راحة يدها، وفقاً لحركة تقليدية تميّز بها الفن الإيراني القديم، في زمن الإمبراطورية الفرثية التي امتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات، في ما يُعرف في زمننا بوسط تركيا، إلى شرق إيران، وسادت على طريق الحرير، وأضحت مركزاً للتجارة والتبادل التجاري والاجتماعي في القرنين الميلاديين الأولين. يظهر هذا الطابع الشرقي كذلك في نحت سمات الوجه، وفي نقش ملامحه وفقاً لطراز خاص يغلب عليه طابع التحوير والاختزال.

العينان لوزتان واسعتان مجرّدتان من أي تفاصيل، وأجفانهما محدّدة بوضوح. الأنف متّصل بخط واحد مع الجبهة، والفم كتلة بيضاوية أفقية يخرقها في الوسط شق يفصل بين الشفتين. تعلو الجبين خصل من الشعر نُقشت على شكل شبكة هندسية تحاكي في صياغتها وريقات نبات النفل المتجانسة، وتعكس هذه الشبكة كذلك أثر التقاليد الفرثية التي بلغت مناطق واسعة من الشرق القديم. تختزل هذه المنحوتة في صياغتها قالباً اعتُمد بشكل واسع في البحرين في الحقبة التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، كما تشهد مجموعة كبيرة من شواهد القبور الأنثوية التي عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عديدة تعود إلى هذه الدولة الجزيرية الواقعة على الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية.

ساد هذا التقليد بشكل واسع كما يبدو، غير أن هذه السيادة لم تحدّ من ظهور تنوّع كبير في العناصر التي تهب القالب الواحد أوجهاً متجدّدة. تتجلّى هذه الخصوصية في شاهد قبر عُرض ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012. خرج هذا الشاهد من مقبرة الشاخورة الأثرية شمال غرب القرية التي تحمل اسمها، على مقربة من جنوب شارع البديع، شمال المنامة، وهو على شكل كوّة من الحجر الجيري يبلغ طولها 46 سنتمتراً، وعرضها 39 سنتمتراً. تتكوّن هذه الكوّة من عمودين يعلو كلاً منهما تاج مجرّد، وقوس عريض يخرقه شق في الوسط، ويُعرف هذا القوس في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي بـ«قوس المجد». وسط هذه الكوّة، على سطح الخلفية الأملس، تبرز قامة أنثوية ناتئة، نُقشت ملامحها وفقاً للأسلوب التحويري المختزل الذي اعتُمد بشكل واسع في البحرين.

تشكل النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان

يتكرّر القالب المألوف. تمسك السيدة بيدها اليسرى طرف وشاحها، وترفع راحة يدها المبسوطة نحو صدرها في وضعية الابتهال المألوفة، غير أنها تكشف هنا عن شعرها الطويل، على عكس التقليد المتبع. يتكوّن هذا الشعر من كتلتين متوازيتين يفصل بينها شق في وسط أعلى الرأس، وتزين هاتين الكتلتين شبكة من الخطوط الغائرة ترسم ضفائر الشعر المنسدلة على الكتفين، كاشفتين عن أذنين كبيرتين، يُزين طرف كل منهما قرط دائري. يحدّ العنق العريض عقدان يختلفان في الشكل. يبدو العقد الأسفل أشبه بسلسلة تحوي في وسطها حجراً مستطيلاً، ويتكوّن العقد الأعلى من سلسلة من الأحجار اللؤلؤية المتراصة. حول معصم الذراع اليسرى، يلتفّ سوار عريض، يجاوره خاتم يظهر في الإصبع الخامسة المعروفة بالخُنصر. يماثل الوجه في تكوينه وجه المنحوتة التي خرجت من مقبرة المقشع. الوجنتان مكتنزتان. العينان لوزتان ضخمتان مجردتان من البؤبؤين. الأنف كتلة مستطيلة ومستقيمة. والثغر منمنم مع شق بسيط في الوسط.

يحضر هذا النموذج المميز بشكل مغاير في قطعة أخرى من مقبرة الشاخورة، عُرضت كذلك في موسكو، وهي تمثال جنائزي منمنم على شكل لوح جيري، يمثّل سيدة أنيقة يعلو رأسها أكليل عريض يتكون من سلسلة من المكعبات المتوازية. ترخي هذه السيدة ذراعها اليمنى على وركها المنحني بشكل طفيف، وترفع ذراعها اليسرى نحو وسط صدرها، كاشفة عن سوار يلتف حول معصمها.

أُنجزت هذه القطعة على الأرجح في القرن الميلادي الأول، وأُنجز شاهد قبر المقشع وشاهد قبر الشاخورة في مرحلة لاحقة، بين القرن الثاني والقرن الثالث. وتشكل هذه النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان، جامعاً بين تقاليد متعدّدة في قالب محلّي خاص.